انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 475/شبان اليوم الجديد في مصر المحروسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 475/شبان اليوم الجديد في مصر المحروسة

مجلة الرسالة - العدد 475 المؤلف زكي مبارك
شبان اليوم الجديد في مصر المحروسة
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 08 - 1942


للدكتور زكي مبارك

من عادة المربين والمصلحين أن يكثروا من اللوم والتثريب على أبناء الجيل الجديد، ليصوروا عيوبهم تصويراً يخوفهم عواقب التهاون والتفريط في حقوق الأدب والأخلاق

وتلك وسيلة صحيحة من وسائل التهذيب ورثناها عن الأسلاف، ولا بأس بالاعتماد عليها من حين إلى حين، إذا سلكنا في الدعوة إلى الأدب والأخلاق مسلك الترهيب، وهو مسلك مطروق منذ أجيال طوال

ولكن التجارب علمتني أن الترغيب أنفع من الترهيب، ومن تلك التجارب عرفت أن التنبيه إلى القوى الغافية في صدور الشبان قد يدلهم على حقائق أنفسهم فينقلهم من حال إلى أحوال

والحق أن الشاب المصري خلق ليكون رجلاً عظيماً، ومهما أسرفنا في سوء الظن بشبان مصر، فمن المؤكد أنهم بالإضافة إلى أمثالهم في الشرق والغرب أفضل وأشرف، ومن النادر أن تجد شاباً مصرياً بلا آمال تضيفه إلى أكابر الرجال، ولذلك شواهد يعرفها من يتصل بشبان (مصر) عن طريق الصحافة أو التأليف أو التدريس

الشاب المصري يبحث في كل لحظة عمن يدله إلى طريق المجد، ولو نشرت الصحف إعلاناً عن كتابين يختص أحدهما بوصف حياة الهزل والمجانة، ويختص ثانيهما بوصف حياة الجد والرصانة، لكان الكتاب الثاني هو الكتاب المنشود، لأن شبان هذه البلاد مفطورون على احترام الأدب السليم من شوائب الأمراض

وآية ذلك أن الذاتية الأدبية تجد أنصاراً من الشبان في كل وقت، وهم يتحمسون لها تحمساً لا يخطر في البال، وقد يتسامعون بمقالة جيدة، فيجدون في البحث عنها جداً يشهد بأنهم من أكابر أهل الأذواق والعقول

أكتب هذا وقد فاضت عيناي بالدمع حين تلقيت خطابات كريمة تصور فرح الشبان بالحديث عن أمجاد مصر المحروسة في القديم والحديث، وهم شبان كان التاريخ المغرض حدثهم أن مجد مصر ليس إلا أسطورة من أساطير الأولين

وآه ثم آه من التزوير في التاريخ!! يا بني الأعزاء، تذكروا - غير مأمورين - ثم تذكروا. . .

ومن حبات دمعي أنظم عقد الحديث فأقول:

في جميع الكنائس بالشرق والغرب تجدون صورة (العذراء) تحتضن (المسيح) وهو صبي في المهد، فهل تعرفون كيف عللت تلك الصورة الرمزية؟

عللتها منذ أعوام بأنها تصوير لحنان الأمومة الرقيقة، وجاز عندي القول بأن النصارى من اليونان هم المبدعون لذلك الرمز الدقيق. وهل ينكر أحد فضل البراعة اليونانية على الديانة المسيحية؟

لا جدال في أن من ابتكر صورة المسيح تحتضنه العذراء كان أعظم مبتكر في تاريخ الأخلاق. ولا جدال في أن تلك الصورة كان لها تأثير عظيم في عطف الآباء على الأبناء. ولا جدال في أن تلك الصورة لم تعرف قبل ميلاد المسيح، وقبل أن تتصل مأساته بتاريخ اليونان والرومان، كما كنت أقول، وكما كان يجب أن سأقول، لو طال جهلي إلى آخر الزمان!

ولكن الله لطيف بعباده، أراد أن يطب لجهلي برفق ولطف، لأني طالب علم، وطالب العلم لا يخطئه التوفيق!

فكيف اهتديت بعد ضلال؟

رأيت صورة في الجزء الثاني من (التاريخ المصري القديم) لأخي وصديقي، وصاحب الفضل الأعظم على أدبي وبياني، عبد القادر حمزة باشا، وهي صورة تغافل عنها عامداً متعمداً، لانتفع بمغزاها بعد أن يموت، وكان يعرف أني لن أرثه إلا بالفكر والروح، وذلك أشرف المواريث

عبد القادر الوفي أراد أن يمنحني فرصة من فرص التحليق في سماء الفكر والخيال، فأثبت في الجزء الثاني من كتابه صورة أعفاها من التفسير والتأويل، عن علم لا عن جهل، لأقول فيها ما أشاء.

فما تلك الصورة الرمزية؟

هي صورة (إيزيس) وهي ترضع أبنها (حوديس)

وإذا عرفنا أن عبادة إيزيس كانت عقيدة اليونان والألمان والطليان والأسبان والفرنسيس والإنجليز أكثر من خمسة قرون أدركنا أن صورة (العذراء) وهي تحتضن (المسيح) ليست إلا صورة (إيزيس) وهي ترضع (حوريس)

وإذن؟

وإذن تكون مصر هي التي أبدعت فكرة الأمومة في الصور المسيحية. ثم؟

ثم تكون مصر صاحبة الفضل على ما أبدعت صور العذراء من فنون.

