انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 470/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 470/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 07 - 1942


للدكتور زكي مبارك

أزمة المجلات الأدبية - خطر العلانية على الأدب الصحيح -

أين الأمة العربية - خطاب جميل - الجيش المرابط في

الميادين الفكرية

أزمة المجلات الأدبية

إنشاء مجلة في مصر أو في غير مصر عمل لا يعرفه إلا من يعانيه، وتزيد متاعب هذا العمل إذا أريد أن تكون المجلة مقصورة على الأدب الصِّرف، بحيث لا تكون لها موارد غير عواطف القراء، والقارئ لا يدفع قرشاً في مجلة أدبية إلا إذا وثق بأنه من الغانمين، ولا تظفر المجلة بثقة القارئ إلا بعد جهود تفر من حملها الجبال

وقد كنت فيما سلف من الأيام أثني على حصافة الأستاذ الزيات، كنت أقول إن العقل هداه إلى أن الضمير المصري لا بدَّ له من مجلة لا تهتم بغير الأدب الصِّرف، ولا تقبل مواجهة الجمهور بغير الفِكر المُشرِق في الأسلوب الجميل

ثم جدَّت شواهد أقنعتني بأن روح التضحية هو الأصل في إنشاء المجلة الأدبية، وإن كان الله عزّ شأنه تفضّل فجعل (الرسالة) مصدر خير لصديقنا الزيات، فقد قيل - ولله الحمد - إنها صيرته من الأغنياء بدليل سيطرته على بعض الشواطئ من (بحر شبين) وهو النهر الذي يسقي سنتريس!

فيا ساكني أكناف دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيبُ

يكون أُجاجاً دونكم فإذا انتهى ... إليكم تَلقَّى طيبكم فيطيبُ

ومع هذا فأنا أشعر بقيمة التضحية حين أكتفي بالكتابة في الشؤون الأدبية، ولتفصيل هذه اللمحة أذكر النكتة الآتية:

فلانٌ رجلٌ كريمٌ جدّاً، وهو حين يراني يطيب له أن يحييني فيقول: (لقد قرأت مقالك في مجلة الرسالة)

واكن هذا الرجل الكريم لا يُلقي هذه التحية إلا بلهجة المتصدِّق! فهل يكون الحال كذلك لو كنت أكتب في الشؤون السياسية وأستبيح إيذاء الناس بغير حساب، كما يصنع بعض الكتاب السياسيين؟

الصحافة الأدبية مسيَّرة بالضمير الأدبي، وهو يأبى على أصحابه أن يتزيدوا على الناس طاعة للأهواء، أو طاعة للأحزاب، فما خوف الناس منا ونحن لا نملك غير الصدق، ولا نصاول حين نصاول إلا في حدود الأدب والذوق؟

المجلة السياسية تصل إلى أيدي الوزراء قبل أن تصل إلى أيدي الجمهور، لأن الوزراء يحبون أن يعرفوا ما يقال فيهم بحق أو بغير حق، فهل تَلقي منهم المجلة الأدبية بعض هذا الاهتمام الطريف؟ وكيف وهُم من ظُلم المجلات الأدبية في أمان؟

ثم أثب إلى الغرض من هذه الكلمة فأقول:

أين معالي وزير التموين؟

لقد قرأت خطبته في الرد على الاستجواب المعروف، فرأيته تحدث عن جميع ضروب التموين، إلا الورق، ورق المجلات الأدبية، أما ورق الجرائد اليومية والمجلات السياسية فالمفهوم بداهةً أن الحكومة ستعرف ما تصنع إذا بخل به صنائع الجشع من الوراقين!

أنا لا أعرف وزير التموين معرفة شخصية حتى أحكم له أو عليه، ولكني أعرفه معرفة معنوية، وهذه المعرفة توجب أن أذكره بالواجب في رعاية أقوات العقول والإفهام والقلوب، فمن العقوق لمصر أن يقال إنها لم تُمتحن إلا بأزمة الرغيف، مع أن مصر أقدم أمة كان أكبر زادها العلم والأدب والبيان

أكتب هذا وأنا أخشى أن يقال بعد أسابيع: إن مجلة (الرسالة) عجزت عن الوصول إلى قُوتها من الورق. . . وأي قوت؟ ومن يعرف أن مجلة (الرسالة) لا تملك تزويد الأسواق الأدبية بما تحتاج إليه تلك الأسواق؟ من يعرف أن التضامن الصحفي أصبح في حكم العدم، وأن من العسير أن تقول أية مجلة: إن من حقها أن تعتمد على أريحية (نقيب الصحفيين)، وعنده فيما سمعت أكبر كمية من الورق المخزون؟

