انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 468/دجلة يطغى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 468/دجلة يطغى

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 06 - 1942



(بمناسبة فيضان دجلة هذا العام)

للأستاذ حامد مصطفى

أرأيت هذا الخلق العجيب الذي لم ينل منه مرّ الدهور ولا تقلب الحدثان. . . تمضي الحوادث وتتصرّم الأجيال ونحن نعتقد أن الإنسان إنما يجري لأجل ويسعى إلى أمد، ولكن كرّ الأيام واعتراض التجارب تكاد تجعلنا نوقن بأن البشر إنسان واحد منذ وجد إلى أن تقوم قيامته. . . وما هو ذلك الفارق بين إنسان اليوم وإنسان الماضي وإنسان المستقبل؟ ألسنا نوعاً واحداً ذا طبيعة واحدة وآمال متماثلة؟ خلق متماسك الحلقات متصل الوجود يسعى بعضه إلى خير باقيه؛ زرع أوله فحصد أخره، وبني ماضيه فتوطن حاضره، وجرب سلفه فأفاد الخلف؟

هذا دجلة يصخب؛ يزخر عبابه، وتزُم أمواجه، ويصمّ هديره، يمر ببغداد اليوم وقد مرّ بها من قبل أيام الرشيد، واخترق دولة بابل وآشور، وجرى قبل ذلك كله في أمم قد خلت لا يعلمهم إلا الله. فهل تغير الناس أم تغير دجلة؟ وهل كانت مياهه في تلك الأحقاب غيرها في أيامنا هذه. . . أم أن الناس اليوم هم غيرهم في تلك الأيام؟ ليس من البعيد أن يكون دجلةُ الماضي دجلةَ الحاضر بمائه وهديره وطغيانه؛ أما إنسان دجلة اليوم فلا يبعد أيضاً أن يكون هو إنسان دجلة الماضي. وما الذي يدرينا أن الحياة على وجه هذه الربوع لم تدُر وتتكرر كما دارت مياهها وتقلبت. ألم تسمع قول الماضين:

كالبحر يمطره السحاب وما له ... فضل عليه لأنه من مائه

وقولهم:

خفف الوطء ما أظن أديم الأ ... رض إلا من هذه الأجساد

زُمَّ يا دجلة بمائك واصخب وتهدّد فلن نفهم من لغتك حرفاً كما لم تفهم منها القرون الأولى شيئاً. الناس يحيون على شاطئيك ويمر بهم العيش ألواناً وأطواراً وهم لا يكادون يبدلون ولا يتبدلون: فظالم متمادٍ في ظلمه، وضال متفانٍ في ضلاله، وذو مال لم تشبعه الدنيا فتحيل لها شتى وجوه الحيل يبتغي الرفاه والمزيد، وشعوب رزحت في أطواق الذل والجهل وناءت بأغلال الاستضعاف فلم تتململ في أقفاص الهوان. . . لقد خدع جما الحياة ولذة الدنيا وركود النعمة أقواماً لو غالبتهم على المال ما غلبوا، أو جاريتهم على كسب الحطام ما وهنوا

لقد ثار ثائر دجلة اليوم كما ثار ثائه من قبل فأقض على الناس المضاجع وهلعت طوله قلوب أهل الريف؛ أولئك يخشون على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، يخيل إليهم أن ما هم فيه من نعيم مقيم وعيش رغيد وآمال باسمة وحياة حالمة سيكون مآله مآل ثراء قارون ومدينة بابل. وأولاء يرون بين الأمواج القضاء النازل على ما بذروا وزرعوا وما أعدوا لنيل العيش وسد الجوع واتقاء الآفات. هذا شأن الناس على شاطئ دجلة والفرات وروافدها كل عام في مثل هذه الأيام

لقد استطاع سكان العراق القدماء اتقاء هذا البلاء الذي تناهب نفوس المعاصرين، فكانوا ينامون آمنين مطمئنين لا يخافون على نفس ولا مال، حتى لقد هزئوا بطغيان النهر ولم يغلبهم الصِّرْى وكانت القنى تنهب الماء نهباً فتملأ به رحاب العراق فتنقلب صحراؤه جناناً خضراً وحدائق غلباً حتى لقد كان الطير ينتقل بين الرقة والأبَّلة قرب خليج البصرة فلا يجد إلا ظلاً ظليلاً وماء سلسبيلاً، ويجري الأرنب بين الأشجار فيستريح إلى جانب النهر ولا يقف به خببه حتى يدرك غايته لا يشتكي عناء ولا لغوباً، ويجري ساعي البريد بين بغداد والشام لا يرى شمساً ولا زمهريراً. لقد كان (السواد) جنة الدنيا وقلب الأرض تجبى إليه ثمرات كل شيء، وتجتمع في سرته الدنيا؛ كل ذلك بهذا الفضل من الماء الذي يهددنا في هذا الشهر من كل عام، والذي صرنا نخافه ونخشاه ونتقيه ولا نكاد نملك في صده ودرء عاديته سوى جهد ضئيل لا يكاد يوازي جهد البغاث في دفع الطير الكاسر

