مجلة الرسالة/العدد 449/مع المفتي الأكبر
مجلة الرسالة/العدد 449/مع المفتي الأكبر
فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، علم من أعلام الفقه الإسلامي في مصر والشرق، يمتاز بعلم واسع، ونظر صائب، وفكر ثاقب، وقد رأى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر أن ينتفع التعليم العالي بمواهبه، فأسند إليه منصب (المراقب العام) على الكليات الأزهرية الثلاث، فأصبح له بهذا المنصب، وبشخصيته العلمية الجليلة، مشاركة في الإشراف العلمي على شئون التعليم، يرجى أن تحقق آمال الأستاذ الأكبر في الإصلاح.
وفضيلته - إلى جانب ذلك - عضو بارز من أعضاء (جماعة كبار العلماء) له فيها نشاط محمود، ورأي مشهود، ومقام كريم.
زرته في داره الحديثة الطراز التي بناها في ضاحية (كوبري القبة) فجاءت مثلاً رائعاً لعظمة البناء، وجمال التنسيق، ودليلاً حاضراً على ما يستطيعه (العالم الديني) من جمع بين تقوى الله، وأبهة الحياة.
تلقاني فضيلته مرحباً، وكنت منه على موعد، فلما أستقر بي المقام ذكرت له أن (الرسالة) تعتزم أن تصدر عددها الهجري الممتاز، ويسرها أن تسفر بينه وبين القراء الكرام في جميع أنحاء الشرق العربي بحديث يتصل بعمله في الإفتاء، والرقابة العامة، وجماعة كبار العلماء.
فأبدى استعداداً كريماً لإجابة هذه الرغبة، وأثنى على (الرسالة) ثناءً جميلاً، ذاكراً عنايتها الفائقة بشئون العلم والدين، ودعوتها القوية للثقافة الإسلامية، وقال: إنه يعلق على ذلك آمالاً عظيمة، فإن للرسالة في نفوس المسلمين وأهل العروبة جميعاً مقاماً عظيماً ومنزلة سامية.
فأجزلت لفضيلته الشكر على استعداده وحسن ثنائه، ثم دار الحديث بيني وبينه على هذا النحو:
1 - في الإفتاء
قلت لفضيلته: إن منصب الإفتاء منصب جليل له بالفقه الإسلامي صلة عملية وثيقة، وقد رسم الفقهاء المتأخرون للمفتي رسوماً لا يجيزون له أن يتعداها، وألزموه أن يفتي بآراء عينوها له، وكثيراً ما يذكرون الحكم ويتبعونه بقولهم: (وبه يفتى)، أو (وعليه العمل) ونحو ذلك؛ فهل تلتزمون فضيلتكم هذه الرسوم فيما تصدرون من فتوى، ولا تخرجون عن هذه الأقوال؟
فأجاب قائلاً: إن الفتاوى التي أصدرها على نوعين: نوع يتصل بالقضاء الشرعي والجهات الرسمية، وهذا أفتي فيه بما هو الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة، لأن المستفتي يطلب ذلك في استفتائه، ولأن هذا هو المذهب الرسمي في مصر، ولو لم أتبع هذه الطريقة لاصطدم القضاء بالفتوى.
أما النوع الثاني فهو الفتاوى التي أصدرها في استفتاءات غير رسمية أو واردة من البلاد الأخرى، وأنا في هذه الفتاوى لا أتقيد برسم يرسم، ولا بقول من الأقوال في مذهب الحنفية، وإنما أختار القول الذي أرى دليله راجحاً وأبين سبب رجحانه عندي، وقد أذكر إلى جانبه الأقوال الأخرى إذا طلب المستفتي ذلك أو كان الأمر يستدعي ذكرها.
