انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 437/أومن بالإنسان!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 437/أومن بالإنسان!

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1941


12 - أومن بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

التحرر من التاريخ - نحن غير البائدين - تلاميذنا أصبح

علما بالطبيعة من أرسطوا - العلوم والفنون ليست تحفاً تقتنى

منفصلة عن النفس - لابد من قلوب حديثة - من جرائر

التاريخ - الإنسان يصنع أقداره - استطراد إلى مشكلة القدر

- إلى المنتظرين بعثا من غير نفوسهم - الآن فقط وجد الحق

أدوات الدعوة لتصحيح الأفكار عن الحياة - عباب التاريخ

يجرف الطفولة النضرة مع الجيف القذرة! - لا مفر من عزل

الطفولة لتصحيح أفكارها - مناقضات بين ما في الشوارع وما

في الجامعات - صورة من دراستنا الحالية للتاريخ - طبائع

مدلسة ليست بنت زمانها - ما يستهلكه الخير وما يستهلكه

الشر - هل مضت الحاجة إلى دور الغرائز في خدمة الحياة؟

- حرب الآهة

طالما ألححت بقلمي على التاريخ: هذا الجار الهائل. . . هذا السد القوي. . . هذا السجن العتيد. . . لأحطمه وأنقذ نفسي من جوه المعتم الخانق!

وطالما قلت: ما دام هذا الماضي القاصر الجاهل المخرف الوحشي يحمله الإنسان في أوعيته وأعصابه إلى الحاضر، فهو دائماً في ضلالة القديم، كما يعيش حامل المكروبات الضارة دائماً في أمراض ونكسات.

والحقيقة التي يجب أن توضع نصب العيون الآن هي أن هذا الإنسان العصري هو غير الإنسان البائد بلا شك! هو غيره في علمه وإدراكه للطبيعة وتذليله لعقبات الحياة واضطلاعه بأدوات تحقيق الاحتياجات وتفتيحه لكنوز الأرزاق والأقوات

فكيف يرضى أن يحمل ذات قلبه القديم وغرائزه كما كانت وان يحمل غشاوات القرون الأولى ليعيش بها في عصر الانكشاف والظهور والقدرة الفائقة؟!

كيف يرضى من ملك زمام اليابس والبحر وذرع الأرض بالطول والعرض، ونبش كنوزها أن يعيش بأساليب الذي كان لا يعرف غير طريق القرية أو النجع أو الجزيرة التي يعيش فيها؟

إن تلاميذ المدارس الابتدائية اصح علماً عن الأرض والطبيعة من سقراط وكونفوشيوس وأرسطو وابن سينا والفارابي وغيرهم من حكماء القدماء؛ فكيف ترضى الإنسانية الحالية أن تعيش حياتها النفسية بأساليب جهلاء عصورهم؟!

إن التاريخ النفسي للحياة الإنسانية ينبغي أن يدرس بعين غريبة عنه ناقدة له في شك وارتياب. فما هو إلا سجل جهاد الناس في سبيل وصولهم إلى حقائق هذا العصر الحالي. فما يليق أن تؤخذ مرحلة من مراحله محطاً يطمئن الناس إليه بعقولهم؛ لأن مراحله السابقة كانت مراحل موضعية ضيقة خاصة بأمة ما من أممه. ولكن أمر أمم الناس الآن أمر جماعة توشك أن تتقارب أهدافها وتشتبك مصالحها وتشتجر اشتجاراً لا خلاص لفروعها منه أبت أم كرهت

هل من المعقول أن نلبس ملابس الحياة الحديثة على الأجساد ثم لا نغير ملابس النفس؟ أنكون قروداً وببغاوات تحكي قضايا العلم الطبيعي بألسنتها وظواهرها ولا تمثله قلوبها ونوازعها؟

هل يكفي من العلم أن يقتني في الحوافظ والذاكرات غير ممزوج ولا مدمج في الأعصاب والأحاسيس والانفعالات، بل يوضع في الرءوس كما توضع التحف والدمى على الرفوف والمناضد للزينة والخيلاء والبيع والشراء عند الحاجة؟

إني أرى العلم ينبغي له أن يكون في كياننا كالماء في أعواد الشجر الحي لا يقف تسربه إليه وتفريع حياته إلا إذا جف واحطب ومات. . . فلا شجر بدون ماء. . .

