مجلة الرسالة/العدد 47/إنصاف المترجم
مجلة الرسالة/العدد 47/إنصاف المترجم
للدكتور محمد عوض محمد
أتى على المترجم حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. وقد طال هذا الحين وامتد، حتى كدنا نظن أن ليس لليله المدلهم من آخر. وإن من الناس لمن يظن أن المترجم ذو مكان تافه يسير، وأن سيبقى مكانه مدى الدهر تافهاً يسيراً.
ولقد طالما أصغى المترجم إلى هذه الإشارات والعبارات، التي تنزله من عالم الأدب والكتابة أصغر المنازل. فيلقاها حيناً بالامتعاض، وحيناً بالاستسلام؛ وقد بات في حيرة من أمر نفسه، فجعل يدعو نفسه أحياناً المترجم، وأحياناً المعرب، لعل في هذه ما يحسن من شأنه ومن حاله؛ ثم يتواضع أحياناً فيكتفي بأن يقول: نقله عن الفرنسية. . . فلان، ويوصى الطابعين بأن يكتبوا اسمه بحروف صغيرة ضئيلة. . . وليس هذا كله بمغن عنه شيئاً، فليس الزهو بنافعه، ولا التواضع بمانعه.
وبالرغم من أن حاله باعثة حقاً على الرثاء، مثيرة حقاً للدموع والبكاء،؛ فأنا قلما نجد له بين الورى منصفاً. كأنما أجمع الناس على ظلمه واضطهاده. وما كفاه السهر الطويل المضني، والانكباب على البحث والتنقيب عن الألفاظ والعبارات، وإجهاده الفكر في فهم ما لا يفهم. وإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه؛ حتى إذا ما أتيح له بعد لأي وعناء، وأن يخرج مترجمه إلى عالم الكتب، جعل يتقدم به إلى القراء، في حياء وتردد؛ كأنما ارتكب وزراً يريد أن يعتذر منه؛ ويسبق الناقدين إلى النقد فيقول لكل من يراه - بل ولكثير ممن لا يراه - إن الترجمة تشويه على كل حال!. . وهو يريد بهذا أن يستل سخيمة الناقدين، وأن ينتزع حمة العقرب أو على الأقل يهدئ من ثورتها. وشأنه في ذلك كشأن الطبيب الذي يطعمنا للجدري، فيعطينا المرض في شكل صغير لكي يدرأ عنا الخطر الكبير. .
لكن هذه الحيلة لا تجديه نفعاً؛ وهذا الاعتراف ليس بمنجيه من العذاب. فلا يلبث الناقدون أن يتناولوا المترجم بالتأنيب والتجريح، وترجمته بالتنكيل والتعذيب؛ ويمطرونه النقد المرير أينما ذهب، وحيثما نزل؛ في مجالس الأدب وفي غير مجالس الأدب؛ وفي الصحف السيارة وغير السيارة؛ ومن النقد ما يلقى إليه مشافهة، ومنه ما يلقى إليه كتابة.
هذا يتهمه بعدم الأمانة لأنه تصرف في اللفظ من أجل الحرص على المعنى: فالويل له كيف يتصرف في اللفظ وهو أثمن شيء في الوجود! والآخر ينعته بالجمود وبالتمسك بالحرف وبالحرص على اللفظ، حتى جاءت ترجمته في حاجة إلى ترجمة: لا هي عربية فتفهم، ولا أعجمية فتتفهم. ويقول الثالث: أجل وإن المترجم لذو شخصية ضعيفة ضئيلة، حتى لقد غمرته شخصية المؤلف وطغت عليه ومحته محواً تاماً. فقارئ الترجمة لا يجد فيها سوى روح المؤلف، أما المترجم فلا روح له! ويقول رابعهم مداعباً: إن هذه الترجمة والأصل كالزنجية الشوهاء وخيالها في الزفت! ويقول الخامس: ما كان أغنى قراء العربية عن ترجمة مثل هذا الكتاب، فياله من مجهود ضائع! ويقول السادس وهو يتكلف الظرف: إن هذه الترجمة لكتاب (هملت) من الإبداع بحيث يجب أن تترجم مرة أخرى إلى الإنكليزية! ليرى شكسبير كيف يجب أن يكتب (هملت)!
ثم من بعد هذا كله فما هو في نظر الجميع سوى مترجم! رجل أعوزته المقدرة على الابتكار، فانصرف إلى النقل! فهل يكون لمثل هذا في عالم الأدب أو العلم مكان؟ وأين هو من زيد وعمرو وبكر الذين ألفوا وصنفوا مجلدات فتحت في العلم أبواباً وطرقاً وشوارع؟ حتى إن منهم لمن يبيع لتلاميذه الملزمة الواحدة بعدة دراهم!
ينصت المترجم المسكين لكل هذا وهو مطرق الرأس مغمض الطرف، وقد أخذ الندم يأكل قلبه وكبده ورئتيه. وهو على هذا يعلم أنه ليس شراً من أولئك المؤلفين، وأنه لو شاء أن يسلك السبيل التي سار فيها زيد أو بكر لما كان من الصعب عليه أن يجمع الفصول من بعض الأسفار؛ ثم يسئ وضعها وترتيبها، ويعرضها على أنها من مؤلفاته القيمة، ومن بنات أفكاره ودلائل إعجازه. ولكنه آثر أن يسلك سبيلاً غير ذي عوج، وأن يعمل في وضح النهار. في زمان ساد فيه الالتواء والظلماء.