يقولون إن في الهند والصين أنهاراً يتقرب إليها الناس بالارتماء في مياهها والغيبة بين أمواجها حتى لتتكاثر الجثث على شواطئها فما يزيد ذلك عابديها إلا رغبة في إرضائها وتزاحماً على الموت في أجوافها. وليس ذلك بالعجب الكبير؛ فإن القوم تمثلوا القوة في أعظم شيء في أعينهم فترضوه وخافوه وافتدوا منه الأجيال بعدد يسير من الضحايا ليس مصيرهم في عقيدتهم إلا نعيماً مقيماً؛ إنما العجب من قوم رقت عقائدهم ودقت إفهامهم ونضجت معارفهم ثم هم يرون الخلود لأجسادهم ولا يرونه لأرواحهم، فماتت قلوبهم وذلت نفوسهم. أما مادتهم فهي وارفة وأجسامهم فهي ناضرة يصح فيهم قوله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم). أولئك تقربوا بالدنيا إلى الآخرة وبالأجسام إلى الأرواح، وهؤلاء تقربوا وأضاعوا الدنيا والآخرة، وزهدوا في الخير الدائم ونعيم الأجيال وحرية الأرواح ولم يروا شيئاً أن تكون لهم المادة ولا يكون لهم شيء من المعنى

لقد كان للناس عبرة في مظاهر الطبيعة وتقلبات الحوادث، وكان لهم عظات تتكرر وتقسو في التنبيه والإرشاد، وكان للناس أجمعين في كل ما يتقلبون فيه ويعانون تجارب يكفي أدناها لليقظة والاعتبار. . . ولكن هيهات، فإن الناس لا يفهمون من لغة الطبيعة وتضافر الآيات إلا عوارض لا رأي لها ولا غاية؛ وما الشمس في مجراها والقمر في دورته والأرض في حركتها وانسلاخ النهار من الليل وجري الأنهار وهديل الأطيار إلا ألوان من اختلاف المادة، واتصال الطبيعة لا شأن لها ولا غرض إلا خدمة الإنسان وتعرضها له بالمتعة والانتفاع. . . وكأن الطبيعة أدركت من الإنسان ذلك الهزؤ وتلك المهانة فأخذت تتحداه وتتعرض له بالنكبات تلو النكبات وبالمصائب بعد أمثالها؛ وكلما تقدم في المعرفة والعمران وازداد غروره في تملك ناصية الطبيعة والتمكن منها كانت هذه تجد الفلتات فتتسرب إليه من حيث اطمأن وتنوبه من حيث أمن؛ فتجد المصنع يتفجر، والمنجم يثور، والسفينة لا تنقذها مهارة ربانها، أو البركان يعصف بالأرض ومن عليها، وربما لا تجد يوماً يمر دون أن تفلت الطبيعة من يد الإنسان فتبدد آماله وتبدل خططه.

لقد مرت على دجلة القرون والأحقاب وهو يجري بمائه إلى البحر فيلقي فيه بالكنوز وبالقوة، ولم يحظ أهله منه إلا بالنزر اليسير من الحظ الكبير حين كان الناس جهالاً وحين كانت الطبيعة أقوى من الإنسان. إن في دجلة من الخير والقوة ما لا ينضب معينه ولا تنفد مادته. ولقد قعد ابن دجلة يتمطى على جانبيه عصوراً طوالاً حتى أدركه هذا العصر عصر القوة والابتداع فوجده قاعداً وقد قام الناس، وفقيراً وقد استمتع بالثراء كل ذي نأمة. أفلا تمتد الأيدي إلى مصدر الغنى وينبوع القوة فتجعل من الفقر غنى ومن الضعف قوة؟. . . أفلا يجدر بنا أن نكف من غرب دجلة بالآلة ووسائل الإنتاج الحديثة بدل أن نتعهد شاطئيه كل عام بالأيدي والمساحي و (الهزات) ثم نحن لا نصد من عادية النهر قليلاً ولا كثيراً، ولا يعود علينا ذلك بإصلاح دائم ولا بتقوى شاملة. . .؟ ألم يأنِ للذين يخشون طغيان دجلة كل عام أن يفكروا بالانتفاع من طغيانه فيكون لهم مورد خيرات ونعمة وجاه بدل أن يهتموا موسم كل فيضان بكفكفة ضفتيه خوف البلاء واتقاء الغرق؟ لقد ملأنا أنفسنا خوفاً من دجلة ورعباً من أمواجه، فقد تواردت علينا السنون ونحن لا نفكر في شيء من أمر الرافدين إلا أن نصد البلاء وندفع النكبة حتى خيل إلينا أن ليس في النهرين إلا الشر، وأنهما لا يحملان بين أمواجهما إلا الرعب، حتى صار لفظ (الطغيان) في إفهامنا مرادفاً للغرق. . . أتعجز ونحن في العصر العشرين عما عجز عنه قدماؤنا قبل الأدهار البعيدة والأزمنة السحيقة؟

تعاقب علينا يا دجلة بالطغيان بعد الطغيان، وخاطب المعاصرين كما خاطبت القدماء؛ فإن الناس لا يفهمون لغة الأمواج ولا يعقلون نداء النُّذُر، ولن تزال شواطئك صحارى يابسة ومنازل خاوية حتى تستبدل بالمسحاة (الحراثة) وبالهزة (الكراكة)، وحتى يكون الطغيان أملاً ورجاء، لا خوفاً وبلاءً.

حامد مصطفى

ليسانس في الآداب وفي القانون