إن عملية عظيمة في داخل الحياة النفسية الإنسانية ننتظر إجرائها لبناء قلوب حديثة تتلاءم مع الأفكار الحديثة!

ومن آثار التاريخ في الحياة العصرية هذا الخلاف العنيف بين الأديان بعد ما سطعت شمس الله الواحد. . . وبعد ما أدرك العقل التناسق والانسجام والتوافق بين قوانين الطبيعة مما لا يمكن أن يكون إلا بإدارة يد واحدة!

ومن آثاره كذلك فيها أننا لا نزال نخضع لمنطق الأمم التي كانت تعيش متحاجذة في سدود وتخوم بين عقولها وأخلاقها ومرافقها، وتجعل الدنيا دنيوات، والإنسانية الواحدة أنواعاً متباعدة، وتجعل من اختلاف الأجناس والألوان واللغات اختلافاً أصيلاً جوهرياً بين الطبائع الإنسانية يبيح هذه العداوة الفاجرة المريرة المخربة للعمران، ويحمل على المبالغة في البطش والطغيان ونسيان الصفات المشتركة بين بني الإنسان

ومن آثاره كذلك أن اكثر الناس لم يدرك بعد مدى الانتقال العظيم والترقي السريع والتفاوت البعيد بين الحياة قبل القرن العشرين والحياة فيه؛ ولذلك لا يزالون يضمرون في أنفسهم اعتقادات متشائمة في الإنسان ومستقبله، ويدينون في الحياة بدين السخط وإطلاق الغرائز الخطرة والآراء التافهة التي يجعل الإنسان يعبر الحياة بدون أن يجتهد في ملء نفسه بأسرار التكوين، وفي إضافة كشف أو اختراع أو منفعة إلى ميراث الحياة الإنسانية. . . وليس هناك شيء اضر على الحياة الإنسانية من نزعة التشاؤم والتبرم والسخط على حاضر الإنسان ومستقبله!

ومن آثاره كذلك أننا رضينا أن نعيش أكثرنا جاهلا أمياً لا يفقه مبادئ العلم والحياة التي في رءوس العلماء مع أن نمو تلك الأسرار يتغير كل صباح ومساء. . . وكأننا بذلك وأدنا هؤلاء الأحياء ودفناهم كما كانت تفعل جاهلية العرب بموءودة الأجساد. . . وكان هذا الإهمال منا بمثابة فعل من رأى أهله يموتون ظمأ واحتراقاً، وهو على علم بمنبع ماء غزير يطفئ غلتهم ولوعتهم ويحي نفوسهم ولكنه لا يسعى إلى إنقاذهم. . .

ومن آثاره كذلك إننا نعيش في ذهول عما يحيط بحياة الإنسان الآن من كنوز تتفتح وأعاجيب تخترع، فترى الناشئ منا ينشأ بين القطارات والسيارات والطيارات والراديو والتليفون والغواصات والفونوغراف والفوتوغراف والسينما وغير أولئك، ثم يجهل أمرها وتركيبها ولا يدري عنها شيئاً ولا يكلف نفسه سؤال أحد عن نبئها العظيم. . . كأن ذلك شيء تافه أو أمر بدهي لا يحتاج إلى فكر شديد وتعجب بالغ!

ومن آثاره إننا برغم إدراكنا الآن كثرة الأقوات وكفاية الأرزاق كثرة وكفاية تشبعان حاجات الإنسانية جميعها لو وزعت توزيعاً معقولاً بدون احتكار وتحكم وإتلاف لجانب من المحصول في سبيل الاحتفاظ بالأسعار المرتفعة. . . لا نزال نطيع الجشع والطمع ونعصي دواعي العدالة والرأفة بالطبقة المحتاجة المجهودة!

ومن آثاره إننا لا نزال نغطي عجزنا وكسلنا بالاستسلام لما نسميه (الأقدار) مع أن مفتاح الأقدار بأيدينا، ومع إننا نرى إننا نصنع اغلب أقدارنا، ومع أن دائرة الإيمان بالأقدار في الدين لا تتعدى منطقة الصبر على المصائب والكوارث التي تأتي إلينا بدون حيلة أو خيرة منا، ومنطقة الرضا بما نحصل عليه بعد الجهاد. . .

وهنا مكان استطراد إلى مشكلة الأقدار لا بأس أن نرسل فيه بعض الحديث:

هناك أقدار نريد أن تتحقق، وهي أقدار الخير والسعادة، وهذه موقفنا منها يجب أن يكون كما يأتي:

أن نسعى جهدنا للتمهيد لتحقيقها بالأخذ بأسبابها التي تهدينا تجاربنا إلى أنها عوامل جالبات لما نسعى إليه. فإن تحقق ما نبغي فذاك، وإن لم يتحقق - وهذا قليل نادر - علمنا أن الإرادة العليا المسيطرة على وجودنا لها غاية غير غايتنا في تلك المسألة التي نسعى لتحقيقها. والإيمان بتلك الإرادة يقضي حينئذ بالإذعان والتسليم لقدرها العالي الذي لا حيلة معه

وهناك أقدار نريد إلا تتحقق، وهي أقدار الشر والشقاء، وهذه موقفنا منها يجب أن يكون كما يأتي:

أن نسعى جهدنا للتمهيد لدفعها بالأخذ بأسبابها التي تهدينا تجاربنا إلى أنها عوامل دافعات لما نخشاه ونتجنبه. فإن كان ما نبغي فذاك، وإن لم يكن كان علينا كذلك الإذعان والتسليم للإرادة العليا.

تلك هي المشكلة الأقدار في جانبيها. وفي كلا هذين الجانبين لرأينا أن على الإنسان أن يقدم جهده في التمهيد لها أو دفعها. فإذا وقف أمامها منتظراً مكتوف اليدين مشلول التفكير كان حرياً أن تأتي إليه أقدار الخير فلا ينتفع بها إذ لم يبذل لها جهداً من فكره أمله، وكان حرياً كذلك أن تنزل عليه أقدار الشر فلا يسعى لتخفيفها وان يجزع منها جزع الذي يظن انه كان في مقدوره أن يدفعها ولكنه قصر في ذلك، فيظل ملوما محسوراً. . .

والحياة العملية ذات البراهين البريئة من الجدليات توحي إلينا بل تحدثنا بكلمات مقروءة مسموعة بريئة من غموض الرمز والإيماء أن الذي ينتظر أقداره بدون أن يسعى لجلبها أو دفعها لن تكون حياته إلا كحياة ذلك البدوي ساكن الصحراء الذي لا يعمل عملاً لجلب الماء، وإنما هو ينتظر سقوطه عليه من السماء، وطبيعي ألا تكون آماله بيده، وأن يعيش حياته معرضاً لأخطار الظمأ والجفاف معلق القلب مهدد العيش يتجدد قلقه كل سنة لأنه لم يمسك من أسباب الحياة إلا بحبل بعيد هيهات أن يكون في يده دائماً. . .

وأنى تكون حياة هذا البدوي من حياة بدوي آخر سعى حتى اهتدى إلى ضفاف نهر تمسك منابعه بحوالب السحاب، وتحلب الماء إليه جارياً ميسوراً ليده وأفواه دوابه وقطعانه، ثم هو بعد ذلك يشق السواقي والقنوات ليصل منها الماء إلى كل بذرة بذرها؟!

لا شك أن كليهما اخذ من مصدر واحد، ولكن أحدهما حمل نفسه على العسرى، والآخر حملها على اليسرى. . . وشتان ما بينهما!

فلينهض الراقدون على آذانهم في الشرق الإسلامي مستسلمين في صغار لعوامل الشقاء والحرمان، حاسبين أن أحوالهم ضربة لازبة حتى يأتيهم آت من غير أنفسهم ينفخ في الصور، فإذا الأرض حولهم جيوش وجحافل، ومصانع ومعامل، ومعاهد ومعابد، وحقول وجنات وعيون، وإذا هم - بقدرة قادر! - آلهة في الأرض يحكمون!

لينهضوا وليحرروا أنفسهم من قيود التاريخ النفسي الذي انحدر إليهم من الجاهليات فهم يعيشون به في الماضي وإن كانت أجسادهم فلبس أثواب القرن العشرين. . .

