انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 475/شجون ودروس. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 475/شجون ودروس. . .

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 08 - 1942



للأستاذ إسماعيل حمدي

في مطلع العدد 471 من (الرسالة) العزيزة، وفي (شجون) قريعها الدَّارع الدكتور زكي مبارك، درس قيَّم تفضل به على من كتب في (اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث) وأحب الدكتور أن يكون في هذا الدرس على إيجازه بلاغ لمن يتورط في الكتابة والنشر وهو مفتقر إلى محض سلامة النظر، فضلاً عن قوتها وحدتها واستوائها جميعاً

والدكتور رغم كفاية الفطنة والخبرة لديه من طول (ما ابتلى بزمانه وأهل زمانه) لا يزال - بمعجزةٍ ما - يطمع في أن يعترف متورطٌ بتورطه، أو يتعلم مخطئ من خطئه، وخاصة في هذه الديار!

لا يا سيدي، عد إلى آلاف العقائد التي لا تستطيع أن تحصيها. . . آلاف العقائد التي كونتها ولا ريب عن الناس منذ احتككت بهم، وعالجت من حقهم وباطلهم، ورشدهم وسفههم، فأنت واجد فيها ما يردك إلى اليأس المطلق من هذا الطمع الذي طمعت، إلا إذا ضربت بلا رحمة، وانهالت ضرباتك على المقاتل فوجد صريعك مسَّ الأذى وفرط الألم، وبات بين فرار الهارب وصراخ التائب، وأيهما اختار فحسبْنا لتستأنف القافلة المسير، ويبلغ الكتاب أجَلَه

نعم. فما ينبغي أن نتسلَّى بالاقتراح على أحد أن ينحني على منطقة فيضع شيئاً مكان شيء، ويتخير مادة دون مادة؛ فحسب الطفل لكي يمتلئ رأسه الضئيل بالعناد أن نقترح عليه تغيير اللعبة التي في يده؛ فإن ذلك أحرى أن يزيده تشبثاً بها وتوهماً فيها، وشروداً في أخيلته حولها

ولا نودُّ المضي إلى بعيد في العتب على الدكتور، فقد يجد الناظر إلى درسه الموجز ما يشغله بشئون أخر:

ذلك أنه يرى التودُّد إلى الجماهير تهمة ظالمة يبرأ منها كرام الرجال الذين كتبوا في الإسلام ونبيه، ويستظهر لبراءتهم بما في الدراسات الفذة التي قدموها من روح يضطرم بالشعور والذوق والإيمان وسائر الذخائر التي لم يألف تجار (الزُّيوف) أن يتعاملوا بها مع (الجمهور) إن في إحساس الدكتور بضرورة التبرئة لأولئك الأساتذة الكرام هفوة أخرى - ويبدو أنني رجعت إلى عتابه - إذ كان إحساسه هذا ينطوي بداهة على التسليم بأن التودد إلى الجماهير تهمة! وما يتفاقم الغرور عند الصغير بأكثر من أن يكتشف في منطق الكبير نحواً من الموافقة على بعض أوهامه، ولن يتواضع هذا الغرور بعد ذلك حين يفزع الدكتور إلى واجب التبرئة لزملائه وفاء لهم وللحق العظيم في دينه وتراث قومه

ولسنا ندري لم يكون التودد إلى الجماهير - إذا افترضنا وقوعه - تهمة تثير الأنفة، وتحرَّض على المقاومة، إلا أن يكون هذا خوفاً في موطن الأمن، وخجلاً في مقام الزهو، لا يجملان بالقلب الكبير والجبين الفخور!

سوف لا نحاكم الدكتور إلى غير (شجونه) في نفس العدد من (الرسالة)، فليقرأ في آخرها هذه الكلمات من نشيده في حب وطنه: (ولو عانت كبار الشعوب ما عانيت لشالت كفتها في ميزان التاريخ، فكيف استطعت أنت برغم ما عانيت مصدر العقل في الشرق، وأن تهتدي ينورك في اللغة والدين مئات الملايين؟. . . لن تراني إلا حيث تحب، ولن يراني أعداؤك إلا حيث يكرهون، ولو زعموا أنهم في طهر ملائكة السماء). ما معنى هذا؟ معناه أنها وقفة شريفة لابن شريف بين يدي شعبه الذي لا يزال يقود شطراً ضخماً من العالم في اللغة والدين، والفكر، وطراز الحياة جملة؛ فهو يعلن العصبية في زمن العصبية الآكلة، ويجدد البيعة في زمن الإخاء في السلاح أن يكون لقومه قرة أعين، ولأعدائهم هولة حلم، ثم ماذا؟ ثم معناه أن الضلال القديم الذي طالما اغتال عقولاً في هذه البلاد فذهبت تفتري في الأدب مذاهب، وترتجل في الفكر طرائق، مهما نبا ذلك عن روح الشعب الحقيقية، ومهما تمزقت بذلك روابطنا بمن يحبوننا، ويصطفُّون من حولنا، من الأمة العربية الكبرى، والكتلة المسلمة العظمى؛ هذا الضلال ينبغي أن تنقشع بقاياه توَّا والى غير رجعه، ومن شاء أن يقول، ومن يشاء أن يفكر، ومن شاء أن يعمل فليأخذ مكانه الطبيعي تحت هذه الراية والسلام عليه ورحمة الله وبركاته؛ وإلا فهو خائن يطوَّق بعاره، ومجرم يشار إلى سيماه، وعدو لا نسلم عليه تسليماً، وإنما نثأر منه ثأراً وندسه في التراب، وننفض من غباره الأيدي