إن مجلة مثل (الرسالة) تقدم للجمهور شواغل نبيلة بالحديث عن العلوم والآداب والفنون، ولو التفتت الحكومة لأدركت أن انتشار مثل هذه المجلة يريحها كثيراً - أو قليلاً - من شيوع الأكاذيب والأراجيف، فهل من الإسراف أن نطالب الحكومة بإعانة أمثال هذه المجلة على الظفر بحاجتها من الورق، لتنهض الحجة على أن متاعب هذه الأيام لا تُنسي الحكومة واجبها في رعاية الأذواق والعقول؟

سأنظر كيف يجيب وزير التموين، إن تفضل بالجواب؟

خطر العلانية على الأدب الصحيح

من الآفات التي تعوق الأدب في هذا العصر أن الكتاب والشعراء لا يصبرون على طيّ ما يكتبون وما ينظمون، وإنما يبادرون إلى النشر في الجرائد والمجلات، ثم تكون النتيجة أن يُضطروا إلى مراعاة الجماهير في أكثر الشؤون، فيخلو أدبهم من الصراحة، ويغلب عليهم ما يُشبه الرياء من أمراض الكتمان

أهمَ المصاعب التي يعانيها الأدب أنه صار من الوسائل الشريفة لكسب الرزق الحلال، ومن الخير للأدب أنْ صار كذلك، ليعرف من لم يكن يعرف أن القلم نعمة من النعم السوابغ، وأنه خليقٌ بأن يفتح لحامليه كرائم الآفاق

ولكن من الشر للأدب أنْ صار كذلك، فقد أصبح أهله أسارى للمجتمع من قُرب أو من بُعد، وأصبح من المحتوم أن يراعوا طوائف من الرقباء، بغض النظر عن الرقيب الذي تفرضه أيام الحرب، لأنهٌ رقيب لطيف، لا يثور إلا في أندر الأحايين؛ وأنا بهذا الكلام أترضَّاه ليتغافل عني تغافل الكرماء قصَّر الله عُمر الحرب لأشفي غليلي من ذلك الرقيب اللطيف!!

الرقباء الحقيقيون هم القرَّاء، ومداراة القارئ مرضٌ قديم في الصحافة المصرية، وتلك المداراة هي علة العلل في جسم الأدب الحديث، ونحن نحارب هذه العلة بلا هوادة، ولكن في حدود يغلب فيها الترفق، ومعنى ذلك أننا شجعان جبناء، والعياذ بالذوق!

تلك الدنانير التي يجود بها الأدب على أصحابه ستَحرم الأدب أعظم صفاته من الصراحة والصدق، وقد تورثه عقابيل يعز منها الشفاء

وهنالك علةٌ أخطر وأفظع، هي علة الأديب الموظف: فالعُرف في الشرق لا يعترف بتعدد الشخصيات للرجل الواحد، ولا يسوغ في ذهن هذا العُرف البليد أن يكون للرجل شخصية حين يباشر عمله الرسمي في الديوان، وشخصيات حين يخلو إلى القلم، إن كان من رجال البيان

وأعجب العجب أن يرائي هذا العُرف نفسه بلا تأثّم ولا تحرّج، فهو يشتهي أن تكون في الدنيا أقلام تحدثه عن سرائره المطوية، وهو مع ذلك يكره أن يكون هذا الفضل من نصيب هذا الكاتب أو ذاك، وذلك عُرف الجمهور الذي نداريه كارهين، ولم يبق من البلايا إلا أن نتقي شر من نخدمهم بنزاهة وإخلاص. . . وعند الله، عند الله وحده الجزاء!