ولتكن قوارع هذه الحرب أجراساً وأبواقاً تجمعهم وتدفعهم إلى السير مع قافلة سريعة المراكب، متلاطمة المواكب، غليظة الأثقال، حاشدة جبال الحديد والفولاذ، والقوى العارمة المجنونة التي يقول قائلها: (أنا القدر! أنا القدر! يا بني البشر!)

هل لنا أن نزعم أن الحق وصل إلى نفوس أكثر الناس فأدركوا صدقه وجماله ثم مع ذلك رفضوه، وحينئذ يحق لنا أن نتشاءم في مستقبل الإنسان؟

أؤكد انه لم يصل في عصر ما من عصور التاريخ إلا إلى القليل من الناس. والى الآن لم تقم دعوة إلى الحق الواضح في الطبيعة بدون أن توضع في طريقها أغشية وعقبات ومعوقات تحجبه وتمنع الناس من إدراكه

والآن، وقد تيسرت أدوات الدعوة وأدوات الإقناع وأدوات التربية يجب بدء دعوة. . .

وإن في الناس لخيراً كثيراً جداً أعظم مما يتضح من النسبة التي نجدها فيهم الآن. . .

والدليل على ذلك نجاح أمم الشمال في أوربا خلقياً، فقد أثرت فيهم التربية حتى أوشكت بلادهم أن تخلو من السجون والجرائم والخيانة حيث الثقة بالنفس الإنسانية وطيدة هناك

إن أدوات صحة النظر في الحياة واتجاهاتها موفورة الآن لأغلب سكان الأرض؛ ولكنهم مأخوذون عن ذلك بجرائر التاريخ. وكان من الواجب بعد العلم الغزير أن يوجد الفكر الهادئ والقلب الكبير الذي نضج وطاب؛ ولكن عباب التاريخ وسيوله لا تزال تجرف الطفولة والبذور مع الجيف والقش والغثاء. . . وتلقي الجميع إلى المصب الذي تلتقي فيه الأخلاط والضلالات التي تركها أبناء الجهلة الأولون. . .

فلا مفر من فصل البذور والطفولة وعزلها عن مجرى سيل التاريخ وإنشائها بأيد غير ملوثة إنشاء يرضى به هذا الزمان وعلومه وفنونه، ويؤهل الإنسانية لتلك الخلافة الواسعة المتعاونة في جهاد الطبيعة واستنزال بركاتها وثمراتها.

ولا مفر من تصحيح الفكرة عن الحياة وتوجيهها إلى الإيمان بها كمرحلة ممتعة أتاحها القدر لمن يخرج من العدم، فيجب صرفها في العمل والفرجة والاطلاع على ما يمكن الاطلاع عليه من آفاقها

ولا مفر من تحويل عبقرية الفكر إلى عبقرية القلب والخلق والجسم. فالعلم والفن يجب صقل النفس بهما وإشراب الجسم إياهما وإخراجه على مقتضاهما بحيث لا تتخلف حياة الجسم وقواه وحركاته عن المدى الذي وصل إليه الفكر. . . وبحيث لا يتخلف ما في الشارع والحقل عما في مدارس الفنون والعلوم والتجارة والزراعة وما إليها حتى تكون حياة الجماعة صورة ومظهراً صادقاً لحياة الجامعات والأندية الثقافية، ولا يكون في الأمة مفارقات ومتناقضات بين حياة الفكر وحياة الواقع.

ولا مفر من حمل كل إنسان على أن يدرك نفسه ويستغرق في التفكير في حياته وحياة الإنسانية ويتيقظ لتلك القوة والقدرة التي تتسلط بها الإنسانية على القوى العمياء الجبارة وتسخرها في خدمتها

وما الإنسان بدون يقظة للمعنى الفائق والروح السامي الذي في حياته إلا جسد يختلج ويضطرب في ذهول وبلادة، ويحيا هكذا حياة مغناطيسية آلية

ولكي ندرك جرائر التاريخ على العقول أثره في تدليس الحاضر وإفساده وتزوير النفوس سأعيد عليك حديث صورة لا تجهلها عن طرق دراسته على ألسنة العجائز وفي المدارس ومجالس القصص:

