مجلة الرسالة/العدد 44/يوم الجمعة
مجلة الرسالة/العدد 44/يوم الجمعة
كان أمس الأحد، ومن قبله كان السبت، ومن قبلها كان الجمعة! ثلاثة أيام تتعاقب في مدار الأسبوع تعاقب الجياد في مضمار السبق! يحمل كل منها في رأسه علم دولته، وعلى صدره عنوان ملته، ويشرق على قومه في المسجد أو في الكنيس أو في الكنيسة إشراق الحب في الفؤاد الغرير، أو الإيمان في النفس الرضية، فيؤلف ما نفر من القلوب بالمودة، ويعود بما شرد من النفوس إلى الجماعة، ثم يكون في البيت مصدر انس وبهجة، وفي المدينة مظهر استقلال وعزة. ولقد كان فيما سلف من مؤاتاة الدهر شأن يومنا في الأيام، كشأن قومنا في الأقوام: صدارة يكنفها جلال مُلك، وأمارة يسندها سلطان دين، وعيد يأتلق جماله في كل مكان وفي كل نفس، وفترة تحدد للناس مواقيت العيش ومراحل الزمن، وكان له في أدب الدين قواعد مقررة، كالاغتسال، والطيب، واتخاذ الزينة، وشهود الجماعة، ومودة القربى، وصلة المساكين، وترفيه البدن بالراحة، وتطهير النفس بالعبادة، وإعلان مجد الله بإعزاز دينه، وسلطان الشعب بإعلاء أمره؛ لم يكن السبت والأحد يومئذ إلا شعاعا لضوئه واتساعا لمداه!
ثم غيرنا فغير الله، فإذا بالتابع يأخذ المهلة على المتبوع وإذا يوم الجمعة يصبح طرفاً في ذيل الأسبوع، فلا تخشع له أسواق العالم كيوم السبت، ولا تسكن له حركة الدنيا كيوم الأحد، ولا يبقى له من الرعاية عند أهله، إلا إغلاق دور الحكومة في وجهه!
استعرض هذه الأيام الثلاثة بالاعتبار والموازنة، تجد كلا منها صادق الدلالة على حال أهله، فيومنا يجيء كما ترى خافض الجناح، خافت الصوت، حائل اللون، مخضود الشوكة، مغموط الحق، لا يدخل في حساب الناس، ولا يقدم ولا يؤخر في حياة المجتمع!
فمظهره الديني تضاءل حتى صار صلاة الجمعة عادية لا يقيمها إلا القرويون الطارئون على المدينة، والحضريون الفارغون من العمل!
ومظهره المدني انحصر كما قلنا في عطلة الحكومة. ومن المؤونة المعجزة ان تطلب العطلة وما يتبعها عند غير الحكومة، فان جمهور الشعب أما تاجر يتبع في نظامه البنوك الأوربية، وأما عامل يخضع في عمله لرؤوس الأموال الاجنبية، فلم يبق إلا الموظفون الرسميون، وهم وحدهم الذين يستطيعون بما تهيأ لهم من اليسر والفراغ إجلال هذا المظهر، وإعلان هذه الشعيرة، فتعال ننظر كيف ينقضي هذا العيد في بيت الموظف ف البيت الذي الهمني هذا المقال أسرة مسلمة عميدها موظف كبير، وأسرة يهودية كاسبها تاجر صغير، وأسرة مسيحية عائلها مستخدم متوسط.
ففي يوم السبت ينبعث في المسكن اليهودي تاريخ إسرائيل بأساطيره وتقاليده وعقائده، فالتوراة تتلى، والصلوات تقضى، والذكريات تستيقظ، والمجارى الروحية تتحدر من الأجداد إلى الأحفاد فتوثق الروابط، وتجدد القوى، وتهون العظائم، ثم تخرج الأسرة بأسرها، في زينتها وبشرها، فتتناول عشاءها في مطعم سأمر، وتقضي أمسيتها في ملهى ساهر وفي يوم الأحد يحول المسكن المسيحي إلى عرس أنيق مترف: فالأسرة تعود من القداس في ألوان الزهر وافواف الوشى، والغرف تضحك من طلاقة النفوس واتساق الأثاث، والمائدة المزهرة تحفل بأفانين الشراب السائغ والطعام الهنئ، والبيان الفخم تحت الأنامل الطفلة يقطر بالنغم العذب واللحن البهيج، والفنغراف يدور بأناشيد الرقص فيسمى البهو بالزائرين والزائرات أشبه بأعشاش الربيع كلها مناغاة وهديل وهزج! وفي يوم الجمعة يصبح المسكن المسلم عابسا كالكهف، ساكتا كالمقبرة!
فالبك قضى ليله سهران، فهو نائم نومة الضحى! فلا تسمع حسا ولا حركة، إلا صوتا شديد الخفوت، يستعين بالإشارة على ان يهمس الحين بعد الحين:
- هس سس س! خفض من صوتك! خفف من مشيك! لا تلعب بهذا! لا تعبث بذاك! أبوك نائم!
والبك يأخذ حمامه الأسبوعي الحار فيشغل الحمام ساعتين! فتمضي الظهيرة والفتاة لا تستحم، والعجوز لا تتوضأ!
والبك مدعو إلى العشاء، عند بعض الأصدقاء، فالمطبخ بارد هادئ، وطعام اليوم بقية طعام الأمس!
والبك يتهيأ للخروج، فالأسرة كلها في خدمته: هذه تنظف البدلة، وتلك تمسح الطربوش، وهذا يذهب برباط الرقبة إلى الكواء، وذلك يستعجل الخادم بالحذاء، وأخيراً يخرج البك!! فيتنفس البيت الصعداء، ويستروح المكروب نسيم الرخاء!
وهكذا يمر عيد الأسبوع على هؤلاء القوم، وهم يقولون يا الله ما اثقل روح هذا اليوم!!
احمد حسن الزيات