قلت له: أتلتزمون في ترجيحكم دائرة المذاهب الأربعة المعروفة؟
فقال: أنا لا أتقيد بالمذاهب الأربعة، ولكني لا أخرج فيما أفتي به عن مذاهب العلماء من السلف والخلف. والسبب في ذلك أن الفقه الإسلامي غني جداً بأقوال العلماء وآرائهم فلا تكاد تجد مسألة من المسائل إلا وقد تعددت آراء الفقهاء فيها بحيث لا تستطيع أن تجزم بأن رأياً تراه لم يقل به أحد العلماء من قبل، فليس على الناظر في هذه الثروة الطائلة إلا أن يختار أرجحها مصلحة، وأقواها دليلاً، وأشبهها بروح الشريعة، وهذا هو الذي أسير عليه.
سألت فضيلته: أكان من المفتين الذين سبقوا فضيلتكم في دار الإفتاء المصرية من جرى على هذه الطريقة التي تسيرون عليها؟
فقال: إن الفتاوى التي تحتفظ بها سجلات دار الإفتاء لا تدل على ذلك، وإن كانت تدل في كثير من الأحيان على فقه جيد، ونظر سليم.
قلت له: وفتاوى الأستاذ الإمام محمد عبده؟
فقال: إن الناحية التي تجلت فيها مواهب الأستاذ الإمام الشيخ (محمد عبده) كانت هي إدراكه الصحيح لمعاني القرآن الكريم، وفهمه الدقيق لأغراضه، وتذوقه لأسلوبه ومعجز بيانه، مع بصر عظيم بأحوال الناس، وعبر التاريخ، وأسرار تقدم الأمم والشعوب، وسنة الله في جميع الكائنات؛ يؤازر ذلك قلب جريء، وجنان ثابت، وعقل متصرف. وكان - رضي الله عنه - يعتمد في فتاواه على إدراك روح الشريعة، وتبين أغراضها العامة، لا على مناقشة المذاهب، وترجيح أقوال الفقهاء؛ ولذلك تأتي فتاواه غالباً مختصرة، وقد تثير خلافاً بين أهل العلم. ومن أمثلة ذلك أنه أفتى فتواه المشهورة بجواز لبس (البرنيطة)، فقامت من أجلها ضجة هائلة بين العلماء وأهل الأزهر يومئذ، فلما أردت أن أفتي في هذا الموضوع انتفعت بموضع العبرة فيه، فأخرجت فتواي التي تجيز لبس (البرنيطة) إخراجاً فقهياً مؤيداً بأقوال العلماء، جارياً على طريقتهم في الاستدلال والترجيح، وبذلك لم يستطع أحد أن يشغب على هذه الفتوى أو يثير في شأنها جدالاً.
2 - في الرقابة العامة
شكرت فضيلة المفتي الأكبر على هذه المعلومات القيمة، ثم توجهت إلى فضيلة المراقب العام أسأله عن آماله فيما يتصل بالتعليم الأزهري العالي، وعن أسلوبه في العمل على تحقيق هذه الآمال فأجاب قائلاً:
- إنني أرجو أن تخرج لنا الكليات الأزهرية في نواحيها المختلفة علماء يمتازون بميزتين:
إحداهما: القدرة على فهم مسائل العلوم فهماً صحيحاً واضحاً لا على استظهارها فحسب؛ وإن لدينا من آثار الأولين لثروة عظمى في سائر العلوم الدينية والعربية والكونية: في اللغة والنحو والصرف وعلوم التاريخ والمنطق والفلسفة وأصول الدين والأخلاق وغيرها. لدبنا كنوز مليئة بالخيرات تحتاج إلى من يفتح مغاليقها ويستفيد منها؛ والأزهري هو الذي يستطيع أن يفتح هذه المغاليق، ويثير دفائنها، وهو المطالب بأن يأخذها من مصادرها، ويستخرجها من منابتها في صبر ومثابرة وحسن إدراك.
والوسيلة إلى ذلك هي غرس المحبة للعلم في نفوس الطلاب والأساتذة فإن الذي يذوق لذة العلم لا يعدل بها لذة أخرى، ولا تصرفه عنها صعوبة من الصعاب، والشعور بلذة البحث أول إمارات النجاح.
