انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 467/غزل الملوك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 467/غزل الملوك

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 06 - 1942



والقصيدة المنسوبة إلى السلطان سليم

للأستاذ عبد الله مخلص

أراني مديناً بالشكر للأديب الموهوب الأستاذ حسن القاياتي عضو مجلس النواب لاهتمامه وعنايته بالصفحة التي ملأتها من غزل الملوك بالرسالة الغراء. وكنت أتمنى لو أن أعمالي الطويلة العريضة تمكنني من النزول على رأي الأستاذ الكبير والغوص في بحار الغزليين من الملوك والأمراء والتقاط دراريهم اللامعة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله

وأشكر للأستاذين الفاضلين إبراهيم أحمد أدهم ومحمود عزت عرفة ملاحظاتهما القيمة على القصيدة المنسوبة إلى السلطان الدالة على رغبتهما في استكناه الحقائق وخدمة الآداب فأقول:

إن السلطان سليما الأول الملقب بـ (ياوز) هو ابن السلطان بايزيد الثاني وحفيد السلطان محمد الفاتح، وهو تاسع السلاطين العثمانيين وفاتح مصر والشام وبلاد العرب في آسية وأفريقية، وهو الذي نقل الخلافة الإسلامية من بقايا العباسيين في مصر إلى السلطنة العثمانية فجمعت بينهما من أيامه. وقد توفي هذا السلطان العظيم سنة 926 الهجرية الموافقة لسنة 1519 الميلادية

ويقول من ترجم له من المؤرخين إنه كان يقرض الشعر في اللغتين الفارسية والتركية ويأتون على ذلك بشواهد من شعره

إلا أن أحمد بن يوسف بن أحمد الشهير بالقرماني المتوفى سنة 1019هـ 1610م يقول عن السلطان إنه كان يجيد اللغة العربية أيضاً وينظم نظماً بارعاً حسناً

ومن هؤلاء المترجمين نامق كمال المعدود من أعاظم الأدباء والمجددين في الأدب التركي في أوائل القرن الرابع عشر الهجري المتوفى سنة 1305هـ 1887م

فقد قال عن السلطان سليم في صدد إيثاره المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتفضيله اختيار الضرر الخاص في سبيل النفع العام ما تعريبه:

(إن السلطان ضحى بنديمه يوسف الذي كان أعز عليه من نفسه، والذي أعلن حبه له وافتتانه به بالأشعار الرائقة التي نظمها فيه ومنها: لولا الإله وحرّ نار جهنم ... لعبدته وسجدت بين يديه

ضحى به في سبيل مقاصده بعد ما أحبه حباً يقرب من العبادة، وأظهر من بعده الصبر الجميل

فهذا البيت المفرد من القصيدة هو الدائر على الألسنة إلى الآن، وهو الذي حملني على نسبة القصيدة بتمامها إلى السلطان سليم

أما المخطوط الذي نقلتها منه فهو ينسبها إلى السلطان أحمد، ومن واجب الأمانة أن أنقل هنا عنوانها وهو: (ومما نظمه المرحوم المغفور السلطان بن السلطان السلطان أحمد خان)

أما السلطان احمد الأول بن السلطان محمد الثالث فقد كان من السلاطين الذين دافعوا عن البلاد وذادوا عن حياضها، وقد كان ينظم الشعر في اللغتين العربية والفارسية وقد توفي سنة 1026هـ - 1617م

وإذا اعتبرنا أن المخطوط الذي نقلنا منه القصيدة قد أُلف في سنة 1042هـ أي بعد وفاة السلطان (أحمد) بستة عشر عاماً فيكون مؤلفه أقرب إلى الزمن الذي عاش فيه صاحب القصيدة؛ ويجب علينا أن نقرّه على نقله وأن نقول: إن هذه القصيدة هي للسلطان احمد لا للسلطان سليم ما دمنا لا نجد مستنداً لمدعانا سوى البيت الذي استشهد به نامق كمال. وهذه هي القصيدة التي نسبها محمد المحّبي المتوفى سنة 1111هـ 1699م إلى السلطان أحمد:

ظبي يصول ولا اتصال إليه ... جرح الفؤاد بصارميْ لحظيه

ما قام معتدلاً وهزّ قوامه ... إلا تهتكت الستور عليه

يسقي المدامة من سلافة ريقه ... ويخصّنا بالغنج من جفنيه

عيناه نرجسنا وآس عذاره ... ريحاننا والورد من خديه

يا شعر في بصري ولا في خده ... إني أغار من النسيم عليه

عجبي لسلطان يعزّ بعدله ... ويجور سلطان الغرام عليه

لولا أخاف الله ثم جحيمه ... لعبدته وسجدت بين يديه

وأنت ترى أن هذه القصيدة تتألف من سبعة أبيات بينا القصيدة التي نقلناها من المخطوط ونشرت في العدد 462 من الرسالة الغراء هي أحد عشر بيتاً مخمّساً.

أما قصيدة طلائع بن رزيك الملقب بالملك الصالح من وزراء الدولة الفاطمية بمصر المتوفى سنة 556هـ 1160م فهي:

ومهفهف ثمل القوام سَرَت إلى ... أعطافه النشوات من عينيه

ماضي اللحاظ كأنما سلت يدي ... سيفي غداة الروع من جفنيه

قد قلت إذ خطّ العذار بمسكةٍ ... في خدّه ألفيه لا لاميه

ما الشعر دبّ بعارضيه وإنما ... أصداغه نفضت على خديه

الناس طوع يدي وأمري نافذ ... فيهم وقلبي الآن طوع يديه

فاعجب لسلطان يعمّ بعدله ... ويجور سلطان الغرام عليه

والله لولا اسم الفرار وإنه ... مستقبح لفررتُ منه إليه

وسواءً أكانت القصيدة للسلطان سليم كما ظن قبلاً أو للسلطان أحمد كما ترجح معنا الآن، فإن معانيها مقتبسة من قصيدة الملك الصالح، بل إن الرابع والخامس والسادس من أبيات هذه القصيدة قد نقلت بالحرف تقريباً، فلا وجه لاعتبار ذلك من قبيل توارد الخاطر ووقع الحافر على الحافر.

وبإضافة تلك الأبيات الثلاثة مع البيت القائل:

يا طيب ليلتنا ونحن بمجلس ... نهض الحبيب لنا على قدميه

إلى القصيدة الأصلية أصبحت أحد عشر بيتاً.

بقي علينا معرفة الذي خمس القصيدة وزاد فيها تلك الأبيات. وجواب هذا السؤال وارد في المخطوط من أنها للسلطان أحمد فيكون هو نفسه قد خمّسها بعدما زاد عليها تلك الأبيات وبينها أبيات الملك الصالح الثلاثة

أما القول بأن السلطان سليماً لم يؤثر عنه نظم الشعر بالعربية ففيه نظر؛ لأن المؤرخين يذكرون أنه عندما عاج بحماة الشام في طريقه إلى مصر وحل ضيفاً مكرماً في الزاوية القادرية ارتجل بيتين من الشعر في مدح بني الكيلاني من أحفاد عبد القادر وكتبهما في جدارها. ثم إنه عندما سمع خرير مياه نهر العاصي وصرير أخشاب النواعير التي تنتشل ماء النهر كأنها تئن نظم بيتين آخرين البيت الثاني منهما هو:

وإني على نفسي لأجدر بالبكا ... إذا كانت الأخشاب تبكي على العاصي

أما البيتان اللذان خطهما بيده على مقياس الروضة، فهما ليسا له، بل هما من قصيدة لأبي العلاء المعري هي:

الموت ربع فناء لم يضع قدما ... فيه امرؤ فثناها نحو ما تركا

(والملك لله من يظفر بنيل غنى ... يردده قسراً وتضمن نفسه الدركا)

(لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركا)

