مجلة الرسالة/العدد 449/تأملات
مجلة الرسالة/العدد 449/تأملات
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ضلت الإنسانية عن ربها وعبدت المال والقوة، ودانت لهما بالطلب والحرص والإكبار؛ وفي سبيل المال والقوة نُسى كل شيء: من دين أو فضيلة أو مبدأ، وفعل كل شيء من:
ظلم وقطيعة وكث. يخدع كلُّ كلا في السلم كما يتخادع أهل الحرب، كأن أيام الناس في هذه المدينة حرب كلها ولكن بسلاح مختلف. فلحرب السلم سلاحها وفنونها وخططها، كما لحرب الدبابة والغواصة والطيارة. ففي السلم يتحارب الناس وتتحارب الأمم بالتجارة وحواجزها الجمركية، وبالصناعة وموادها الخام، ثم بالدعاية والسياسة؛ وفي سبيل ذلك يسخر الأدب بفنونه والعلم بفروعه، تتنافس في ذلك الأمم، وتتنافس في ذلك الطوائف والأفراد داخل كل أمة؛ حتى الفضائل جعلت سلاحاً وسبيلاً إلى الغلب. فالتاجر إن صدق لا لأن الكذب يزري، أو لأنه منهي عنه في الدين، ولكن لأن الصدق يجزئ ويربح، ولو وجد في الكذب ربحاً لكذب. والأمم تتعاهد، فإن وجدت في الوفاء ربحاً وفت، وإن وجدت الربح في النكث نكث. فالمال هو البغية، والقوة هي الغاية، والشهوة هي السائق، والهوى هو الغالب، كأن قد غلب على هذه المدينة في معاملاتها روح الإحراج وقانون الأدغال؛ وما يقول (دروين) إنه كان غالباً على أنواع الحيوان في أحقاب النشوء
ويل للإنسان من نفسه ومن أخيه الإنسان حين يضل كلُّ عن ربه. فلو لم يكن للدين ضرورة، لجعله حال الناس اليوم ضرورة؛ ولو لم يقم على وجوب التدين برهان، لكان ما آل إليه أمر الناس بعد ترك التدين هو البرهان. إلا أن الإنسان يذكر وينسى، ويؤمن ويكفر، ويطبع ويعصي، حسب الظروف في الشدة يلجأ إلى الله، وفي البلاء يكثر من الدعاء، ويستغفر ربه وينيب: يفعل ذلك الأفراد، ويفعل ذلك الأمم، حتى إذا استجاب الله وفرج الكرب وكشف البلاء، نسى الإنسان ونسيت الأمم ما كانوا يدعون الله من أجله، وجعلوا الله أنداداً، وانقلبوا له أضداداً، وعادوا إلى آلهتهم من الشهوة والقوة والمال، كأن لم يكن بلاء وكربة، كأن لم يكن دعاء وتوبة؛ وجعلوا يضحكون من خوفهم الذي كان، وجزموا بأن أسبابه لن تعود!
لقد كانت الحرب الماضية، وجاءت الناس بكرب لم يروا مثله من قبل، فجأر الناس إلى الله وجأرت الأمم، وجعلت تنذر النذر، وتبذر الوعود والعهود، وتقيم الصلوات العامة، تأمر بها الحكومات، ويركع فيها الحكام والملوك. ثم جاء النصر وجاء السلم، فذهبت النذور هباء، ولم تلق الوعد ولا العهود وفاء؛ وكل ما كان هنالك أن جيء بأسماء جديدة أطلقت على مسميات قديمة، فذهب الاستعمار وجاء الانتداب، وذهبت المحالفات وجاءت عصبة الأمم، وعاد الناس وعادت الأمم تبتغي الكسب وتبتغي المال والقوة، حتى كان من الأمم المنتجة من كانت تحرق ما زاد من غلات أرضها لتبيع الباقي من الأمم الأخرى بثمن أعلى، وانحدر المال إلى خزائن بعض الأمم، كما ينحدر الماء إلى مهابطه من الأرض، فجفت بقاع منه وغرقت بقاع، وجاعت أمم وتخمت أمم، وانقلبت الأوضاع واشتد النزاع، وخسرت الإنسانية السلم، فخسرت بذلك الحرب قبله، إذ قامت هذه الحرب
قامت هذه الحرب ماذا كان؟ كان الذي يعرف كل إنسان أنه كان في الحرب الماضية: فالنذور تنذر، والوعود تبذر والصلوات العامة تقام؛ وأصبحت الأمم المتمدينة لا ترى أهنأ من الأمن، واعتزمت في مستقبلها أن تتناصف في قسمة المواد الخام لتعيش إلى الأبد في سلام!
