مجلة الرسالة/العدد 445/الصحيفة المثالية
مجلة الرسالة/العدد 445/الصحيفة المثالية
لرجل الصحافة (ويكهام استيد)
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
حاولت فيما عرضته أن أوحي إلى القارئ بما يجب أن تتوفر الصحافة على خدمته من مثل أعلى، وأن أدله على ضوئه إلى ما كان من تقصير الصحافة البريطانية في أمره ونيتها في نهجه وقصورها عنه، وبوسعي أن أتخيل صحفياً أثقله عمل لم يؤده إلى بجهد جاهد ودرى بما يرسف فيه من أغلال وما نصب له من أشراك دراية جامعة وهو يحاورني عن علم وخبرة قائلاً: (عافنا من عسير أرمك يا أخي وترسل فيما يجتال بخاطرك من نسج النظر ووهم الخيال!) فأي نوع من الصحافة يسعك أن تبدعه إذا هيئوا لك الفرصة، وأطلقوا في الأمر يدك؟
هبك كنت (توماسن) بصحيفته (التربين)، أو (الفردهارموث) بصحيفته الناضجة (الديلي ميل) أو (ليفي لوسن) بصحيفته (الديلي تلغراف)، وقل لي لعمرك ماذا عساك صانعه - وأنت مقيد بقيود الصحافة الحاضرة - لتظفر بالحرية وطيب الحياة لصحافة أمست وهي تخضع خضوعاً كبيراً للاعتبارات التجارية؟؟
أغلب ظني أنه حوار حكيم وسؤال عادل، وقد يتأتى لي أن أجيبه إجابة نظرية عما سأل بقدر ما يشق على أن أقارعه الحجة بالحجة من الوجهة العملية الناجحة وأضعها نصب عينيه حقيقة واقعة؛ فهذا شأن آخر له قدره وأثره، وليس يتوفر لجميع الصحفيين من البراعة وبسطة الكف ما يسعهم معه إنشاء صحيفة؛ فقد كان (و. ت استيد) مثلاً صحفياً عبقرياً ورئيس تحرير نابغاً وهو إلى عبقريته ونبوغه قد أخفق إخفاقاً محزناً في إخراج صحيفة يومية، وإني على العموم لست قانعاً بأني أملك لنفسي من الكفاية والأداة ما يسعني معه أن أطالع الناس بصحيفة يكتب لها النجاح من الوجهة التجارية؛ كما وسع (جون) و (ولتر الثاني) صاحب (التيمس)، وليفي لوشن صاحب (التلغراف)، ويوسف بوليترز صاحب (النيويورك ويرلد)، وأدولف أخ صاحب (النيويورك تيمس)، والفرد هارمسورث صاحب (الديلي ميل)؛ في مذاهبهم الخاصة وطرقهم المختلفة، أو كما وسع (لورد بيفربروك) صاحب (الديلي اكسبرس)، ولورد كامروز صاحب (الديلي تلغراف)، (السند تيمس) من أصحاب الصحف الحاضرة. فجميع هؤلاء الرجال قد حققوا آمالهم وطفروا من (الصحافة) بمأربهم باعتبارها من المؤسسات الاستغلالية؛ ولقد كان فريق منهم - وما زال بعضهم - من الصحفيين الأفذاذ
إلا أنه سواء لدى أكانت الصحافة استغلالاً خصيباً أم كانت مستراداً جديباً ما دمت لا أومن إيماناً تاماً بأن ما يرجى للصحف من نجاح تجاري هو أفضل مقياس للصحافة الممتازة الطيبة. فصحيفة (ألوست مانشستر جازت) مثلاً ما تهيأ لها قط أن تعيش من غير أن تقترض، ومع ذلك فأي صحافي يسعه أن يقول إنها لم تكن صحيفة فذة جديرة بالإعجاب. وما كانت صحيفة (ألمانشستر جازت) لتصبح يوماً ما في ذاتها وبذاتها معقد رجاء أصحابها في أن تغدو منجماً ذهبياً وتثميراً رابحاً ولكني إلى ذلك لا أرى لها من تفوقها الممتاز نظيراً في أي قطر كان
إن ما أنشده من مثل أعلى للصحافة لينطوي في تقصي واستيعاب نوع الصحيفة التي سيكون بوسعها أن توفق بين رسالتها المعنوية وما تترقبه من ثروة مادية من غير أن تضحي في هذا النهج الدقيق بشيء من النزاهة الصحفية والخلق القويم
