انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 441/الحياة صادقة!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 441/الحياة صادقة!

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 12 - 1941



(إلى ضحية الحرمان والأحزان النابغة (مي)!)

للأستاذ عبد المنعم خلاف

هذه الشعلة التي تسكن جسم الحي، تتطلب إحساساً كاملاً بها وذوقاً مستوعباً لها يتملاها ملياً، وينهل من حرارتها عباً ورياً. . .

هذه الشعلة تنادي الجسد أن يحيا ليحيا بها، ويُمدها بوقود ليستدفئ ويستضيء. . .

إنها كمعنى النار: حرارة في جسم حار. . . عرض على جوهر لا انفكاك بينهما، ولا استقلال لوجود أحدهما عن الآخر. . .

إنها لا تغتفر لمن يحاول كبتها وإخمادها، وإنما تختفي فيه فتُصليه وترديه. . .

شعلة الحياة هي أكبر هبات واهب الحياة؛ لأنها نفحة من وجوده الخالد! فكيف يأبى العود الأخضر أن يدب فيه النماء، ويتسرب فيه الماء، وتنبثق منه البراعم ذات الأفراخ الزغب، والأوراق الخضر، والزهرات النضر، والثمرات الصحاح المملوءة بأسرار الحياة؟!

لا جرم أن يصير هذا العود المتأبي على عوامل الحياة والنماء حطباً يحترق بعوامله الذاتية ويموت في موضع الحياة، حتى تأتي يد الحطاب فتأخذه لنقذفه في النار، وتنفي منه صفحة الحقل الخصيب. . .

إن الحياة صادقة، وذوو الفلسفات الذين ينادون بالحرمان من ينابيعها كاذبون!

إنها لا تحابي أطفالها الذين يأبون رضاع أفاويقها، ولا تمكث بجوارهم لتعللهم طويلاً إلا ريثما يدركون وجهاتها ويصيرون صالحين لحمل شعلتها ذات الأمانات والأسرار ثم تجازيهم على العقوق والمخالفات. . .

فلتحذر القلوب الشابة الشاعرة التي قد يخدعها ما في الفن من تزاويق وضباب ملون، أن تستلم لخطفات الشعراء المتشائمين، وأخذات الرهبان المتسامين، وشطحات المتصوفة المنقطعين. . . أولئك الذين يسيرون أحراراً من قيود الأرض لا يعيشون في عش. . . وإذا عاش الإنسان في عش خضع لقوانين الأرض، وارتبط بها كارتباط الحيوان والنبات بحبل الذرية. . . فلم يفكر في الشرود.

وأني له الشرود ودواعي الأرضية تناديه في قلبه بالعواطف الأبوية والزوجية، وفي جسمه بالمحافظة لمقاومة عوامل هدم العش، وفي فكرة بالتدبير للاقتناء والتوريث. . .!

أما إذا ظل متفرداً حتى جاء أوان الإدراك الكلي، وحان بلوغ الأشد، فسيموت في نفسه الخوف من الحياة والحب لها، وحب الارتباط بالواقع. . . وسيكفى التدبير والعمل للاقتناء والتوريث، وسيستمر حتى يخلص فكراً طليقاً بعيداً عن قيود الأجسام وضرورات الأرض، ويكون قلبه وكراً لساكنات غريبات من الأفكار والأوهام، كما يكون الركن الحرب مسكناً لطيور وحشرات لا تحبها الحياة، ولا تحب هي نور الحياة. . .!

لن يجدي الإنسان شيئاً أنه يقف على ملء يديه بالأضواء والرياح والمياه، وما لا قبض عليه ولا محصول يدوم منه إلا صوراً بيانية في ورقات جافة. . .

إن الحياة هي كلمة الله النافذة إلى القلوب، لا يحسها إلا من يحملها بأعبائها، ثم يحاول أن يسلمها لغيره. . . وقد أودعها الله قلب آدم، (فجعلها كلمة باقية في عقبة إلى يوم يرجعون. . .)

إنها كلمة السر! من لا يعرفها لا يستطيع أن يسير في المسالك والدروب التي طرقتها أرجل القافلة منذ فجر الحياة إلى يوم الناس هذا. . .