كأنَّ الدكتور يخطبنا هذه الخطبة تماماً حين هتف بذلك المقطع الذي نقلناه من نشيده، فكيف إذن نقبل منه التسليم بأن في التودد إلى الشعب ما يزرى، وهو لا يرى إلا أن يكون رجل الفكر والأدب (رجل الشعب) أولاً: في رأسه من خواطره، وفي صدره من عقائده، وفي ضميره من أشواقه. . .

فإذا كانت أشواق هذا الشعب الروحية والثقافية والاجتماعية ظاهرة ظهوراً صارخاً، بحيث لا تخطئها إلا العين المغلقة، ولا يمر بها ظرف أو مناسبة مواتية، إلا أثبتت بظهورها ذاك أنها ليست موجودة ومعروفة فحسب، بل وأصلية ونامية معاً، لأنها تنفجر من تاريخ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، بملء ما في هذا التاريخ من أقدارٍ كبيرة، وأطوار عميقة، لم تكن قط خرافة يزيَّفها لفظ، ولا سامراً يفضَّه صوت، ولأنها تدور مع الدم في أجساد الملايين الذين تضرب ظلالهم شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، على قارتين، وثلاثة بحار، وعديد من الأنهار، وتقع جباههم منذ هذا العمر المبارك على تلك الربوع والبطاح العريضة، ساجدة لله في كل يوم خمس مرات. . . نعم، وإذا كانت هذه الأشواق هي التي تملي قواعدها الخاصة لنهضة هذا الشعب بنفسه وبالصفوف الرائعة المتراصة من حوله، وهي التي تعيّن الأفق الذي يترامي إليه نظر الشعب قويَّ التحديق، شديد الحماليق. . . إذا كان ذلك كله كما نحس، وكما لا نشك، فما بد من أن يصطلي كل أديب، وكل مفكر، وكل منتج، بقبس من تلك الأشواق الحارة الخالدة. فهذا القبس وحده هو الذي يمده بالصواب في تصوره لنوع النهضة المنتظرة والمحتومة معاً، ويمده بالقدرة على المشاركة الفذة في إقامة الصرح وتأثيله، وبدونه لا يكون إلا متعسفاً حائراً، لا يبرح في حيرة وتعسف، يدور حول نفسه، ويكذب أبداً على نفسه، حتى تكبّه عثرة، أو تلقفه هاوية، وبدونه لا يكون نسبة في أدباء الشعب ودعواه العمل باسم الشعب، وعيشه على مرافق الشعب، إلا تزويراً ونفاقاً وسرقة، وما لا تُعِدُّه اللغة للتشريف، ولكن للسباب

ثم ما هو الأدب؟ أليس هو: كالعلم، والفن، وكالاقتصاد نفسه، قوة من القوى المختلفة في الحياة العامة، ينبغي أن تهدف كلها صوب غايات الشعب العليا؛ وفي خلال سيرها تلقاء هذه الغايات، ينبغي أن تستفتي حاجاته الحقيقية، وتستعين بأحلامه الروحية على ضمان النجاح، وسرعته أيضاً؟

هذا الذي نقرره من بدائة كل إصلاح وكل نهضة، وليس من فنهما المعقد، ولا من كهانتهما الغامضة، حتى يكون ثم موضع للجدل أو الحذلقة

فمن يحاول عزل (الأدب) عن كافة القوى الأخرى المتضامنة في الحياة العامة، ويشككه في واجب تضامنه مع تلك القوى، وارتكازه أبداً إلى ضمائر الشعب وأحلامه القدسية، ويزعم أن في عودة الأدباء بقلوبهم الشريدة إلى وطنها المأنوس بين قلوب قومهم بعد طول انتظار للوفاء والبرد والنبل ما يثير شهوة الفضول والعجب الأبله، لا يفهم الأدب إلا فهماً بوهيمياً، ولا ينتج فيه إلا ضرباً من الكلام ينهمك فيه الطابع، والمصحح والناشر، والناقد، ليعالج به أخيراً ملل تافه. . .!