ولو صفا العقل ألقى الثقل حامله ... عنه ولم تر في الهيجاء معتركا

إن الأديم الذي أَلقاه صاحبه ... يُرضى القبيلة في تقسيمه شُركا

دع القطاة فإن تقدر لفيك تَبِت ... إليه تسري ولم تنصب لها شَركا

وللمنايا سعي الساعون مذ خلقوا ... فلا تبالي أَنصَّ الركب أم أَركا؟

والحتف أيسر والأرواح ناظرة ... طلاقها من حليلٍ طالما فُركا

والشخص مثل نجيب رام عنبرة ... من المنون فلمّا سافها بركا

في حين أن قطب الدين الحنفي المتوفى سنة 990هـ - 1582م يقول:

ورأيت بيتين بالعربي بخطه (أي خط السلطان سليم) الشريف كتبهما في علو المقياس في الكوشك الذي أمر ببنائه لما افتتح مصر وسكن الروضة قد انمحى لطول الزمان مداده، ومال إلى لون البياض سواده، وكان هذا الكوشك محترماً مقفلاً لا يصل إليه أحد لعظمة بانيه، ولا يتبذل بالدخول إليه لعظمة راعيه، فدخلت إلى مصر في سنة 943، وكان يوم كسر النيل السعيد ففتحوا هذا الكوشك لبكلر بكى مصر يومئذ خسرو باشا وكنت مصاحباً لمعلم مولانا عبد الكريم العجمي، فطلع وأطلعني معه في صحبة خسرو باشا المذكور، فرأيت على الرخام الأبيض كتابة خفية لا تكاد تظهر إلا بتأمل هذين البيتين:

الملك لله من يظفر بنيل مني ... يردده قسراً ويضمن من بعده الدركا

لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركاً

وكتبه سليم بذلك الخط والقلم. ولعمري إن كان هذان البيتان من نظم المرحوم فهما غاية في البراعة، ونهاية في التمكن من الصناعة، فيدل على تمنكه - رحمه الله - في اللسان العربي أيضاً، لأنهما من أعلى طبقات الشعر العربي البليغ المنسجم؛ وإن كان قد تمثل بهما وهما لغيره، فهذه أيضاً مرتبة علية في حسن التمثيل وحسن الاستحضار وفهم الأشعار العربية وذوقه لها، وهذا القدر يستكثر على علماء الروم (أي العثمانيين)، وعلماء العجم المكبين على علوم العربية فضلاً عن سلاطينهم المشغولين بضبط الممالك وفتحها؛ والفائقون في ذوق الشعر العربي وحسن آدابه من العلماء والموالي في غاية القلة معدودين منهم، ولا يُعدّ هذا نقصاً فيهم، لأن فهم الشعر العربي على وجهه كما ينبغي قليل أيضاً في علماء العرب، إلا من توغل منهم في الأدب، وتعب في تحصيله ودأب

ويقول القرماني:

ولما كان (أي السلطان) بمصر كتب على رخام في حائط القصر الذي سكن فيه بخطه فقال: ونقل البيتين السابقين وقال محمد عبد المعطي بن أبي الفتح بن أحمد بن عبد الغني بن علي الاسحاقي المتوفى سنة 1032هـ 1622م ما قاله قطب الدين الحنفي وكأنه نقله عنه.

أما نامق كمال المتقدم ذكره فيقول عن هذين البيتين ما تعريبه:

لما ولي السلطان سليم الملك أنشد القطعة الشعرية التالية وهي من بنات أفكاره، وسجد أمام العظمة الإلهية معلناً عجزه ومسكنته فقال:

الملك لله من يظفر بنيل مني ... يرد قهراً ويهوى نفسه الدركا

لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركا

وقد نقلنا البيتين المذكورين لوجود بعض المباينة في البيت الأول بين قول أبي العلاء المعري وبين ما نقله قطب الدين الحنفي والقرماني ونامق كمال.

هذا ما استطعت الإلمام به من أمر القصيدة المنسوبة إلى السلطان سليم بسطته للقارئ الكريم، وفوق كل ذي علم عليم

عبد الله مخلص