الميزة الثانية التي يجب أن يمتاز بها العالم هي القدرة على التصرف فيما يعلم، لإفادة الناس به، وتطبيقه عملياً في جميع شئون الحياة.
والوسيلة إلى ذلك فيما أرى هي تشجيع الكفايات العلمية الممتازة، وبث روح العمل والإنتاج في محيط أهل العلم.
فإذا أخرجت الكليات هذا العالم الذي يمتاز بهاتين الميزتين أمكننا أن نرى رجالاً يدرسون قواعد البلاغة ومسائل الأدب ويكونون بلغاء وكتاباً وأدباء، وأن نرى رجالاً يدرسون أصول الفقه ويكونون فقهاء ومرجحين. وأن نرى علماء يستطيعون أن يدافعوا عن الإسلام، ويردوا هجمات أعدائه بأسلوب العصر وهكذا. . .
3 - في جماعة كبار العلماء
قلت لفضيلته: لقد أطلع قراء الرسالة على تقرير اللجنة التي ألفتها جماعة كبار العلماء برياسة فضيلتكم للنظر في المقترحات التي رفعها إليها بعض أعضائها. فما الذي ترونه شخصياً في المقترحات، ومتى يتم إعداد الوسائل للأخذ في تنفيذها؟
فأجاب فضيلته:
لقد سررت بهذه المقترحات العظيمة منذ أول لحظة، وأعلنت رأيي هذا في جلسة الجماعة الموقرة التي عرضت فيها هذه المقترحات وقلت: إن جماعة كبار العلماء منذ تكوينها مطالبة بهذه الأعمال كلها، فإذا كانت قد تأخرت في الماضي عن القيام بهذا الواجب فلا ينبغي لها أن تتأخر بعد الآن، ولا سيما في عصر حضرة صاحب الجلالة الملك الصالح الغيور على دينه: فاروق الأول أعزه الله، وبأشراف الرجل العالم المصلح المؤمن بفكرته: فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي.
وهذه المقترحات لا يتردد أحد في إدراك ما لها من فائدة جزيلة، ولا في وجوبها على جماعة كبار العلماء، فتلك طوائف الأمة تتشاجر وتتشاحن باسم الدين في كثير من الأشياء: أسنة هي أم بدعة؟ أمن الدين أم ليست من الدين؟ وهذه كتب التفسير والحديث ينظر فيها من يستطيع تمييز الغث والسمين ومن لا يستطيع، وهذه شئون المعاملات التي جدت وتجد للناس، وهم محتاجون إلى معرفة حكم الشريعة فيها بطريقة تقضي على النزاع، وتقطع أسباب الجدل والخصومة، وقد اتجهت أفكار المفكرين وآراء المصلحين إلى هذه الشريعة يلتمسون أن تكون نظام حياتهم، وأساس مدنيتهم، فلا بد لنا إذن من العمل، ولا بد لنا من تلبية نداء الأمة، وإعداد أنفسنا لهذه المهمة السامية.
أنا لا أزعم هذا العمل هين أو يسير، بل أعتقد أننا سنحمل منه عبئاً ثقيلاً، ونضطلع بمهمة شاقة، ولكنني مع ذلك أعتقد أن تضافر القوى، وتعاون الجهود، والإخلاص لله، وابتغاء وجهه الكريم، كل ذلك كفيل بتسهيل الصعاب. لذلك كله أيدت اللجنة هذه المقترحات، وأشارت بإنشاء مكتب علمي للجماعة تمهيداً للأخذ بتنفيذها، ورفعت رأيها في ذلك إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر رئيس الجماعة، وإني ألمس من فضيلته عناية واهتماماً بهذه المقترحات، وأعتقد أنها أصابت هدفه الاسمي في الإصلاح الديني والاجتماعي الذي يبتغيه جاهداً للأمة الإسلامية الكريمة، وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه خير الدين والوطن.
وهنا انتهى حديث فضيلة المفتي الأكبر، واستأذنته في نشره فأذن، ثم انصرفت شاكراً.
م. . .