مجلة الرسالة/العدد 448/أبو سليمان المنطقي
مجلة الرسالة/العدد 448/أبو سليمان المنطقي
للدكتور جواد علي
أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني المنطقي شخصية من الشخصيات القوية الفذّة التي ظهرت في عالم بغداد في القرن الرابع للهجرة، فأثرت في مجتمعات عاصمة العباسيين العلمية وأنديتها الأدبية تأثيراً يشابه تأثير زميله في المهنة الأديب الفرنسي الفيلسوف (فولتير) في باريس عاصمة الفرنسيين. كان إذا تكلم أقنع، وإذا فاه أسمع، وإذا نطق أسكت، وإذا بحث في موضوع من الموضوعات حلله تحليلاً علمياً منطقياً، فلا يترك لأحد في الموضوع شبهة أو شكاً. وكيف لا يكون كذلك وسلاحه المنطق وهو سلاح اعتبر في عهد العباسيين من أمضى الأسلحة وأقساها، وهو رئيس مناطقة بغداد أيضاً، وزعيم كبير من زعمائهم لا ينازعه في ذلك منازع.
كان للمناطقة في بغداد في القرن الرابع للهجرة دولة ومقام. كانوا لسن الأندية وخطباء المجالس، وكانوا فقهاء القوم وأطباء المجتمع. كانوا كل شيء وبحثوا في كل شيء، ولذلك ميزهم الجمهور عن جماعة الفلاسفة الذين كانوا أكثر اتزاناً في باب العلم وأكثر من المناطقة في الكلام تحفظاً. وقد أطلق على كل واحد منهم لقب (المنطقي) ليميزّوهم بذلك عن الفلاسفة والمتكلمين. وكان عماد أسلحتهم المنطق: منطق اليونان، منطق أرسطو، وفورفوريوس صاحب كتاب (الأيساغوجي) الشهير.
وكان من زعماء الجماعة في القرن الرابع للهجرة صاحبنا (أبو سليمان السجستاني) الذي اشتهر بنبوغه في المنطق، على الأخص حتى عرف به، وحتى لقّب (بأبي سليمان المنطقي). وكان له منتدى يرتاده كثير من طلاب العلم وروّاد المجالس الأدبية من مختلف أنحاء الدنيا. قصده محمد بن عبدون الجبلي من الأندلس، وهو أحد الذين ابتلاهم الله بحب الفلسفة والمنطق ولاقي في سبيل غرامه العلمي ألواناً من القسوة والعذاب. وقصده كثير من أبناء سجستان وتركستان وبلاد الشرق حتى كان منزله مثابةً لأهل العلوم القديمة. وله أخبار وحكايات وأسئلة وأجوبة في هذا الشأن على الرغم من عور كان به، ووضح كان يمنعه من ارتياد منازل الوزراء وكبار رجال الدولة حتى قال في ذلك الشاعر البديهي الأبيات الشهيرة التالية: أبو سليمان عالم فطن ... ما هو في علمه بمنتقص
لكن تطيرتُ عند رؤيته ... من عَورٍ موحش ومن بَرَص
ويأتيه مثل ما بوالده ... وهذه قصة من القصص
انقطع أبو سليمان عن زيارة بيوتات الوزراء ودور أكابر بغداد على الرغم من ميل طبيعي كان فيه يدفعه دوماً إلى تتبع أخبار الدولة والحوادث العامة وسياسة ذلك الوقت، وما كانت تدبره الأحزاب من مؤامرات وفتن إلى غير ذلك من أمور كان كلفاً بها مشتاقاً إلى معرفتها حتى اتخذ له عيوناً وأرصاداً من تلاميذه وأصدقائه ومحبيه يأتونه بالأخبار أمثال أبى حيان التوحيدي صاحب (الإمتاع والمؤانسة)؛ وكان يغشى مجالس الرؤساء ويطلع على الأخبار، ومهما علمه من ذلك نقله إليه وحاضره به. ولأجله صنف كتاب الإمتاع والمؤانسة، نقل له فيه ما كان يدور في مجلس أبي الفضل ابن العارض الشيرازي عندما تولى وزارة صمصام الدولة بن عضد الدولة من أخبار. ولكنه لم ينقطع عن زيارة بعض بيوتات العلم والأدب أو الأنس والطرب، ولم يأنف أن يزور مثلاً رسل سجستان في أيام الجمعة وكان فيهم ابن جبلة الكاتب، وابن برمويه، وأبن الناظر أبو منصور وأخوه، وأبو سليمان وبندار المغنى، وغزال الراقص، وعلم وراء الستارة (جارية) وغيرهم من أمثال هذه الطبقة.