كثير من المتطلعن المتوسمين لما يولد في الكون من عجائب يحبون أن يروا مخدوعاً شاذاً يأتي إليهم بطبائع غريبة وألوان مستحدثة من الحياة والتفكير. ومن هنا كان إعجابهم بأمثال (أبي العلاء) و (نيتشه) و (شوبنهاور) وغيرهم من المتشائمين المتشككين الذين أبوا أن يمدوا أيديهم إلا الحنظل والأشواك ويتركوا ما في الحياة من تفاح وأزهار. ومنشأ إعجابهم بأمثال هؤلاء أنهم يحبون أن يروا الشذوذ ليدركوا منه القاعدة العامة التي تنتظر حياتهم.

إنهم يحبون أن يروا الضحايا المصلوبين ليتخذوا منهم مادة لأقوالهم وخيالهم وتأملاتهم.

وكثيراً ما يخدع الشباب المفتون بهذه الحياة الشاعرة الحادة المتشائمة المنطلقة من قيود الأرض التي لفتت النقاد والمتكلمين ودعتهم إلى التحليل وإضفاء النعوت والألقاب وضفر أكاليل الغار ونثر الأزهار. فيحب أولئك الشبان الشعراء أن يحوزا مثل تلك الشهرة ولو أصابتهم أوجاع المصلوبين والمحرومين. . .

ولكن ما جدوى الشهرة وأكاليل النار على من أقفر قلبه من بشاشات الحياة؟ وعلى من رأى الحياة عبئاً ثقيلاً يود الفرار منه ولو إلى جهنم؟ إن السعادة لن يكون منشؤها غير الفيض الذاتي من القلب الذي يتصل بأعماق الحياة ذات المسرات الأصلية. ولن تأتي بها شهرة أو مال أو ألقاب يخلعها عشاق الأعاجيب.

فليحذر الشباب أن يصدقوهم ويكذبوا الحياة. . .

كلا. لم نخرج إلى الوجود لنفهم أنفسنا عن أطايبه إلا ما يه تأثيم ومساس بحقوق الجماعة التي تنمو بينها عوامل الحياة

فلنأخذ طوعاً من الوجود كل طيب مريء كما نحمل كرهاً على تناول الخبيث الوبئ من آلامها. . . وليس من العدالة أن نقبل الألم ونأبى السلامة، إلا إذا أردنا أن تكون حياتنا سلسلة من النقمة والسخط والوجيعة واجتراز الأحزان ورؤية الحياة من وجهها المظلم وحده. . .

ولندفع أنفسنا إلى غايات الكبرى في شئ من الخديعة والتلبيس كما ندفع الأطفال إلى غايات مستقبلهم. . .

وإن الاعتراف بازدواج المساءات والمسرات في الطبيعة هو أول أسس النجاح واجتياز محنة الاختبار في هذه الدار. ونكون سعداء حينما تخرج من هذه الحياة متوازنة فينا نواحي الآلام والمسرات. ونكون أسعد حينما متفائلين طيبة نفوسنا راضين عن الحياة وواهب الحياة. . .

وإن الأقدار ترمينا بيد السوء لتمسح عنا بيد النعمى. فإذا وقعت علينا إحدى اليدين فمن الفطنة ألا ننسى أن الأخرى وراءها. فواجب أن نفر من الحزن ولا نحسبه ضربة لازب، وألا يطيش بنا الفرح فحسبه ضربة لازب. . .

عينان لعينين، وشفتان لشفتين، ويدان ليدين: تريان وتذوقان وتذودان!

تلك شركة إنسانية أرادها الله وطبع عليها الحياة. فمن رأى بعينيه وحده لا يرى نفسه. . . ومن ذاق وحده قتل حسَّه. . . ومن زاد وحده لم يحمِ جنسه. . .

شركة أرادها الله ليخرج من بينها أيدياً وشفاهاً وعيوناً تنظر وتذوق وتعطي شعلة الحياة حطباً، ونواميسها عملاً، وطواحينها طِحناً. . .

هذا الجنس الطيني لن يكون ملكياً خالصاً وهو في الأرض والمطلوب منه ألا ينسلخ ويتجرد من قوانين التراب. ومن قوانين التراب المزاوجة والتجمع والمؤلفة بين المتشابهات. فبدوات الآمال المحررة، وأحلام الانطلاق الكلي لم تخلق لهذا العالم الأرضي، وإنما هي نماذج مما سيكون هناك. . . تراها أرواحنا لتتعلق بها وتعمل على بلوغها بعد الرحلة. . .