إنها مدينة مجنونة هذه التي تنسى الله وتعصاه في الرخاء بعد أن كشف عنها البلاء، حتى إذا أخذها بنكثها وإثمها جأرت إليه تسأله النجاة ولم يكن لديها ما تتعهد به للناس أو تنذره لله إلا أن تتعايش في سلام، وتتناصف في المواد الخام.
لقد أفلست المدينة الغربية وحق عليها ما حق على المدنيات الخاطبة قبلها. وهاهي تنتسف بقوتها الكامنة التي من الله بها عليها فلم تطعه فيها. هاهي حين فسقت عن أمر الله تنفجر بما اختزنت من علم ومال حولتهما فيما حولت قنابل وطرابيد تلقي من الجو وتنشر في البر والبحر على المحارب وغير المحارب على السواء (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد) إنها مدينة كتلك القرية ضربها الله مثلاً في القرآن: (كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها لباس الجوع والخوف)
إنها مدينة مسيحية اسما لكنها لم تقم قواعدها على نصرانية ولا إسلام. فنصرانية عيسى صلوات الله عليه ليس فيها حرب ولا سلاح ولا استعمار. والحرب في الإسلام لا تكون في سبيل الفرد ولا في سبيل الأمة ولا في سبيل الجنس، ولكن في سبيل الله ليكون الحكم في الأرض لله.
إن الاستعمار الذي ابتدعته مدينة الغرب ليس من الإسلام في شيء، ولا من حكم الله في شيء. فاستغلال القوي الضعيف فرداً كان أو أمة ينكره الإسلام كل الإنكار. وتحكم أمة في أمة بالهوى لا يعرفه الإسلام ولم يشرعه الله. وعلو أمة على أمة وشعب على شعب أو جنس على جنس حرمه اله الذي سوى بين الناس وساوى بين الأجناس ولم يجعل على أحد فضلاً إلا بالتقوى: تقوى الله الذي خلق الأحمر والأصفر والأبيض والأسود. ففيم استعلاء فريق على فريق؟ وفيم تحكم لون في لون أو شعب في شعوب؟ (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير).
لقد عرف الله الإنسانية أيما إعزاز حين جعلها خاضعة له وحده سبحانه في الحكم، ليس لأحد سبيل إلا بحق الله طبْق دين الله الذي بينه الناس واضح المعالم ظاهر الحدود في كتابه الكريم الذي فسره رسول الله ﷺ قولاً وعملاً في حياته الكريمة التي مثلت حياة الأمم وحياة الأفراد كيف ينبغي أن تكون.
لقد علم الله سبحانه أن هذه المدينة المعقدة ستكون، وأن الإنسانية ستقلب في أطوارها التي تقلبت فيها، وأنها ستفتح لها أبواب العلم، وأن هذا العلم سيَفتح لها فنوناً من القوة، وأن هذه القوة ستسلمها إلى صفوف من المشكلات لا تحل حلا حلاً مرضياً موفقاً إلا طبق ما سن الله للفطرة من سنن، وللنفس البشرية من قوانين، عرفت الإنسانية بعضها، وجهلت منها أكثر مما عرفت. فلو أن الإنسانية وكلت إلى نفسها وعلمها وجهدها وحدة ما خرجت، وما أمكنها أن تخرج من ورطاتها التي هي لا بد واقعة فيها بتعمقها في العلم الطبيعي الذي يفتح لها كنوز الأرض من غير أن يريها طريق العدل في استعمالها. فأراد الله سبحانه أن يتم نعمته على الإنسان بأن يجمع له بين القوة وبين الهدى في استعمال القوة، فآتاه العلم، وقبل أن يؤتيه العلم أنزل عليه الكتاب والحكمة ليريه كيف يتقي شر العلم ونتقي خبره بالوقوف في استعماله عند الحدود التي حدها الله فاطر الإنسان وفاطر القوى التي سخرها بالعلم للإنسان.