أقول هذا وقد مزَّقت خمسة أحاديث قبل هذا الحديث، فقد تحدثت فيها عن أشياء لا يجوز نشرها في هذا الوقت، وإن كانت في الصميم من دخائل النفس الإنسانية؛ فقد يقول عاقلٌ أو جاهل: إننا في أيام لا تتسع للحديث عن سرائر النفس كأن الضمير الأدبي يخضع لظرف الزمان وظرف المكان، وكأن العبقرية الروحية تعرف الرسوم والحدود، وكأن مخاطر الحرب ومتاعب البؤس ومصاعب التموين تصد الروح الظامئ عن هواه في ورود ينابيع الوجود

أبن الأمة العربية؟

عند الأمم الأوربية تقليد أدبية تستأهل التسجيل، فهنالك يؤمن الكاتب بأمته فيؤلف كتاباً في مئات أو ألوف من الصفحات ليُنشر بعد موته بأعوام طوال

فما معنى ذلك؟

معناه أن الكاتب يثق بأن الضمير الأدبي في بلاده سيعيش ويعيش إلى أن ينصفه من زمانه ولو بعد حين

ومعناه أن الكاتب يؤمن بالخلود

ومعناه أن الكاتب يشعر بنائرة الحقد بعد أن يموت

ومعناه أيضاً أن الكاتب يعرف كيف ينتقم وهو في غيابة الفناء، أو حصانة البقاء

فأين الأمة العربية لنودعها دفائن صدورنا منى أبناء هذا الزمان؟

وأين من يفتش في دفاترنا بعد الموت، ليرى ما سطرناه في أخلاق هذا الجيل؟

جهادنا في خدمة القلم أضيع من الضياع، ولولا الإيمان بأننا نؤدي خدمة قومية لقصفنا القلم بلا رحمة ولا إشفاق

وعند الله، عند الله وحده الجزاء

خطاب هو خطاب جميل، ولكنه ليس في جمال الخطابات التي أتلقاها من الشاعر أحمد العجمي، وإنما يرجع جمالة إلى أنه يؤكد نظرية أخلاقية يَكثُر كلامي عنها في هذه الأحاديث، وأنا لا أَملّ من نقد مسالك في معاملة الأصدقاء

هو إذن خطاب من صديق لا يعرف أدب الصديق مع الصديق، فقد شاء هواه أن يتوهم أن الصداقة تبيحه أن يخاطبني بما لا أحب، كأن الصداقة تعفيه من رعاية الذوق، وكأن المودّة تمنحه التحرر من قيود الآداب

إن في الناس من يتهمني بمحاباة أصدقائي، وإن فيهم من يقول إني أختلق الفرص لأتحدث عن أصدقائي بما يحبون في مقالاتي ومؤلفاتي، وأقول إن تلك التهمة صحيحة وإن هذا القول حق: فأنا أتحيّز لأصدقائي في السر والعلانية، وأحب من يحبهم، وأعادي من يعاديهم. وأنا أنكر على أهل هذا العصر أن يعيبوا تغضي الصديق عن عيوب الصديق، بحجة الحرص على سلامة المجتمع من العيوب

ومن يتعصب لأصدقائنا إذا لم نتعصب لهم؟ وإلى من يطمئنون إذا عرفوا أننا نتّعقب ما يجترحون من هفوات؟

أكتب هذا وقد تلقيت من أحد أصدقائي في بغداد خطاباً يعيب علىّ فيه أن أثبت في كتابَ (ملامح المجتمع العراقي) كلمة في الثناء على السيد عبد القادر الكيلاني، فهل يعرف ذلك الصديق لأيّ غرض أثبتّ تلك الكلمة الطيبة لوجه الله، ولوجه الحق؟

أثبتُّها لأني علمت أن السيد عبد القادر الكيلاني سيحاكم أما المحكمة العسكرية في بغداد، بعد زمن قصير أو طويل، والعراق الذي عرفته وعرفه التاريخ لاُ يصدر حكما إلا بعد سماع أقوال الشهود العدول، وأنا شاهدُ عدل في قضية هذا الرجل، ومن واجبي أن أسارع إلى كلمة الحق فيه، قبل أن يقف في ساحة القضاء. وكتمان الشهادة حيادُ يأباه قضاةُ بغداد

وأقول بصراحة إني كنت أخشى أن يُمنع كتاب (ملامح المجتمع العراقي) من دخول العراق، لأني تحدثت فيه عن رجال تغيّر فيهم رأي العراقيين، ثم ظهر أن العراق لا يرضيه أن يصادر كتاباً أملاه الصدق والإخلاص، وتنزه مؤلفه عن المداجاة والرياء

فهل أَتهم الصديق اللائم الظالم بأن نسبه إلى العراق يحتاج إلى برهان؟

أعزّ الله العراق، وحماه من جميع الأسواء الجيش المرابط في الميادين الفكرية

هو جيش الأدباء الصابرين على مكاره الحياة الأدبية، وهي حياةُ لا يصبر على مصاعبها الثقال، إلا من تقهره الفطرة على الأنس بالأدب في جميع الأحوال