وما إن يحفل خاطري بالآمال الحسان شأن غالبية الصحفيين حتى يتملكني العجب أحياناً، وأسائل نفسي: أي نوع من الصحافة يجمل بي أن أخرجه للناس إذا ما اجتمع لي من الجنيهات مثلاً مليون أو يزيد، وأطلق لي التصرف فيه. فكان بوسعي إما أن أبدعها صحيفة جديدة لنفسي، أو تطلق يدي في صحيفة من الصحف الحاضرة لأغير أسلوبها وأقوم نهجها وأجعل طابعها وفق ما أريد؟؟ وهل يتيسر لصحيفة تثقلها تلك القيود التي يخضع لها الآن: (الإنتاج الصحفي) أن تحرر من أغلالها وترتفع فوق مستوى ما يقيدها أو ترجعه إلى الوضع الذي يسعها معه أن تسترد حرية الصحافة وتصونها؟
الجواب عندي أن هذا الوضع هو ما يجب أن يكون، ولو أني لا أنكر أن الرجل الذي يتهيأ له أن ينهض بهذا العمل قد يكون بحاجة إلى كفاية أسمى شأناً ومقدرة أبعد أفقاً مما يسعني أن أظفر به أو أطمع فيه، وقد تعمل ضرورة الساعة على بعث هذا الرجل وقد لا تعمل. ففي الحرب العظمى كانت هنالك حاجة ملحة للبحث بين جيوش الحلفاء عن قائد حربي ذي رأي عبقري وكفاية فذة ليتولى أمر القيادة العامة، وهبهم لم يعثروا بهذا الرجل أفكان ذلك أو لم يكن لأن الحالة آنئذ بلغت من التعقيد والإعجاز مبلغاً لا يسمح بالسيادة لأي رجل كان؟؟
لقد أتيح لي في أوائل عام 1921 وقبل الذكرى المئوية لوفاة نابليون بأسابيع قليلة أن أسأل المارشال (فوش) (الذي عرف عن نابليون أكثر مما عرفه أي قائد آخر من قادة الحلفاء) عما إذا كان قد همس بضميره يوماً ما وهو القائد العام لقوات الحلفاء والجيوش المتحدة في أواخر الحرب العظمى الماضية أنه كان بوسع نابليون لو حل محله أن يكون أوفر منه كفاية وأحكم قيادة وأكثر توفيقاً أم كانت طبيعة الظروف الحديثة من شأنها أن تجعل من نابليون رجلاً أدنى قدراً وأقل شأناً. وقد أجابني (فوش) أنه كثيراً ما وجه لنفسه هذا السؤال بعينه إبان الحرب العظمى الماضية ووقتما كان يمر بقبر نابليون في (الأنفاليد). وأن رأيه قد استقر آنئذ على ما امتاز به نابليون من البطولة الفذة والقلب الصارم في كفاحه ومن الكفاية الممتازة والبأس الصادق في الاضطلاع بالصعاب ومجالدة الأعداء كان من شأنه أن يمكنه من التسلط على الحرب الحديثة في قرابة الستة أسابيع. قائلاً: (وآنئذ كان يسع نابليون أن يضع لجيوشه خططا وأساليب جديدة ويبدع للحرب فنوناً لا عهد لها بها من قبل ثم يعمل ما توفر له من عبقرية ودهاء في أن يضرب أعداءه وقد هالهم الفزع الضربة القاضية.
وأغلب ظني أنه على هذا النهج بعينه يسع منشئ الصحيفة النابغ أن يسيطر على ما يصادفه عقبات جسام في طريق إنشاء الصحف الحديثة سيطرة تامة تنعكس معها آية تلك العقبات فإذا هي فرص مواتية وصفقات رابحة. وإذا هو يحدق بأعدائه المناهضين لمشاريعه فيهزمهم هزيمة نكراء قبل أن يتنبهوا إليه من حيث لا يعلمون. وغالب الأمر من نجاحه أنه رهن كفايته في قراءة ما يجول برءوس أبناء الأجيال الناشئة والإفصاح لهم عما تحفل به رءوسهم من أفكارهم وتوجيههم إلى ما تطمح أنفسهم له وتنصرف أمانيهم إليه لو أنهم اهتدوا إلى سبيله.