فإذا كان من عجيب صنع الله للإنسان أن وهبه العقل الذي استفتح به كنوز العلم، فإن أعجب منذ لك أن تفضل سبحانه فأنزل له الدين ليقيه مالا يمكن العقل ولا العلم أن يكفوه إياه من الشرور والأخطار
أقسم أن نعمة الله على الناس في الدين أعجب وأكبر من نعمته عليهم بالشمس أو بالقمر أو بما خلق في الأرض من كائنات ينعم بها الإنسان أو لا ينعم، شكوراً أو غير شكور. إن هذه الكائنات خلق من خلق الله، والإنسان واحد منها يقوي أمام بعض ويضعف إزاء بعض، ينتفع بها أحياناً ويتضرر بها أحياناً، لكن الدين خير كله ونفع كله وسعادة صرفة لمن يتقبله مؤمناً، ويعمل به مسلماً. وأقسم لو سخرت العلوم هذه الكائنات كلها للإنسان وكان الإنسان بتسخيرها يتمتع في هذه الحياة المتعة كلها من غير تعب ولا ملل ولا هَمٍ ولا حزن ولا ضعف ولا مرض حتى إذا مات كان الحساب وكان العقاب إذن لكانت نعمة الله على الإنسان بالدين الذي يقيه عذاب الآخرة ويؤتيه نعيمها أكبر من نعمته عليه بالعلم بقدر ما بين الآخرة وبين الدنيا من فرق وفضل في المدة وطولها، أي بقدر ما بين الباقي وبين الفاني أو بين غير المتناهي والمتناهي من فرق وفضل. فكيف وهذه العلوم لا تسخر للإنسان إلا جزءاً مما حوله، وقد يشقى بما يسخر له منها وقد يسعد؛ وهو في أحزانه وهمومه، ومحاربه ومكارهه، وأمراضه ومصائبه، لا يجد سلوى ولا مخرجاً ولا عزاء إلا بالدين، وبطاعة الله في الدين. وكيف وهو لن يلقي النعيم الصرف الذي لا يخالطه عذاب، والسعادة المحضة التي لا يشوبها شقاء، إلا بعد هذه الحياة في حياة أخرى لانهاية لها ولا أجل إذا كان قد أطاع الله وعمل في دنياه بالدين
على أن هناك معنى في الدين الإسلامي أكرم الله به للإنسان كرامة لا يقوم بها شكر ولا ينقضي منه عجب المتفكر، ألا وهو تفضل الله جل جلاله بمخاطبة الإنسان من كتاب من عنده سبحانه على لسان رسول من البشر تقوم الأدلة القاطعة على صدقه. إن مجرد مخاطبة الخالق كرامة دونها كل كرامة يكبرها ويجلها الإنسان في الدنيا، فكيف والخطاب في كتاب عظيم كريم مبين. الحق سبحانه هو المتكلم فيه، فليس لبشر فيه جملة أو كلمة أو حرف! كتاب من عند فاطر وصفه فيه جل وعلا بصفة الفطرة بقوله: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) أليس من أكبر الكرامة أن يذكر الله الإنسان ولا ينساه، وأنه يوجه ليه الخطاب في كتاب يهديه به سبحانه سبل السلام وسبل الهدى والنور؟ أليس من أكبر النعمة حين علم الخالق سبحانه ضعف الإنسان وجهلاه وما يتهدده من جرائمها من أخطار أن ينزل عليه نظاماً لحياته هو وفق الفطرة التي لم يكن الإنسان ليحيط بها ولا بسنن الله فيها؟
إن العلم شيء وتطبيقه من غير خطأ أو خلل شيء آخر. فلو أن الإنسان أحاط بالقوة علمه لما استطاع أن يطبقها على حياته محكماً لا خلل ولا عوج فيه. بل أن صعوبة التطبيق وإصابة الحكمة فيه لتزداد بازدياد ما يراد تطبيقه وتفرعه. فالإنسانية بقواها العقلية المحدودة أعجز من أن تحيط بالفطرة علماً، ولو علمت لكانت أعجز من أن تطبق علم الفطرة وتنتزع منه نظاماً عملياً لحياة الإنسان في عصر واحد بله جميع العصور
فإن الخالق البارئ الحكيم قد جمع للإنسانية بين علم الفطرة وبين إحكام تطبيقه على الحياة حين أكرمها بالإسلام دين الإنسانية الكامل الشامل الذي أنزله على محمد نبي الهجرة صلوات الله عليه. فاعجب إذن للإنسانية كيف تتخبط وبين يديها الهدى، وكي تشقى وفي متناولها السعادة، وكيف تموت وعلى مقربة منها الحياة؟!
ثم اعجب عجباً بعد عجب من قوم يزعمون من بين الإنسانية أنهم مسلمون إلى الله مؤمنون بالكتاب الذي أنزل والرسول الذي أرسل، ثم هم يعطلونه ولا يقيمونه، ويضعونه ولا يحفظونه، بل هم يلتمسون الهدى في غيره، ويتطلبون الحياة ممن ضل عن روحه ونوره، يولون قلوبهم ووجوههم لا شطر المدينة الإسلامية التي أقامها الرسول بتطبيق كتاب الله فكانت مثلاً عملياً أعلى للإنسانية كلها، ولكن شطر المدين الغربية التي ضلت عن ربها وعبدت المال والقوة والجاه فأداها ذلك إلى التهلكة التي ترى والتي تحاول التخلص منها فلا تستطيع
فريق من الإنسانية بيدهم النور فلا يستنيرون به! وفريق في الظلمات يظنون أنفسهم في نور! أيهما يا ترى أظلم؟ ولأيهما يا ترى تكون النجاة؟
محمد أحمد الغمراوي