وقد شهد التاريخ واعترف بأن الأمم لا يقام لها ميزان إلا يوم يثبت أن لها حظاً من الروحانية الفكرية والأدبية، لأن الفكر والأدب لا يكونان من أنصبة الشعوب، إلا بعد النضج المنشود في العقول والقلوب

فما بالُ قومٍ يزعمون أن اشتغال بعض المصريين بالشؤون الفكرية والأدبية في هذه الأيام دليلُ على أن مصر لا تشعر شعوراً صحيحاً بالمتاعب الدولية؟

هذا كلامُ قيل في بعض المجلات، وأضيفَ إليه أن فلاناً لا يعيش في زمانه، لأنه نسى أن الدنيا في حرب، فشغل نفسه بالحديث عن الفروق بين رجال الأدب ورجال القضاء

وأقول للمرة الأولى بعد الألف إن الأديب المفكر ليس أجيراً لزمانه، وليس أجيراً للوطن ولا للمجتمع، فمن توهَّم أن الأديب المفكر مسئول أمام قوة غير قوة الضمير فهو من أكابر الجاهلين!

نحن نخدم الوطن بأقلامنا خدمةً لا يعرفها المتحذلقون من عبيد الشواغل اليومية، تخدمه صادقين لا كاذبين، ولا ننتظر منه أي جزاء، لأن خدماتنا تجلّ عن الجزاء

وماذا يملك الوطن حتى يكافئ المجاهدين من أرباب الأقلام؟

أيمنحهم الألقاب؟ أيمنحهم الأموال؟

وأيّ لقبِ أفخم من لقب الأديب؟ وأي ثروةِ أعظم من روح الأديب؟

أستغفر الله، وأعتذر إلى الوطن الغالي

فجزاء الأديب من وطنه مضمونُ مضمون، لأن الوطن لا يتحدث بأفراحه وأتراحه إلا الأديب، ولا يجود بسرائره الروحية لغير الأديب، ولأن الوطن يأبى أن يكون أساته من طبقة غير طبقة الأوفياء من الأدباء

خدّام الوطن في غير ميدان الأدب يُجْزَون بالألقاب والأموال، لأن خدماتهم تحتاج إلى تشجيع من ألوان الجزاء، أما خّدام الوطن في ميدان الأدب فهم أعزّ وأشرف من أن تصدهم عن الواجب عوادي النكران والجحود وهل نخدم الوطن أو نحبه طائعين، حتى نمنّ عليه بالخدمة والحب؟

هيهات ثم هيهات!

إنما نحبّ مصر الغالية مأخوذين بسحرها الأّخاذ، ومفتونين بجمالها الفتّان وهل في الدنيا أكرم أو أجمل من مصر؟

إن مصر لم تبخل بالعيش على من يحارب الأدب والبيان، ولو شئت لقلت إن مصر تكرم أعداء الفكر والعقل تأسّياً بكرم الله، والكريم يُفِضل على الطفيليين بأغزر مما يفضل على المدعّوين

الدنيا في حرب، والقتال تدور رحاها حول الحدود المصرية، ومجلة الرسالة لا تجد قوتها من الورق إلا بشقّ النفس

وبالرغم من هذا وذاك فجذوة الفكر في اشتعال، وصوت مصر الأدبيّ في ارتفاع. والعاقبة للصابرين

الآن عرفتُك، يا وطني، عرفتُك

لا تستطيع الخطوب أن تُخرس بُلبلاً يغرّد في رياضك الّغناء، ولا يملك الدهر أن يُسكت صرير القلم في صحائفك البيضاء وطني

لو ظهرتْ أشراط الساعة، نذيراً بقيام القيامة، وخرست الألسنة وجفّت الأقلام، وشُغل المرء عن أخيه، وزوجته وبنيه، لرأيت من واجبي أن أرفع القلم لصوتك وقلمك، وأن أجعل آيتك في البيان خاتمة آيات الوجود

وطني

أنت أقدم وطن وأعظم وطن خطّ بالقلم، وسطّر مآسي الأرواح، ومصاير القلوب، فإليك اللأواء أهب سنان قلمي.

وطني

إن جهلت مَن أنا، فإني أعرف مَن أنت، والحياة صراعُ بين الجهل والعلم، واليأس والرجاء، وسأعرف كيف أجزيك على فنائي فيك

زكي مبارك