ولأبى سليمان نفس تمثل نفسية الموسوعيين (الأنسكلوبيديين) بكل معنى الكلمة؛ تراه يتحدث عن نظرية العلم والمعرفة فيقول: إن العلم صورة المعلوم في نفس العالم؛ وانفس العلماء عالمة بالفعل، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة. والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل؛ والتعلم هو بروز ما هو بالقوة. إلى الفعل. والنفس الفلكية عالمة؛ بالقوة. وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها ونصيراً لها. وتراه يتكلم عن القرآن والحديث والأحكام بكل إمعان وإتقان وسعة إطلاع حتى كأنك أمام أحد المفسرين أو الفقهاء أو المحدثين. وقد أكسبته هذه الإحاطة العامة شهرة جعلت البعض يكتبون إليه يسألونه وهم في أقاصي البلاد. كتب إليه أبو جعفر ملك سجستان يسأله عن القرآن والعربية والشعر والأحكام.
وتراه يتحدث عن السياسة وصفات الملوك وأنظمة المملكة، فيجيد في الموضوع كل الإجادة ويأتي بنظريات تكاد تكون من أحدث النظريات. فيصل علم ذلك إلى الوزير أبى العارض فيسأل تلميذه التوحيدي وهو من أعلم الناس بأحوال أبى سليمان هذا السؤال: كيف كان كلام أبى سليمان فينا؟ وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا، فقد بلغنا أنك جاره ومعاشره ولصيقه الخ؟ ولا يستغرب صدور مثل هذا السؤال من وزير، فلأبي سليمان مجلس له شأن، ولأبي سليمان دائرة ذات مكانة في البلد ومنزلة.
كانت حلقة أهل المنطق في بغداد حلقة كبيرة ضمنت نخبة كانت لهم ثقافية ممتزجة عالية، لم تكن عربية بحتة ولم تكن يونانية أو فارسية أو سريانية خالصة. كانت تجيد مختلف اللغات، وتحمل مختلف الثقافات. ولقد فضل أهل النظر صاحبنا السجستاني على كثير من زعماء هذه الدائرة ممن كانوا يشتغلون بنفس الموضوع الذي اشتغل فيه السجستاني أمثال ابن زرعة أبي علي عينسي ابن اسحق (ولد سنة 371 وتوفي سنة 448هـ)، وهو أحد المتقدمين في علم المنطق وعلوم الفلسفة والنقلة المجودين، نقل من السريانية بعض كتب أرسطوطاليس، وكانت له عناية خاصة على ما يظهر بكتب هذا الفيلسوف ومنطقه دون فلاسفة اليونان الآخرين. وكذلك أبو الخير الحسن بن سوار بن بابا بن بهرام المعروف بابن الخمّار، وابن السمح، والقومسي، ومسكويه، ونظيف ويحيى بن عديّ وعيسى بن علي. وكل هؤلاء من مشاهير بغداد في ذلك العهد ومن أدبائها الممتازين. فلا عجب بعد ذلك ولا غرابة أن رأينا أن عضد الدولة مثلاً كان يكرمه ويفخِّمه وينزله منزلة خاصة من بين الأدباء المنطقيين.
انتقلت شهرة السجستاني في المنطق من بغداد إلى الأندلس كما انتقلت فلسفة الفارابي والفلسفة الطبيعية أيضاً وكان الذي نقل هذه الشهرة وهذا المنطق محمد بن عبدون الجبلي من أهالي الأندلس، نقلها إلى الأندلس عام 360 الهجرية (971م) أي في السنة التي عاد فيها ثانية إلى وطنه الأصلي من العراق، وللسجستاني كلمات حكيمة تدل على أنه لم يكن يقنع بالحواس الخمس ولا بالتجارب وحدها وإنما كان يرى في العقل وحده القول الفصل شأن الفلاسفة العقليين الذين يرون في الحجج العقلية الدليل الأولى أمثال بار منيدس الفيلسوف العقلي الشهير وفلاسفة مدرسة الأليئاثن وفلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد، وعلى الأخص أمثال دبكارت وشبينوتزا ولايبنتز وولف وأولئك الذين أطلق عليهم الفيلسوف وند اسم المنطقيين المتطرفين وهؤلاء هم عكس الفلاسفة التجريبيين الذين يعتقدون بصحة المعرفة إلا إذا جاءت عن طريق التجربة والمشاهدة والحواس أمثال: لوك وفرنسيس بيكن وجون ستيوارت ميل وغيرهم.
جواد علي
2 - مطالعاتي حول المدفأة