انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 437/البحر. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 437/البحر. . .

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1941



(البحر لا ينام وفي يقظة البحر تعزيه لروح لا تنام)

(جبران)

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

ضاقت نفس الشاعر بالأرض اليابسة التي تزدحم بالمدن، وتعج بالحركة، وتضيق بالتقاليد، وترهق بالأوضاع والمظاهر، فانطلق إلى الماء الفسيح، إلى البحر الطليق، يلتمس عوناً وملاذاً. وأقترب منه رويداً رويداً وهو يشخص ببصره إلى زرقته من بعيد، وصوت أمواجه المتلاطمة يعلوها الزبد يضرب في أذنيه، ورائحة البحر الملحة تملأ صدره، ورياحه تتخلل غصون الشجر، فتهتز وتتمايل، وتخرج منها أصوات تجاوب أصداء البحر. وأخذ الشاعر يطيل السير وحيداً على شاطئه دون أن تسمع صوت أقدامه، وهو ينظر مطرقاً إلى هذه الأمواج تصطفق ثم تنساب على الشاطئ. ويتأمل ويفكر ويحلم وينعم الطرف فيما هو قريب وفيما هو بعيد، إلى أن يضيع نظره فيما وراء الأفق، في رهبة وسكون

ثم يقطع تفكيره وسكونه أصوات حوله فيتلفت، فإذا به يرى أنماطاً من زبانية البشر، من عبيد الأرض، يهرعون إلى البحر لكي يطفئوا نيرانهم، ويطهروا نفوسهم من الآثام والخطايا. ويلمح الشاعر في ناحية قصية نفوساً هالعة وقلوباً دامية تصرخ من أعماقها في الظلام. . . فيسارع إليها ويدرك شكاتها لأول نظرة. . . فتثير في نفسه كل هذه الرؤى كوامن الشجن، وتهتز مشاعره، وتنهمر دموعه الملحة الساجيات غزيرة مختلطة بماء البحر المالح. ويحس البحر الواسع الرحيب هذه النيران، ويلمس تلك الخطايا والأشجان، فيقبلها ولا يلفظها. ويطهر الآثام، ويأسو الجراح

وترك الشاعر مكانه واعتلى ظهر سفين مطوفاً إزاء الشاطئ فشاهد صور اليابسة وألوانها. فهذه رمال وكثبان صفراء، تعلوا من بينها باسقات النخيل، وتنحسر عنها مياه البحر الزرقاء؛ وتلك جبال شاهقات تكللها الخضرة، وأخرى صخور جرداء شامخات توازن بارتفاعها عمق البحر؛ وأولئك هم الصيادون والغواصون يجمعون اللآلئ والمرجان والأصداف والأعشاب من كنوز البحر وعجائبه؛ وهاتيك الطيور البيضاء تهبط إلى سطح الماء تلتقط الأسماك كانا تشكو عصف البحر، فتعلو في جوف الطيور إلى الفضاء؛ وهذه الجزر وتلك الصخور المتناثرة تحيطها مياه البحر، وتتكسر حولها أواذيه، ويتصاعد، على جنباتها رشاش الماء الأبيض؛ وهنا ينبثق نور الفنار المتألق، يشق حجب الظلام الحالك، ويرسل شعاع الأمل وسط الضباب الكثيف

ويبتعد السفين صوب البحر قليلاً قليلاً حتى يختفي الشاطئ عن البصر، ويتهادى أياماً وليالي طوالاً والأفق كله ماء وبحر، تلونه أطياف الشمس وأعماق البحر؛ فهو أزرق داكن، وطوراً أغبر مصفر. ويمر السفين فوق جوف البحر. إن قاعه أرض وصخور ووديان وجبال وبراكين وقارات وعوالم ساكنة ومتحركة في أعماقه منذ الأزل. إنه عميق جداً. لا يصل الإنسان إلى قراره. ولا يعلم أحد كل ما طواه في صدره. ما الذي طواه بالأمس، وما الذي سيطويه في الغد.

إنه يحمل الأطفال من البشر فوق سطحه الفسيح في رفق وحنو. إنه يجول بهم ويستقبل الشمس إذ تبزغ في الصباح وترسل نورها فوق محيطه الواسع، وتغرب عند الأصيل وهي تودعه بأشعتها الأرجوانية. وفي الليل الصافي الساكن تتلألأ السماء بالنجوم البراقة، ويبدو القمر هلالاً ساطعاً خلال السحاب الخفيف، فتنعكس أشعته الفضية على صفحته اللامعة، والنسيم يلمس أمواجه المهتزة المتلاقية. إنه هادئ وادع أليف. إنه يطرب. إنه يبتسم وينشد ويترنم.

وفجأة يكفهر الجو، وتتلبد السماء بالسحب، ويومض البرق نذير العاصفة، وتشتد الريح، ويقصف الرعد مدوياً، ويدفع الإعصار أمواج البحر شاهقة تطاول السحاب، ثم تعود فتنكسر وتهوي على صفحته الصاخبة. إنه غاضب. إنه ثائر عنيف. إنه جبار. إنه يدوي بصوته الغاضب إلى عنان السماء. إنه رائع. إنه هائل جداً. إنه يطوح بالسفن فوق سطحه، ويقذفها عالية فوق أمواجه، ثم يهبط بها في لجته السحيقة. إنها ألاعيب تحمل طرزاً من الكائنات ترتدي أثواباً زرقاء وحمراء وصفراء. إنها دمى يمحو البحر ما بينها من قرون اليابس، ويذيب عنها خيلاء الأرض. وكلها تتساوى وتصغر وتتضاءل أمام جبروته. ويفرق واضحاً أمامها الحد بين الأمس المعلوم وبين الغد المجهول، فتتأرجح كلها بين الحياة والموت في لحظات رهيبة. . . ونبتون يطلق ضحكاته في الفضاء ساخراً!. . . ثم تنجلي العاصفة، وتسكن الريح، ويعود البحر هادئاً وادعاً أليفاً، ويداعب هذه الخلائق التي أرهقها غضبه وثوراته. . . وحينئذ تثوب النفوس إلى رشدها، وتعرف القلوب دناءة الأحقاد وصغارة المطامع، وتنقشع عن البصائر غشاوة الباطل وزور البهتان

أيها البحر العريق! يا أبا الأرض ويا أصل الوجود ويا معلم الإنسانية. . . أيها الحاجز بين القارات، أيها الواصل بين العوالم، يا من أجرت سحبك انهار الأرض، وأقامت أمطارك معالم المدنية. . . ويا من على سطحك جرت الفلك تحمل ثمار الحضارة. . . ويا من شهدت أعطافك جولات القراصنة، وسجلت أمواجك التحام الأساطيل. . . ويا من خشعت مياهك فأفسحت الطريق لبني إسرائيل ثم أطبقت على آل فرعون من القوم الظالمين. . .!

أيها البحر العظيم! لقد عبدك الأقدمون، ورسم أطيافك المصورون، وردد صدى أنغامك الشعراء والموسيقيون. . . انك هادئ صاف رائق. إنك ثائر عاصف عميق. إنك جميل أزرق. إنك مانع جامع. يقرأ الشاعر على صفحتك ما لا يسطره القلم، وما لا يقرأه الأميون من الناس. إنه ينصت إلى أساطيرك وقصصك. إنه يستلهم معانيك ووحيك، ويبهره جمالك وجلالك، فلا يطيق النظر إليك، ويغمض العينين دونك، وتشيع في نفسه رائحتك، وتمر في خياله ذكرياتك وصورك

حسن عثمان