ولعهد غير بعيد بعث كاتب برسالة لصحيفة (ألمانشستر جارديان) رثى فيها لحال أبناء هذا العصر لما يستبد بهم من شعور بحاجتهم إلى مثل أعلى يعيشون له أو يموتون في سبيله إذا دعتهم الحاجة إلى ذلك. وكان جماع رأيه أن حياتهم بحاجة إلى نصيب من الصفات الروحية والمقدمات المعنوية. ويغلب على ظني أن ما شكاه من أمرهم قد بنى على أساس صحيح. فالناس قد اختلط عليهم الأمر وفترت عزائمهم وضلوا السبيل، وهم - ولا سيما شبابهم - يزجون بأنفسهم في ميادين الخطر ومسارح اللهو حيثما يكون أعظمهم مخاطرة أفضلهم شأناً. وكثير منهم عاملون على الاحتفاظ (بكفايتهم) لركوب هذه الأخطار. ولو أن قليلاً منهم يسعهم أن يجيبوا هذا الناشئ الموفور القوة على ما يسألهم عنه وقد تملكه العجب من احتفاظ الرياضي بكفايته من غير مران يعتصم به قائلاً: (لقد أنفقت جميع أوقاتي في الاحتفاظ بكفايتي. ولكن علام احتفظ بهذه الكفاية؟؟)
لقد أصبح الكثير وهم من (هواة الطيران) الذين لا يتهيبون أن تمزق أوصالهم وتتحطم رؤوسهم. أو ممن يتولون قيادة (سيارات السباق) ليندفعوا بها في سرعة طياشة قاتلة. كما أصبح المتقدمون في السن منهم وهم يرقصون تلك الرقصة الشاقة المضنية المسماة برقصة (الجاز) أو يلتمسون الرياضة العقلية في (حل الألغاز). أما شأنهم في الميادين الاجتماعية ونصيبهم منها فيا لهما من شأن موجع ونصيب منقوص. فهم بالإضافة إلى الشئون العامة ليس لهم من عقيدة تصدر عن تفكير رشيد. وهم لا يؤانسون في التعلق (بالوطنية) بدورها ما يشبع جل رغباتهم وإن كانت (الشيوعية) بالقياس إلى غيرها قد أمست وهي تجذب إليها قليلاً منهم. على حين أفل نجم داعي (الاشتراكية) - وهي صورة مخففة وطابع معتدل من الشيوعية - ففقد بريقه وضيع الافتنان به. وما برحت النازية أو الفاشية وهي أقل شأناً من أن تلفت أنظارهم إليها كعلاج ناجع لجميع الأدواء الاجتماعية. وهم إلى ذلك كله لم يظفروا من الإلمام بالمبادئ الحرة إلا بنصيب هو من قلة المحصول وضآلة الشأن بحيث لا يصلح لأن يكون وحياً للخاطر أو مصدر للإلهام. ولو أن غالبهم يميل إلى المبادئ الحرة ميلاً تقليدياً لا يصدر عن خبرة صحيحة أو إدراك سليم. وهم وقد صارت تلك المبادئ التي ينادى دعاتها بوجوب صيانة السلام العالمي ويزعمون أن القضاء على الحرب أمر محبوب ميسور وهي أجنبية عن فطرتهم، نجدهم ينفرون من الحرب ويشق عليهم أمرها. وهم يبحثون عن أشياء أجل من حياتهم شأناً وأعظم من أنفسهم قدراً يقفون عليها حياتهم وأنفسهم ولكنهم لا يملكون لها طولاً ولا يستطيعون إليها سبيلاً. وهم لم يظفروا من نتاج الأدب وخطب المنابر ومن سياسة الساسة وتشريع البرلمان ومن فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء إلا بما هو كالسراب من الماء أو الحصباء التي لا تنفع أقواماً يفتقرون حقيقة إلى الخبز.
يضاف إلى ذلك كله أن انطباع الحياة بذلك الطابع الآلي المطرد الأسلوب من شأنه أن يفوت عليهم الفرصة في الانتفاع بجهودهم وتجديد نشاطهم.
(البقية في العدد القادم)
زين العابدين جمعة