مجلة الرسالة/العدد 455/الربيع في غير مكانه!
مجلة الرسالة/العدد 455/الربيع في غير مكانه!
للأستاذ عباس محمود العقاد
الربيع. الربيع. الربيع!
وكررها ما شئت، فما أنت ببالغ من تكرارها بعض ما تراه من اسم الربيع مرقوماً بشتى الحروف، في كل صفحة من صفحات الكون
كل بستان يقول لك الربيع، وكل شجرة في بستان تقول لك الربيع، وكل طائرة غادية أو رائحة بين الزهر والشجر تقول لك الربيع. . .!
وتقول لك الربيع كل عين لامعة، وكل وجفة متوهجة، وكل قلب خافق، وكل حياة نامية
الربيع في كل مكان
الربيع في مكانه وفي غير مكانه، ويا رب ربيع في غير مكانه يلقاك بمعنيين لا بمعنى واحد، كما يروعك الحسن غير منتظر، أشد من روعته إياك وأنت في انتظاره، وعلى عهدك باختباره
في مكانه بين الضفاف والأشجار
وفي غير مكانه أين؟ أين نلقاه في أوانه، بعيداً من مكانه؟
سلني وسل من واعدوه مثلي قي مختلف المواعد، فيا طول ما رأيته حيث لا يراه الناس! ويا طول ما ذكرته حيث لا يذكره الناس! ويا طول ما حييته حيث لا يحييه أحد، ولا يأنس إليه
في المقبرة، في السجن، في الصحراء، في وحشة النفوس التي تستعير الموت من المقبرة والضيق من السجن والظمأ من الصحراء
هنالك الربيع في خير أوانه؛ وهنالك الربيع في غير مكانه؛ وهنالك الربيع الذي لا أحب أن أنساه حين يذكر الناس كل ربيع!
كانت الشجرة باسقة ناضرة، وكانت العصافير تملأها قبل مطلع الشمس وبعد مغيبها، ثم لا تزال تغبها طوال النهار شادية صافرة، لاهية سادرة، متلاقية زوجين زوجين أو متعاشرة، ظاهرة بالفرار أو متظاهرة، ثم متلاقية في الصبيحة الباكرة، متلاقية في قيلولة الهاجرة، متلاقية في الظلمة الساترة وكانت الشجرة على قبر فتاة
وكان القبر بين مئات القبور
وكنت أراها من حجرة قريبة إلى القبور في كل شيء: في الجيرة، وفي المرض الذي أقعدني فيها، وفي الوحشة التي لا يشع خلالها رجاء
وكنا في صحراء الإمام
انظر إلى عصافيرها. عصافير المقبرة على رفات الحسناء
انظر إليها لا ترى فرقاً بينها وبين عصافير روضة على ضفاف نهر في يوم عيد
أتلومها أتحمدها؟
نعم، لك أن تلومها كما قلت يومئذ ألومها:
مغرّدةَ الطير بين الحفَر ... سواء لديك جميع الشجر
أفوق القبور غناء الغرا ... م، وطيب المقام وصفو السمر؟
دعيها لناعبة في الدجى ... وناعقِِ سوءٍ رهيب الخبر
ولوذي بأيْكٍ يفيء الهوى ... إلى ظله ويميل النظر
فذاك بصفوك أولى مقا ... مٍ، وأولى بهذا المقام العبر
ولك أن تحمدها كما قلت يومئذ أحمدها:
مغردةَ الطير أنت الأسدُّ ... وأنت الأجدُّ، وأنت الأبر
عرفت الحياة فحييتها ... بحيث نما غصنها وازدهر
ولم تعرفي الموت بين القبو ... ر، وماذا من الموت تحت الحجر؟
ولا موت حيث يضوع الشذى ... ويسري الندى، وتعيش الذكر
فغنِّي فما الأرض إلا حيا ... ة تمر وأخرى تلي في الأثر
وكنت أقولها يومئذ ولا أزال أقولها الآن وأنا أعجب لنا حين ننعى على الموت قسوته، وننسى أن الحياة تواجهه بأقسى من تلك القسوة، حيثما ظفرت ببقاياه
متى حفلت الحياة بالقبور؟
متى هزئ الموت بالأحياء بعض ما تهزأ بالموت زهرة ضاحكة تنمو من جوف قبر، وعصفورة عاشقة على مدفن حسناء، وتغريدة تسمعها من الروضة في يوم مهرجان كما تسمعها من صحراء الإمام في جنازة عزيز؟
تلك قسوة الحياة. وأقسى ما فيها أنها بحق، وأنها لا تخجل ولا تداري ولا تخال في الأمر موضعاً لخجل أو مداراة.
وفي السجن!