عبد القادر لم يلتفت إلى الصورة التي وضعها في الجزء الثاني من كتابه النفيس، لأن الموت صرفه عما يريد أن يقول، أو لأنه أراد أن يترك تفسير المراد من تلك الصورة لأحد أصدقائه الأعزاء

والنتيجة أنه لا توجد صورة للعذراء في شرق أو في غرب إلا وهي مستوحاة من صورة إيزيس وهي ترضع حوريس.

ألم أقل لكم إن مصر هي وطن المعاني؟

من كان يصدق أن مصر هي الوطن الأصيل للصورة التي يخضع لصولتها الفرنسيس والإنجليز والأسبان والطليان والألمان؟

لم يكفر أحد بأقبح مما كفر المصريون، ولم يؤمن أحد بأوثق مما آمن المصريون، لأن مصر هي غاية الغايات في التعصب للكفر والإيمان.

وهل كفرت مصر في أيامها الخوالي حتى نجعل الكفران طوراً من أطوارها في التاريخ؟

إن القول بتعدد الآلهة كان في إحدى مراحل الإنسانية صورة من صور الهداية، وهو لم يصدر عن عناد، وإنما صدر عن يقين، ولله حكمة عالية في تنشئة الإفهام على نظام تنشئة الأبدان. فهو يسمو بها رويداً رويداً بترفق وتلطف، إلى أن تقوى وتستحصد، ثم يتركها لتصارع وتجالد في ميادين الزيغ والارتياب.

وتاريخ مصر يشهد بأنها فطرت على إيثار الجد في تناول المعاني، فكانت في عصر الوثنية أعظم أمم الوثنية، وكانت في عهد النصرانية أول أمة أرخت بمصارع الشهداء، فلما هداها الله إلى الإسلام كانت الحافظة الواعية للأمجاد العربية والإسلامية، ولو قال قائل بأن مصر هي التي وقت العروبة والإسلام من تطاول الغرب وتخاذل الشرق لكان أصدق الصادقين.

اسألوا العلم قبل أن تسألوا التاريخ يحدثكم أن ضياء الشمس في مصر لا نظير له في أي أرض، حتى قيل أنه السبب الأول في كثرة أمراض العيون بهذه البلاد. واسألوا العلم أيضاً يحدثكم أن الخصب في أرض مصر يفعل بأهلها ما لا يفعل الجدب، لأن أبناءها يموتون بالبطنة، على حين يموت غيرهم بالجوع.

فما قولكم في أمة لا تعاني غير كثرة الزاد وقوة الضياء؟

أكتب هذه الفقرة من هذا المقال في منتصف الساعة الخامسة من صباح اليوم الثلاثين من يولية، بعد قضاء نحو ساعتين تحت أزيز الطيارات وضجيج المدافع، وكان القمر - القمر المصري - يغمر الليل بنور وهاج يسمح بنظم الخيط في الإبرة بلا عناء.

أنا لا أبالغ، فقد بدا لي أن أجرب ذلك في قمر هذه الليلة، ولم أفهم كيف تحرم وزارة الوقاية إضاءة المصابيح وقت الغارات في الليالي المقمرات، وهي تعلم أن اللئام المغيرين يهديهم القمر بأقوى مما تهديهم المصابيح؟

وهذا الطيران الذي يهدد مصر بوقاحة ونذالة وسفاهة هو نفسه والطيران المدين أثقل الدين لجو هذه البلاد.

هل نسيتم ما حدثتكم به على صفحات الرسالة قبل عامين؟ كنت حدثتكم أن الطائر المصري المسمى بالحدأة - وهو طير جارح لا ينجبه غير جو مصر، وإن وجد بقلة في بعض الديار الشامية - كنت حدثتكم أن الحدأة هي المعلم الأول لعلم الطيران، وبها استهدى (مويار) المسكين، الذي ظل على سرير الموت ثلاث أيام بإحدى الغرف السطحية في شارع الموسكي بالقاهرة، ولا أنيس لجسمه الميت غير أسراب من الحدأة تراوحه وتغاديه في حسرة والتياع، إلى أن تنبه لموته الجيران

في ليلتي هذه عانت (مصر الجديدة) من صراع الطيارات المغيرة والمدافعة ما عانت، مع أن مصر الجديدة هي الوطن لتمثال مويار، مويار الذي نقل عن (الحدأة المصرية) علم الطيران

فيا رب الأرباب، ما الذي بقى مما طويت عن أوربا من أعاصير الغدر والعقوق؟

إن الأمم الأوربية تحترم حياد الديار السويسرية، فهل تعرفون لأي سبب يحترم ذلك الحياد، في تلك البلاد؟ هل كانت سويسرا مهد موسى أو عيسى أو محمد؟ هل نشأ فيها بوذا أو كونفشيوس؟ هل كانت ملاذ آدم حين هبط الأرض؟