والناس يحيون هنا بالجسد أكثر مما يحيون بالروح. فهم إن عجبوا من المتحررين من الأجسام فما ذاك لأنهم يريدون اقتفاء آثارهم، وإنما يقفون أمامهم لحظة أو لحظات ثم ينفلتون إلى غمرات الحياة ذات السحر والسلطان الآسر القاهر!

فلا تأخذنكم خواطف العزلة يا شباب الشعراء ولا تتخطفكم الأشباح والأوهام من رحاب الجماعة وأحضان الطبيعة ذات المنطق العملي؛ فإن لذلك عقاباً صارماً وثمناً غالياً يدفع من الأعصاب والدماء وقوى الجسد والروح. ولا مقابل لذلك إلا قبض على ريح، ومضغ لماء، واغتراف من سراب!

ما نحن المتكلمين تجاه وجه الحياة الواضح المعروف إلا نكرات مبهمة لا يعرفها أحد. أما هي فوجهها معروف السمات صادق القسمات. فإذا طالعنا الناس بوجوه مخالفة لها كذبونا وصدقوها. . .

وما منطقنا تجاه منطق الأبد العميق الذي يجر الأحياء إليه بقيود وحبال من سحره الخفي، إلا منطق تافه ذو صوت خافت تذهب به ضجة الحياة ذات المراكب الثقيلة والمواكب المتلاطمة. . .

فليكن وجه أدبنا صورة من وجه الحياة الصادق. . . وليكن منطقنا منتزعاً من منطقها الصارم. . . ليكونا أدباً ومنطقاً يخدمان أهداف الحياة ويخففان أعبائها. . .

وليكن عرضنا للآلام والأحزان عرض المذكر بدولتها على النفوس حتى لا تطيش بها الأفراح والمباهج، لا عرض الذي جعلها محور فنه. وليكن أدب الحرمان بمقدار الحرمان الذي في الحياة، لا يزيد عليه ولا يجترُّه. . .

والحياة وَهُوبٌ معطاءٌ أكثر مما هي بخيلة ضنينة. فليكن تصويرنا لها بالفن كما هي، بل إن استطعنا أن نزيد بالفن ألوان مسراتها وأنواع عطاياها فلنفعل. . .

إن الحياة هبة عظمى ثمينة من واهبها! فلنعرف لها مقدارها. . .

ولنهتز مع أعوادها الخضر للرياح والنسمات والأنداء والأضواء اهتزاز النماء والإنتاج والإثمار وإعطاء الأسرار للأبناء بعد أخذها من الآباء. . .

ماض (مَيّاً) لو عاشت (أنثى) للبيت والأمومة والفن المخفف بدل تلك الرهبانية التي اختطفها من رحاب الحياة وانتهت إلى اختطافها من صومعة الفن كذلك؛ فحرمت العروبة وحرمت الأدب من أعذب صوت نسوي يشدو ببيان عربي؟

إن الفن تفر إليه النفس لتخفيف أعباء الوقع؛ فينبغي ألا يتخذ غذاء دائماً للنفس وإلا فقد سحره وأورث النفس سآمة لا دواء منها. ومن أين الدواء وقد صار (أفضل ما في النفس يغتالها). وصارت الغصة مما كان يزيل الغصة؟!

وما كان ضرها لو مرت بموت أبويها كما يمر سائر الناس بموت الآباء والأمهات: بكاء على الفراق حتى نتعود الفراق، فيندمل الجرح وننسى إلا في ساعات الذكرى التي لابد فيها من استحضار صور الأحباب والأعزاء الذاهبين، فتدمع عيوننا دمعاً لذيذاً رقيقاً يغسل غشاوات القلب بما غير حميم لذاع. . .

إن احتجاز الأحزان الثقيلة واجترارها أعظم ما يبتلى به القبل به الأعصاب ويمحو بشاشات الأيام ويحبس النفس في جدرانها تحت ظلل من الخواطر القاتمة. . .

مسكينة (مي)! استغنت عن صداقتها ومجالس أسمارها وأحاديثها في أشد أوقات حاجتها إلى السلوى بها!

لقد نجاها الموت من عذاب مثلث الأوجاع: التفرد، والشكل، والمرض. . . وما كان لأنثى أن تحمل مثل ما حملت وتنهض به. . .

عبد المنعم خلاف