انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 453/صور من العصر العباسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 453/صور من العصر العباسي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 03 - 1942



عشق القيان

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كان للقيان في العصر العباسي الشأن العظيم والمنزلة العليا. ولم تشغل الحرائر ما شغلته القيان في الأدب والتاريخ والاجتماع، ولم يكن لهن ما كان لأولاء من أثر في تهذيب النفوس وصقل الطباع وانتشار المجانات؛ إلا من أوتيت منهن الإمارة والجاه والسلطان، شبيهات علية وزبيدة والعباسة والخيزران.

وقد خلا الأدب من صور المخدرات، ولكنه رف بكثير من صور هؤلاء الجاريات؛ ففيه عنهن أشاوى حسان، وأحاديث ظراف، وأوصاف بارعات

ولم تبلغ القيان هذه الرفعة وتلك المنزلة إلا بعد الجد والجهد، والتعليم والتلقين، والصقل والتهذيب؛ فكن يتخرجن على المغنين الكبار أشباه الموصلي وابن المهدي، ويحذقن العزف والضرب، ويتفقهن في العربية، يحفظن نوادر الأحاديث وفرائد اللغة، وأمالي المجالس وشوارد الأشعار؛ ثم يبر في إظهار الأناثة والدل، حتى تصبح الفينة مصدر غواية وفتون، ومثار دعابة وفجور، وبهجة الأرواح ومنية النفوس؛ فلا غرو إن أقبل عليهن الشيخان والشبان، ولا عجب إن هن أتقن فن العشق وأصابت سهامهن قلوب الأبعاد والأحباب.

وقد ألفوا عنهن رسائل حسانا، منها رسالة القيان للجاحظ، وكتاب القينات لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكتاب القينات للمدائني، وكتاب القينات ليونس بن سليمان المغنى، وغيرهن كثار.

على إنه لم يصل إلينا من هذه الرسائل كلها غير رسالة الجاحظ التي ذكر فيها الكثير من أحوال القيان وطبائعهن وميولهن وأخلاقهن وطرقهن في الإغواء. وقد خصهن أبو الطيب الوشاء في كتابه (الموشى) بفصل ممتع عن عشقهن وغرامهن، زاد فيه على ما ذكره الجاحظ وأفاد.

وقد لا تجد في أدبنا العربي صفحة أكثر متوعاً وأبرع وصفاً وأشد دقة من وصف الجاحظ والوشاء لعشق القيان، والحيل التي يتبعنها لاستمالة الشبان، والسبل التي يسلكنها لطردهم إذا نفذت دنانيرهم وأفلسوا. فلقد بلغا في وصفهما الذروة التي لا تسامي، والغاية الت تدانى.

لا جرم أن الجاحظ كان أسبق إلى وصف ذلك، ولكنه أجمل وأوجز؛ أما الوشاء فلم يتعد ما قاله الجاحظ إلا قليلاً ولكنه شرح وفصل

والمهم في وصف عشق القيان أن الكاتبين أبانا فيه عن عواطف كامنات، وحيل مكنونات، وطرق مغريات، حتى تشعر وأنت تقرأ أنك اليوم بين يدي غانية من غواني الحانات اللواتي تخرجن في الفتنة والإغواء

فقد قرروا أن القينة لا تكاد تخلص في عشقها، أو تناصح في ودها، لأنها مجبولة على نصب الحبالات والشراك للمتربطين ليقعوا في أنشوطتها. ذلك لأن حبهن كلهن كذوب، وعشقهن متبدل غير ثابت. فهو لطمع وغرض، ولذا كن يقصدن أهل النشب واليسار، ويصدفن عن ذوي الإقتار.