إن هذا الذي كتب في اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث لا نتهمه بالمغالطة حين زعم ثانية أن تأريخ عصر النبوة رجعية، إذ كانت المغالطة مطوية على ذكاء وفهم في الواقع وإن لم يكن ذكاء شريفاً، وإنما نتهمه بالغلط الذي لا يرادف التجاهل ولكن يرادف لفظاً آخر. ما معنى الرجعية؟ أليست هي الانتكاس والتقهقر، وإيثار الأدنى على الأعلى؟ فأي سمو وقع دونه الرجال الذين يؤرخون عصر النبوة؟ وأية فكرة أو حقيقة تكشفها دراسة هذا العصر تنحط مرتبة عما تكشفه دراساتهم الأخرى في موضوعات أخرى؟ وأي شر تبتلي به حياتنا العقلية - ودع عنك حياتنا الوجدانية التي هي محور كل عمل أدبي - إذا أضيفت هذه الدراسة إلى سائر الدراسات التي استبدت بأقلام الكتاب منذ كانت لهم أقلام؟ ألا تجد عقولنا فيها من عافية الفكر وأريحيته ما يتلمسه الضمير الإنساني في كل ثقافة كائنة ما كانت ليصح به ويترعرع ويزكو؟!

هذه أسئلة لا تطلب جوابها من أحد، ولا تستجديه، فهو ملء كل نفس تفهم (الأدب) ولا نزري بقدره. لا، بل إنه إذا كان كل شيء في الحياة يتشكل ويتطور، لكي لا ينبو عن طبيعة جوه، ومقتضيات بيئته، فما بد من أن يتحدث الأدب في كل عهد بلغته، ويتوخى من هذه اللغة ما يشوق الأذن الماثلة، ويجاوب الحنين الساري، ويجعل البعث المرتقب، ونحن نعيش في حقبة من تاريخنا لا يصلح لها إلا هذا، فلو اشتغل الأدب بما يبعد كثيراً أو قليلاً عن هذا النهج لكان ملتوياً على روح الشعب، جامداً عن مجاوبته، وتلبية حاجته، ومثله في هذه الحالة - وفي المنطق البوهيمي - كمثل اللحن الناعم النائم تعزفه لجنديّ راحل إلى الجبهة!. . .

فأي غلط بعد غلط يتعفن به منطق فرح به صاحبه فرحاً مضحكاً وهو يناقش (العقاد) في بعض ما كتب! نعم لقد كان يبدو في سياق فرحه ذاك أن منطقه لا يثقبه الرصاص نفسه!

كم اشتغل المستشرقون بتأريخ عصر النبوة، وهذه حقيقة معروفة نود أن نوجه إلى منطق صاحبنا سؤالاً خاصاً بها، وهو سؤال أخير نضيفه إلى تلك الأسئلة المخيفة التي وجهها إليه الدكتور في خلال درسه القيم، والتي تتضمنها هذه الفقرة بالذات: (لم يقل أحد إن هيكل كان رجعياً حين ترجم لجان جاك روسّو، ولم يقل أحد إن العقاد كان رجعياً حين ترجم لابن الرومي، ولا قال قائل برجعية طه حسين حين ترجم لأبي العلاء، ولكن الرجعيات أصابت هؤلاء الأساتذة حين شغلوا أنفسهم بتاريخ عصر النبوة!! لأنه مصدر من المصادر الدينية الخ) أإذا اشتغل المستشرقون بهذا الموضوع ومثله؛ وكتب فيه كتاب أوروبيون - وكم حدث ويحدث - يكون ذلك أيضاً (رجعية) و (تودداً للجمهور المصري)؟! أم ينعت ذلك عند صاحبنا ومنطقه العتيد بالفحولة العقلية، والثقافة الإنسانية، وما إليهما من النعوت التي تكبر على الرجعية، أو الرياء أو اللغو الذي تكرمنا عن مناقشته والذي سماه إيمان المقترب من اليوم الآخر؟!

ندع الآن المنطق العتيد يحصى قائمة الخسائر التي نزلت به، ونحن - فينفس الوقت - على استعداد لكي نضيف إلى هذه القائمة أرقاماً أخرى، نقول له ذلك قبل أن يتعجل فينشر مقالاً أو بعبارة أخرى - بلاغاً يزعم فيه أن الخسائر طفيفة!!

وبعد، فلم يفرغ درس الدكتور من نواح أخرى ذات بال، فحسبنا ذلك اليوم، وإلى فرصة قريبة.

(الأقصر)

إسماعيل حمدي