مجلة الرسالة/العدد 479/القصص
مجلة الرسالة/العدد 479/القصص
الشيخ الأعزب
للأديب لبيب السعيد
في صدر أيامه لم يطاوعه طموحه على الزواج من ابنة عمه؛ بداله يومئذ أنه خليق بالفرار من بيئته إلى بيئة أعلى وأقدر.
ولما قيل له: بنت فلان أشهر تاجر في الحي مهذبة وجميلة، رأى أن آماله أسمى أيضاً من هذه البنت وأبيها، ورأى قدْرته أجدرَ أن تُنيله نسباً أجلً. . .
وأحس أن آمال كثيرات من صبايا الحيّ وذويهنّ تترامى إليه، لأنه موظف في الحكومة بخمسة عشر جنيهاً، والموظفون الماثلون من أبناء الحيّ آحاد، فزهاه ذلك وسره، ولكنه ظل على طموحه وعلى اعتقاده في إمكان إحراز زوجة غنية جداً من أسرة بارزة جدّاً، يتسامى بها في الوظيفة، ويواري في غناها فقره، ويجبر بجاه أبيها وذويها صدعة. . .
كان يأمل في زواج الغنية ذات الجاه دنيا سعيدة: دنيا خالها يرف عليها الروح والريحان، وتنتشر على مدارجها الزهور الضواحك
ومضت من عمره أربعون سنة. . .
وعرف عندئذ الهدف الذي ينبغي له - فيما يعتقد - الرمي إليه. . . عرف (حنيفة) بنت (أمجد باشا)، فعرف فتنةً ضلْ في تيهها فكرة. . . لقد رأى زواجه منها معراجاً إلى كل الغنى والشرف، وحلم سريعاً في قهر أعدائه من الأقارب وزملاء الديوان، ومواجهتهم بأنسباء يشرّفون، وأستحضر في خاطره ما سيلقي من سعادة حين يذكر اسمه إلى جانب اسم (أمجد باشا) وود من كل قلبه لم تمت الخِطبة حالاً، ونُشر اسمه واسم الباشا معاً ولو في إعلان وفاة!
وترقرق في صدره الأمل، فأذاع بالأمر لبعض خاصّته، وشاع لوضوعه ذكر.
ولكن (أمجد باشا) استمهل معتذراً، ثم ماطله غير مكترث، ثم ترامى عنه أنه يأبى هذا الزواج، لأن (أميناً) ليس من طبقته، ولأنه لم يستوف طَلِبَةَ فتاته من الغنى والمنزلة والوسامة.
وصدم هذا الفرض (أميناً)، ولكنه رأى أن لا بد من عدم التخاذل، وعزم ليستأسرن من أيَّ معقل مَن تعادل (حنيفة) نشباً ونسباً. ولكن - واخيبتاه - إن سنة الصاعدة، وراتبه المتواضع خيَّبا مطمحه وأعجزاه عن منيته
واليوم - وما أسرع كرّ الغداة ومرَّ العشى! - ذرَّف أمين على الخامسة والخمسين، فهو يطامن كثيراً من جماح آماله، ويتطلع راضياً إلى الأسر التي على شاكلته، ولكن مرضه الظاهر يصرف عنه النظر، وهو يعْدُ غادٍ قريباً على أمر شديد كريه: المعاش!
كل شيء يشعر أميناً أن الأيام تقف به على ثنية الوداع، ولكنه مع ذلك متشبث بالأمل. . . إنه ينشد زوجة تخلص له الحبَّ، وتأسو الجراحات، وإنَّ طيف هذه الزوجة المجهولة ليراوحه ويغاديه! لقد نهل في سني عمره الذاهب من كل شيء ولكنه يشكو الأوامٍ. . . فهو يريد لقلبه الكسير قلباً يروَى من رحمته؛ يريد مثابة ينفض لديها شكاياته ونجواه؛ يريد لنفسه المعنَّاة تسليةً وتأسيةً وولاءً. . . إن به حنيناً مبرَّحاً إلى جناح يكنفه في شيخوخته، ولكنَّ الحقيقة الممضة: حقيقةَ صحته التي تحيفَّ منها السنُّ والمرض، حقيقة معاشه المحدود الذي لا يكفل العيش الرافع لعروس تساق إلى شيخ، وطفل سيغشاه اليتم في مطالع حياته. هذه الحقيقة كانت تدفع ذلك الطيف في عنف، وتؤكد لأمين أن أمانيه فوق ما يجوز له تمنيه، وأنه يحاول العَدْوَ وراء فائتٍ ليس يُلْحق
ويرى (أمين) رجلاً وزوجته يسيران في طريق، أو يجلسان في طنف، فيغبط الرجلَ على نعمة الشريكة، ويبديء يُعيد فيما تريق الأليفة لأليفها من العطف، وتبذله من العون، وتطعمه من الحنان. . . ويسبح في خيالات ما لها قَرَار. . .
ويدعي (أمين) إلى حفلات الزواج، فتهفو مناظرها بروحه إلى الزوجة، وتصيب كلمات المأذون في فضل الزواج الوتر الأرنَّ من قلبه، وتطلق عاطفة الأبوة الحبيسة، وتزيده شعوراً بالوحشة
ويسائل (أمين) نفسه: أَلَمْ يأن لي أن أقعد هذا المقعد الحبيب: مقعد (عريس) من والد عروس، وأن أقوَل وأسمع هذه الصيغة العذبة: صيغة القرآن؟ أمات الأمل في أن يتجه إلى يوماً جمع من هذه الجموع بتلك العبارة العذبة: (مبروك، مبروك، يا عريس)؟
وينثني أمين وطرفه غارق في الدمع
ويزور أمين صديقاً مريضاً فيغبطه - مع ما يشاهد من كربات المرض - أشد الغبطة، لأنه يرى زوجته تحدب عليه، وتحتمل مشقة تمريضه، ولأنه رأى صبياً يافعاً يقود الطبيب إلى المنزل، ويجري إلى الصيدلية محزوناً، ويرى طفلاً مبغوم الكلام يخطر لا هياً أمام سرير أبيه المريض، فتأنس به نفس الأب وتُشْرق
هذه البسمات التي يراها في ثغور الأطفال لا بد أنها تنير لآبائهم سبل الحياة وتكشف عنهم غواشي اليأس! ليت له مثلها في دنياه التي لا شية فيها من النور!
ويرى أمين الآباء أشقياء مُملقين من كثرة الإنفاق على بنيهم، فيتمنى من كل قلبه لو شقي شقاءهم وأملق إملاقهم. إنه يؤمن بأن الآباء هم كل السعادة وهم كل الغنى، وأن في كلمة (بابا) وحدها كنوزاً يهون في سبيلها كل عزيز!
ويسائل نفسه أيضاً: هذا الكدَّ الذي أبذل، ما جناه؟ فينثني مسلوب اللَّبَّ حين تجيبه: لا شيء! وغداً تموت، ولكن لا كميتة الناس، فهم يَحْيَوْن في بنيهم، وأنت ستموت كأقسى وأوفى ما تعني اللّغة بلفظة الموت
بمن يتأسّى في أشجانه؟ الظاهر والبؤس فيما حوله هم كتبة الدرجة الثامنة والخارجون عن الهيئة وخدم المطعم ونُدُل القهوة، ولكنه أشقى من هؤلاء جميعاً. إنهم سَيحْيَوْن بعد مماتهم. . . وإن الفرد منهم ليجد آخر اليوم قسيمة لحياته، يطرح لديها أثقاله. فأما هو - فباويح له - محرومٌ يبثَّ شكاته جدراناً لا تسمع، وينشد الحنان والألفة هنا وهناك فلا يجد غير قسوة الحياة وظمأ الروح وشقوة الضمير
ما أشد عوزه إلى يد رقيقة يمسها وتمسه!! في صدر (أمين) فيوض من الحنان تريد الانسياب فليت له من يتلقاها! ألا قلوب تنبض مع قلبه نبضات واحدة بشعور واحد!؟
ويعالج (أمين) مع ذلك كله البسمات، ويتكلف جاهداً المظهر الشاب، ويحاول أن يدفع عنه الوهن، ولكن البسمات أماتها الزمان، والمظهر الشاب غطى عليه الجهد الثقيل والعمر اليأَس؛ والوهنَ. . . أحتلَّ بَدَنَ أمين في غير اكتراث!
حدثني عن (أمين) معارفه القدماء، فجلوا لي كثيراً من ماضيه. وكنت وإياه أخيراً منتدبين في الإسكندرية، وكنا في فندق واحد، فخلا إلى ذات مساء، وأفضي إلى بكل قصته. كان يتحدث بلهجة مذنب يريد أن يثأر لضميره من نفسه. . . وكان كطفل بيّن السذاجة لا يعمى على سامعه شيئاً من وصف مشاعره وسرائره؛ وكان يسرق الدمع حياءً؛ وكانت له زفرات وجيعة.
وأخرج فجأة من جيبه صورتين، فأطلعني عليهما. كانت إحداهما لفتاة رائعة الجمال، وكانت الأخرى لطفلين كلهما عذوبة. وسألته مستغرباً وأنا أرى من نظراته أنه جدَّ حفيٍ بأصحاب هاتين الصورتين: ما شأن هؤلاء؟ فأجاب، والبراءة في وجهه: (اخترت صورهم من محل بيع الصور. . . أعجبوني. . . أنظر. . . ما أحسن هذه زوجة تجمل بها الحياة! وما أحسن هذين ولدين ينضران العيش!)
أوجع أمين قلبي تلك الليلة!
وانقطع عن التردد علىَّ وعلى زملائنا أمسيتين على غير عادة، وسألناه في الصباح عن السبب، فأجاب في اختصار: أمر خاص
واستحينا أن نستجليه هذا الأمر فسكتنا
وأتى صبي إلى الفندق في الأمسية التالية يسأل عن الأستاذ (أمين) المقيم بالحجرة رقم 8، وكنا نحن زملاء أمين في بهرة الفندق جالسين نسمر، فسألنا: لم؟ فقال: لأعطيه صورة عائلته، فهو يتعجلها. وعجبنا، فأمين حقيقة ينزل في الحجرة رقم 8، ولكنه لا عائلة له. وسأل أحدنا الغلام: أية عائلة؟ ربما كنت تقصد أميناً آخر. فقال الغلام وهو يناوله الصورة: أريد الأستاذ أمين المرسوم هنا. وضحك صاحبنا ضحكات تمتزج فيها السخرية بالدهشة، وقام يطلعنا جميعاً على الصورة، والجمع يضج بالضحك. ونظرت فيها فوجدت أميناً بعينه، وقد جمع الرسام بينه وبين الصور التي سبق أن أبدى لي إعجابه بها: صورة الفتاة الرائعة الجمال التي يستحسنها زوجة، والطفلين العذبين اللذين يستحسنها ولدين. لقد أتخذ من هذه الصور المختارة أسرة طيبة يبدو هو فيها كأنه أب آمن السرب، له من أهله قرب وأنس، وله فيهم رجاء!
وأقبل أمين والصورة في أيدينا، فحاول الابتسام أولاً، ثم انطفأ وجهه مرة واحدة، ثم ارتمى في أقرب مقعد يبكى وينشج.
(المنصورة)
لبيب السعيد