وكان من عادة القينة إذا رأت في مجلس فتى له غنى وكثرة مال وحسن حال، أن تميل إليه لتخدعه؛ فتمنحه بادئ بدء نظرها، وغمزته بطرفها، وأشارت إليه بكفها، وداعبته بالتبسم، وغازلته بأشعار الغناء، فغنت على كاساته، ومالت إلى مرضاته، ثم تظهر الشوق إلى طول مكثه، والميل إلى سرعة عوده؛ حتى توقع المسكين في حبالها، وتعلق قلبه بحبها، وتطعمه في قربها ثم تحزن لزواجه، وتبكي لفراقه، وتكاتبه تشكو إليه هواها، وتقسم له إنه ضميرها في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تؤثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه؛ ثم تعزز ذلك بالرسل، وتخبره عن سهرها، وتنبئه عن فكرها، وتشكو إليها القلق، وتخبره بالأرق، وتبعث إليه بخاتمها وفضلة من شعرها، وقلامة من ظفرها، وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضا من قبلتها، وكتاب قد نمقته بظرفها، ونقطت عليه قطرات من دمعها، وضمنته الشوق والشكوى، وسألته المواتاة على حبها. . . وربما منحته من ريحانها، وأهدت إليه في النيروز سكراً وفي المهرجان خاتماً، وأخبرته إنها لا تمل الدموع إذا غاب، ولا ذكرته إلا تنغصت، ولا هتفت باسمه إلا ارتاعت. . . فلا يشك المسكين في إخلاص حبها، فيميل إليها بوده. . . حتى إذا رأت إنها حوت عقله، وصارت شغله، واستمالت لبه، وسلبت قلبه، وعلمت أنه غريق في بحر حبها. . . أخذت في طلب الهدايا، فتشهت الثياب والأزر والأردية والعمائم والتكك والخفاف. والعصائب المرصعة، وخواتيم الياقوت، ثم تمارضت من غير سقم، وتعالجت من غير حاجة منها إلى الدواء لتجيئها هدايا ذوي الوجد، من القمص المعنبرة، والغلائل الممسكة، والأردية المرشوشة، ومخانق الكافور، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب، والعود الهندي، والماورد الجوري، والفراريج، والجداء الرضع، والدجاج الفائق، والفراخ المسمنة، والفاكهة والرياحين؛ يتبعها صنوف من الشراب: من العسل والمطبوخ والمشمس، ثم تلحقها الدنانير والدراهم، فلا تزال في هدايا متواترة، وألطاف متتابعة. حتى إذا نفد اليسار وذهب الإكثار، وأتلف المال وجاء الإقلال، وأحست بالإفلاس. . . أظهرت الملل، وتبرمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وتفقدت منه الزلل، وتتبعت عليه سقطاته، وأخذت في الجفاء والعتاب والقلى والإبعاد، وصرفت عنها هواه ومالت إلى سواه، فحينئذ يدرك المغرور الندم والأسف.

ولقد كانت القيان ينظرن إلى المال، وكن يحتملن القبح والشيب مع اليسار ويكرهنهما مع الفقر. وهذا شأن الحسان كلهن. . . (فليس للفقر مع الحب عمل)

وربما اجتمع عند القينة من مربوطيها ثلاثة أو أربعة، وعندئذ يتحامون الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحد بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي واحدا سرها، والآخر علانيتها، وتوهم أنها له دون الآخر، وتكتب لهم عند الانصراف كتبا على نسخة واحدة تذكر لكل واحد منهم تبرمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم جميعاً.

وبعد، فما رأيت ابرع، ولا أحسن، ولا أرق، ولا أملح، ولا أنفذ في العواطف، ولا أكسب للقلوب من هذا الوصف. حتى لتحسب أنك أمام عالم نفسي لا يدع غمزة ولا إشارة ولا عاطفة ولا حيلة إلا أحصاها. وليت شعري أكان الجاحظ والوشاء عاشقين للقيان لقيا في سبيلهما الجهد والعناء، فثأرا منهن بهذا الوصف؟ وكأني بالجاحظ (وهو الذي عابوه بملك القيان) قد تيمه هواهن، وأذبل غصنه حبهن. . . أو أنه رأى عن قرب ما كن يصنعن.

فقال: (ولو لم يكن لإبليس شرك يقتل به ولا علم يدعو إليه ولا فتنة يستهوي بها إلا القيان لكفاه) ثم يستدرك فيقول (وليس هذا بذم لهن، ولكنه من فرط المدح، وليس يحسن هاروت وماروت، وعصا موسى وسحرة فرعون، إلا دون ما يحسن)

على أن الجاحظ إذا قسا عليهن فقد اتخذ لهن أعذاراً. قال: (وكيف تسلم القينة من الفتنة، أو يمكنها أن تكون عفيفة، وإنما تكتسب الأهواء، وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخابيث، وبين الخلعاء والمجان، وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت فصاعداً؛ يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، إذا ضرب بعضه ببعض يكون عشرة آلاف بيت ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة، ولا ترهيب عن عقاب، ولا ترغيب في ثواب، وإنما بنيت كلها على ذكر الزنا والقيادة والعشق والصبوة والشوق والغلمة؛ ثم لا تنفك من الدراسة لصناعتها، منكبة عليها، تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كله تجميش، وإنشادهم مراودة، وهي مضطرة إلى ذلك في صناعتها، لأنها إن جفتها تفلتت، وإن أهملتها نقصت، وإن لم تستفد منها وقفت).

تلك صفحة من أدبنا العربي ما أحسب إنها تقل عن أدب كبار الوصافين والنفسيين في الغرب، لأنها صورة حية تشيع منها القوة والصدق، ما نزال نراها كل يوم.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد