انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 462/وهذا كتاب. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 462/وهذا كتاب. . .

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 05 - 1942


قال لي صديق منذ شهرين: أن العقاد يخرج كتاباً عن محمد. فقلت له: ذلك ما تتمناه الناس وتوقعناه نحن منذ أخذ العقاد يعالج بعض هذا الموضوع في (الرسالة). ولعل هذا الكتاب يكون الأول في بابه؛ لأن العقاد صاحب جد وصراحة؛ فهو لا يتكلف مالا يحسن، ولا يحسن ما لا يعتقد، ولا يعتقد ما لا يسوغ في المنطق. وإذا كان الذين كتبوا عن محمد إنما كتبوا للدين أو للدنيا أو للأدب أو للهوى، فإن العقاد لم يكتب إلا للعقل. وإذا استراب أكثر الناس بأكثر هذه الكتب لأن صاحب الدين موافق وصاحب الدنيا منافق وصاحب الأدب خدَّاع وصاحب الهوى متعصب، فإن القُراء على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم سيُخْلدون بثقتهم إلى العقاد لأنه سيكتب غير ما كتب هؤلاء جميعاً.

ثم قدرت في نفسي النواحي البكر التي سيطرقها العقاد من هذا العالم الأعظم فكأنما قدَّرت عن تلقين الغيب: قدَّرت أنه لن يكتب ترجمة ولا سيرة ولا قصة، لأن الناس في القديم والحديث، وفي الشرق وفي الغرب، لم يكتبوا غير ذلك؛ وذلك الذي كتبوه إنما كان مداره على الوحي والرسالة والمعجزة والدعوة، وإدراك العظمة أو العبقرية في هذه الأمور موقوف على الأيمان بها؛ فلو أن امرأً غير مسلم حاول أن يستشف من خلال ما ينكر من هذه الصور الإسلامية صورة محمد في نفسه، لما وجد فيما بقى على الهامش أو علِق بالإطار ما يقنعه بأن محمداً لو لم يكن أعظم الرسل بدينه، لكان أعظم الأبطال بخلقه.

فصورة محمد في نفسه هي الناحية التي طوّف حولها الرُّوَّاد ولم يدخلوا، وحوَّم فوقها الورَّاد ولم ينزلوا؛ وهي التي قدَّرتها على التخمين في خطة العقاد، ثم قرأتها على اليقين في (عبقرية محمد). وأشهد الله أني لو مضيت على المخيَّل فيما أكتب عن هذا الكتاب لما كذبني الضن، ولا أخطأني الصواب. ذلك لأن العقاد كاتب مؤمن بالعقل والرجولة؛ فإذا درسته أو قرأته على ضوء هذا الأيمان تكتشف لك عن منطق فحل لا يتناقض في الرأي ولا يتعثر في الأداء، ولا يتكثر باللغو، ولا ينزل عن طبقته حتى في المقاصد المبتذلة والمعاني المطروقة. وإيمانه بالعقل والرجولة هو الذي بعثه على أن يكتب كتابين في أدب ابن الرومي وفي سياسة سعد زغلول على كثرة الأدباء والساسة. فإذا كتب عن محمد فإنما يكتب بوحي هذا الإيمان عن عبقريته (بالمقدار الذي يدين به كل إنسان ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبِّت له الحب في قلب كل إنسان وليس في قلب المسلم وكفى)، (وبالقياس الذي يفهمه المعاصرون، ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين) (ليقيم البرهان على أن محمداً عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميدان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية)

والحق الذي لا تجوَّز فيه أن كتاب (عبقرية محمد) هو التفسير الملهَم المحكم لقول الله تعالى لنبيه الكريم: (وأنك لعلى خلق عظيم). ولا يدهشنك أن أقول أن شهادة الله لرسوله بعظمة الخلق ظلت مجهولة الغور والمدى والدلالة في التفسير والتاريخ حتى جاء العقاد فصورها بأبعادها وحدودها وألوانها وسماتها كأنطق ما يكون المثال وأصدق ما تكون الحجة. هل تجد معنى من معاني الأخلاق فني في شرحه وتشريحه من الريق والمداد على طول القرون ما فني في معنى الصَداقة والصديق؟ ومع ذلك تقرأه في فصل (محمد الصديق) من كتاب العقاد فتجده معنى من معاني العظمة لم يتمثل في ذهن كاتب من قبل على هذه الصورة. أقرأ قوله على سبيل المثال: (. . . وهنا أيضاً قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة. فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسد وعظمة الثروة وعظمة الرأي وعظمة الهمة؛ وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة - كما اثبت التاريخ من سيرة أبي بكر وعمر وخالد وأسامة وابن العاص والزبير وطلحة وسائر الصحابة الأولين - وربما عظم الرجل في مزية من المزايا فأحاط به الأصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية، كما أحاك الحكماء بسقراط القادة بنابليون بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح عليه السلام وكلهم من معدن واحد وبيئة متقاربة. أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجلب إليها الأصحاب النابغين من كل معدن ومن كل طراز؛ وهي التي يتقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعلي، وبين عمر وعثمان، وبين خالد ومعاذ، وبين أسامة وأبن العاص: كلهم عظيم، وكلهم مع ذلك مخالف في وصف العظمة لسواه.

تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق، وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم، والحيلة والصراحة، والألمعية والاجتهاد، وحنكة السن وحمية الشباب.

تلك هي بلا ريب عظمة العظمات، ومعجزة الأعجاز في باب الصداقات)

ذلك سمو العقاد في المطروق المبتذل، فما ظنك به حين يعالج الأحرار الأبكار من معاني العبقرية المحمدية في السياسة والإدارة والرياسة والبلاغة؟ أما تحليله البراعات الخلقية والنفسية في محمد الزوج والأب والسيد والعابد، ودفعه الشبهات المريضة عن دعوة الرسول وعظمته في تحكيم السيف وتحليل الرق وتعدد الزوجات، فغاية الغايات في دقة الفهم وشدة الحِجاج وقوة الأسلوب. ولولا أن العقاد أدركه نسيان الإنسان فأراد غار ثور وكتب غار حراء، لقلت أن كتابه قبس من الوحي نزل عليه من السماء!

احمد حسن الزيات