والربيع في السجن يعرف أوانه ولا يعرف مكانه
يعرف أوانه فلا يخطئه في ورقة على فرع شجرة، ولا ينساه في قشاشة منسية على الأرض يلمحها عصفور عابر فيهبط إليها، ليتخذ منها أثاثاً لمهاد غرامه، في موسم الغرام
أهذا أوان الربيع؟
نعم هذا أوانه، وهذه أنباؤه، وهذه سيماؤه!!!
أو هذا مكان الربيع؟
لقد كان ذلك بين الأسوار وراء القضبان، وكل مكان فهو منزل للربيع الطلق غير هذا المكان، في حراسة سجان!
ولكننا تلقيناه فيه، وابتسمنا له، وعرفناه غير متنكر ولا متغير، ومقتحماً علينا المكان أحب اقتحام.
ثم في الصحراء
والصحراء والسجن نقيضان، ولكنهما في غرابة الربيع يلتقيان.
زهرة يفرقها من الزهرة التي بعدها مائة ميل، وكأنها من الأنس بنضرتها في جمهرة من الرياض والآجام. لا تلتفت إلى وحدتها لأنها في حجر أمها وبعين أبيها، وهل لها من أم غير الحياة ومن أب غير الربيع؟
ولكننا نحن الذين نراها بأعيننا فنخلق لها الوحشة من نفوسنا، ونفرق بين مكانها وأوانها، ولا ضير عليها ولا عليهما من افتراق
يذكرنا ربيع المقبرة وربيع السجن وربيع الصحراء أن ربيع العام كله في غير مكانه وإن جاء في أبانه
ربيع يقال له موسم الحياة والرجاء وأنباء الموت فيه أشيع الأنباء!
ربيع يتلاقى فيه محبان هنا ومحبان هناك، ثم يتلاقى فيه مائة ألف من الأعداء ومائة ألف من الأعداء، يتقاذفون الموت في البر والبحر والفضاء!
ربيع يترقبه طلاب الموت، ويفزع منه طلاب البقاء!
ربيع أقرب منه إلى مكانه كل ربيع في مقبرة، وكل ربيع في سجن، وكل ربيع في صحراء
هذا ربيع العام!
السلامة كل ما يسأل منه، وقد كان بعض سؤله النعمة والغرام
وكنت أسمعها تغرد، وأراها تطفر، وأرثي لها وهي في قفصها، وأحبها وهي لا تباليه، كأنها نقلت الحرية من فضاء الله إلى صدرها الصغير بين أفراخها الصغار
تلك عصفورة الكنار عند صديق من محبي الطير في الأقفاص، وإن كنت لا أحبها في غير فضاء الله
بل رأيتها تولد، ورأيتها تزقو، ورأيتها تترقى يوماً بعد يوم من الزقاء في طلب الحب، إلى التغريد في طلب الحب، إلى التغريد في الغبطة بالبنين
ثم نعاها إلى الصديق ذات صباح، فكان لنعيها تعقيب طال بيننا كما يطول التعقيب في هذه الأيام على أنباء الغزوات
فليعجب من هذا من يستبعد الفارق بين النبأين، كما يستبعد الفارق بين عصفورة واحدة ومائة ألف إنسان
إن كان هذا هو المياس فالفارق جد بعيد، بل هو فارق لا يجوز القياس فيه
لكن المقياس غير هذا وأصدق وأكرم من هذا
المقياس بين موت فيه معناه، وموت أخر فيه معناه؛ وقد يتقابل المعنيان في كفتي ميزان، إذا تجاوزت من مات وما مات وانتهيت إلى ما في الموت من سر واعتبار
في مستهل الربيع ماتت عصفورة الكنار التي نقلت إلينا قبساً من الربيع في زمهرير الشتاء
ماتت وهي في أول أمومة لها تستقبل ربيعها الثاني بخمسة من الأفراخ الضعاف
وماتت شهيدة هؤلاء الضعاف الظالمين، لأنها جاعت لتطعمهم والحب عندها كثير، ونسيت أن تأكل لنفسها لتذكر تلك الأفواه المفتوحة كأنها فتحت لتأكل كل شيء. . . وماتت لأنها تعطي الحياة ولا تأخذ منها بعض ما تعطيه ماتت شهيدة الفداء، وماتت وورائها تدبير حكيم أحكمته العناية في مئات الألوف من السنين
وعندما تموت عصفورة فيترجم لنا موتها ذلك التدبير، ويقد لنا ذلك التقدير، لا عجب أن يقترن موتها بموت الجحافل وأنباء المحافل، وهو في قوانين الوجود كفاء ذلك القانون
لا عجب أن نحسب على ربيع العام هذه الشهيدة وأولئك الشهداء، فكلهم في سر الخليقة سواء
عباس محمود العقاد