لا هذا ولا ذاك، وإنما يحترم زعماء أوربا حياد سويسرا لتكون تلك الديار خزائن أمينة لما يدخرون من نفائس الأموال، فهم يتضامنون تضامن الجشع لا تضامن الوفاء

فما ضرهم لو أعفوا مصر من صيال الطيارات، لأنها الوطن الذي أنجب علم الطيران؟

ما ضرهم لو تذكروا دين مصر في أعناقهم، وهي أول أمة وضعت التقويم الشمسي، فعلمت أمم الأرض مواعيد الزرع والحصاد؟

ما ضرهم لو تذكروا أن الفلاحين الذين سخروا لحفر قناة السويس ملئوا جيوب الأوربيين بالملايين والبلايين من قطع الذهب الفتان؟

ما ضرهم لو تذكروا أننا ما بغينا عليهم، وأن الفضل يرجع إلينا في نقد علومهم وآدابهم إلى أقطار الشرق؟

ما ضرهم لو تذكروا أن اليونان الذين علموهم لم يكونوا إلا تلاميذ المصريين؟ وما ضرهم لو تذكروا أنهم لم يفكروا في تخليد عظيم من عظمائهم إلا بوحي من علم قدماء المصريين؟

سويسرا تتمتع بالحياد الدائم، لأنها مستودع ذخائرهم وكنوزهم، أما مصر فليس لها في أذهانهم غير الصور التاريخية، والويل كل الويل لمن يكتفي بمجد التاريخ!

ولكن مصر، لو عقلوا، صاحبة الفضل على أبنائهم في العصر الحديث؛ فقد أغنت منهم الألوف وألوف الألوف، والضيم المخوف على مصر لن يعفي أولئك الأبناء، ولن تصاب مصر بأعنف مما يصابون، فليجرب الأوربيون حظهم في اضطهاد هذه البلاد، ليروا أن مآلهم إلى الخسران

هل تذكرون قصة (هيس) أحد زعماء الألمان؟

كان أول من فكر في الصلح بطريقة جدية فامتطى طيارته من أرض الألمان إلى أرض البريطان، ليتفاهم مع صديق له هناك، ثم شاء الحزم الإنجليزي أن يحتاط فأوثقه بالقيود لئلا يكون في دعوته من المحتالين

فكيف نشأت فكرة الصلح عند (هيس)؟

تلك فكرة نقلها عن الروح المصري، وقد ولد في مصر، ونشأ في مصر، محوطاً بالرعاية من جيرانه المسلمين، ولعله حفظ الآية التي تقول: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) فكان من أخباره في الاصطدام بالأثرة الأوربية ما كان. وسنعرف جلية هذا الخبر بعد زمن قصير أو طويل؛ ولكن المؤكد أن نشأة هيس في مصر التي فرضت عليه الشوق إلى الصفاء

أما بعد فأين أنا مما أريد أن أقول؟

هذا مقال غيرت عنوانه مرتين، فقد كتبت شطره الأول في صدر الليل، وكتبت شطره الثاني حين كانت (نجمة الفجر) توهمني أنها مصباح أرسلته الطائرات المغيرة لاستكشاف ضمير العداء

وكان لي مع نجمة الفجر تاريخ سجله (الموال) المعروف:

يا نجمة الفجر طُلِّي وارجعي روحي ... وسلِّمي لي على اللِّي عندهم روحي

كنت أراعي نجمة الفجر بسبب الحب، فصرت أراعيها بسبب الحرب، وإن شقائي ليتمرد كلما تذكرت أن موقفي موقف المشاهدين لا موقف المحاربين

ليس في نيتي أن أمحو حرفاً من هذا المقال، لأني لا أريد أن ارجع إليه بالتغيير والتبديل، فكيف كان البدء حتى ينسجم مع الختام؟

لعلني قلت إن صورة إيزيس وهي ترضع حوريس هي التي أوحت صورة العذراء وهي تحتضن المسيح. ولعلني قلت إن مصر وجهت العالم كله إلى فنون من معاني العظمة والخلود. ولعلني قلت إنها هدت بني آدم إلى فكرة الطيران في سماء الواقع بعد أن هدتهم إلى الطيران في سماء الخيال

وطني!

أنت كما أعرف، وفوق ما أعرف، ولو أن الله لم يبدع خلقاً سواك لكنت وحدك الآية الباقية على أنه الخلاق الوهاب

وطني!

في سبيل الظفر بآلائك ولألائك سهرت عيون وشقيت عقول، فكيف أمن عليك بليلة لم يكن فيها سهد عيني وجهد عقلي، إلا هتافاً بمجدك في حاضرك وماضيك، يا آية الله في هذا الوجود وطني!

أنا أسبح لله الذي أنشأك على خير مثال، فكانت فيك الخصائص الأصيلة لجميع الأوطان، من أنهار وبحار وصحراوات ومن آلام وأمال

وطني!

قال العلماء إنك اختصصت بالسمك المدرع بالكهرباء، فهل يقولون أيضاً إنك اختصصت بالقلب المدرع بالوفاء

زكي مبارك