لا شك أن المترجم المسكين مهيض الجناح، مهضوم الحق، وقد بلغ من هوان أمره على بعض الناشرين أنهم ربما نشروا الكتاب، ولم يعنوا حتى بذكر اسم المترجم!
ومع ذلك فلقد يلقى المترجم من حين إلى حين منصفاً يكون بمثابة جزيرة من الأمل وسط هذا البحر الفسيح من القنوط! ومن أحسن ما يذكر في إنصاف المترجم ما قاله الأستاذ طه حسين في مقدمة الترجمة العربية لكتاب هرمن ودروتيه. وقد جاء في كلامه العبارة الآتية:
(إن الذين يترجمون آيات الأدب والفن والفلسفة ينسون أنفسهم، ويمحون شخصياتهم، ويقنعون بمكان المترجم، الذي ليس هو بالقارئ المستريح، ولا المنتج النابغة، لكنه صلة بين الرجلين: لا حظ له من راحة الأول، ولا حظ له من مجد الثاني، وإنما هو خادم مخلص أمين؛ يرفع القارئ إلى حيث يذوق جمال الفن وجلاله، وحين يشق لآثار النابهين من الأدباء والفلاسفة طرقاً جديدة. . . هذه منزلة المترجم يراها الناس يسيرة، وأراها عظيمة جليلة الخطر. وحسبك أنها هي التي تحقق الصلة القوية بين الأجيال والشعوب. فتزيل ما بينهم من الفروق وتدني بعضهم إلى بعض).
هكذا أنصف الأستاذ طه حسين المترجم؛ وردّ إليه شيئاً من حقه المضيع. ويحق للمترجمين أن يغتبطوا بأن قد صدر لصالحهم في هذا الأسبوعِ حكم آخر من ناحية لم يكونوا يتوقعون منها كل هذا العطف. وألذ النعماء ما جاءك من حيث لا تحتسب. ذلك أن القضاء المصري قد قضى في هذا الأسبوع - ولا راد لما قضى - بحكم لعله أكبر غنم يستطيع المترجم أن يظفر به. وهانحن أولاء نثبت هذا الحكم هاهنا بنصه وفصه:
(إن ما يلاقيه المترجم من صعوبة وعناء النقل من لغة إلى لغة، وإصلاح في عباراتها يستلزم كداً وعلماً معاً؛ حتى لقد يفضل المترجم أن يكون صاحب تأليف، أو أن يصرف وقته في التأليف بدل أن يصرفه في الترجمة والنقل، لأنه في التأليف مطلق، ما يريد من المعاني، ويضيف ما يريد من الألفاظ، ويقدم ويؤخر، ويحذف ويثبت على حسب ما يرى. أما في الترجمة فنجده مقيداً بما ينقل من نظام وترتيب، واثبات وتقييد. ولابد له من أن يدرك المعنى إدراكاً واضحاً، يلبسه زيه من الألفاظ والجمل في اللغة التي ينقل إليها، كما يكون أميناً في نقله، صادقاً في ترجمته. ولا يكون أهلاً لذلك إلا إذا ملك ناصية اللغتين، وعرف فيهما الشارد والوارد، وأدرك دقائق كل منهما: من معان خفية، وأسرار في التراكيب. وأن تكون نفسه قد مرنت على هذه الصناعة، ووقف على أسرارها، واتخذ له طريقة واضحة فيها. وإن كثيراً ما تزل أقلام المترجم الأمين، الذي يريد أن ينقل من قلب الشاعر كما يقولون، فناهيك بما يلاقي من تعب وكد في معرفة غرض الكاتب، فيلتجئ إلى معاجم اللغة؛ يقلب صفحاتها ويرجع إلى عبارات كبار الكتاب وأساليبهم، لعله يصل إلى معرفة مثل هذا التعبير، أو ما يقرب منه، أو يعثر على شرح له في كتب الأدب. ولقد يقطع المترجم أياماً في البحث عن كلمة واحدة!. . . وإنَّ هناك في الترجمة عقبات منشؤها خفاء المعنى، أو غرابة اللفظ، تظهر في بلاغة الكاتب. وتمكنه من امتلاك نواصي الأساليب، بعبارة يسهل إدراك معناها، ولكن يصعب على المترجم نقلها ووضعها في قالب آخر. . .)
ذلك هو الحكم القاطع الذي صدر في إحدى القضايا منذ بضعة أيام، وإن صدوره هو الذي حملنا على كتابة هذا المقال! ولعل مثل هذا الحكم هو أعظم حادث في عالم الأدب - على الأقل في عامنا هذا - فليغتبط المترجمون، فإن لهم من هذا الحكم سيفاً بتاراً يقطعون به رأس الجحود والنكران. وليحذر الذين يضعون من مرتبة المترجم بعد اليوم - فليس حكم القضاء بالشيء الذي يجوز معه العبث أو المراوغة؛ فليبادروا بالتوبة وبالتكفير عن سيئاتهم الأولى، ويعترفوا صاغرين بما للمترجم من المنزلة العالية والمقام الرفيع.
وأنتم معشر المترجمين، هلموا اليوم فشمروا عن ساعد الترجمة وأقبلوا عليها إقبال من يعرف مالها من جليل الخطر، وما عليكم من رسالة تؤدونها في أمانة وإخلاص جديرين بذلكم الحكم الباهر. .
محمد عوض محمد