يتفتح عقل الناشئ منا فتلقنه عجائز بيته وشيوخ قومه ومعلمو مدرسته تاريخ قوميته وتاريخ الإنسانية بأغلاطه ونقائضه ومحاولات العصور القاصرة في فهم الحياة وجهاد الإنسانية في شق طريقها الأول بين الصخور والمتاهات والعقبات. فما يكاد عقل الناشيء يصل إلى دور الحكم والموازنة حتى يكون قد تطبع بما وعى وأصابه ثقل التخمة وحيرة الامتلاء والتبلبل

ذلك لأن التاريخ لا يدرس على أنه محاولات أولية من الإنسان فيها أخطاء كثيرة؛ فيجب الحكم عليها حكم دور الرشد على دور القصور؛ ولكنه يدرس وعليه طابع التقديس والإعجاب بالأقدمين والاعتزاز بهم في مغالاة وتعصب، وبخاصة تاريخ القوميات والجنسيات

وكان من كبرى نتائج ذلك أن عاش كثير من الماضي السيئ في الحاضر. بل وجدنا جماعات تفر من الحاضر لتعيش في الماضي وترى انه كان الحياة. .! وتمدح الناس بما فعلت الجدود وقالوا إنا على آثارهم مقتدون

فلم يفتح أبناء العصور المختلفة عيونهم على حياتهم في زمانهم بل فتحوها على الماضي وعاشوا به في الحاضر، وظهر اثر ذلك في الافتتان بهوامش الحياة والعكوف على دراسة سطوحها وترك دراسة أصول الحياة وعلومها الطبيعية والتجريبية التي تبقى لها نتائج دائمة تسلم إلى نتائج أخرى في سلم الترقي والتطور

وقد لاقى اكثر الناس الحياة بطباع مدلسة ليست بنت زمانها، وإنما هي بنت الماضي السحيق، وحملوا معهم في رحلة العصور خرافات ووثنيات وسخافات احتفظوا بها حتى في القرن العشرين، ووضعوها حواجز وعوائق في طريق الحياة الحديثة ذات المعجزات والنبوات الدائمة التي لا تحتمل جدلاً أو مخرقة!

وكان من نتائج ذلك أن وجد المصلحون في كل عصر ركاماً من الغباوات والجهالات توضع في طريق دعواتهم إلى الإصلاح والعلم وفتوح الذكاء ونور البصيرة. . .

ليس قبيحاً جداً بالطفل أن يعترك مع اخوته على شيء يريده لنفسه ويريدونه لأنفسهم، فيتصايحوا ويتضاربوا ويحطموا ما أمامهم؛ لأن الطفل يعيش بالغرائز، فهو أناني ضيق التفكير لا يدري أن أباه يملك الكثير، ولا يفهم فضيلة الإيثار إلا بعد التمييز والتدريب

ولكن ما بال الأمم التي رأت خيرات الله تملأ فجاج الأرض تتقاتل على البحر الزاخر والحقول الممرعة والجو الواسع؟ إن ذلك من أخلاق الطفولة وضيق آفاقها وتحكم الغرائز في حياتها، وهذه صفات وجدت لها في مخلفات التاريخ مبررات وحججاً وتأريثاً!

ومن العجائب انهم يدمرون ما يسعون إليه من الغنى والثروة حين تثور غرائزهم! وان الحقد والشر والطمع لتستنفذ وتهلك من مال الأمم الأثرة الجشعة، ومن بذلها الدم الفياض ما لا يمكن للخير والسلام والإحسان والتعاطف والتفاهم أن يستهلكه أو يستهلك عشر معاشره!!

ونظرة واحدة إلى النفقات اليومية للأمم المتحاربة الآن تكفي في البرهنة على هذا وعلى أن الإنسانية ما دامت مصروفة عن طاعة الحق والعدالة والحسنى، إلى تحكيم الغرائز الدنيا والانحدار في مجرى التاريخ، فسوف تظل هكذا تعمر لتدمر، وتعلم لتجهل، وتتقدم لتتأخر

وكأن المقصود بحياة الإنسان إذا استمر على هذا هو تحقيق مشتهيات الغرائز وإظهار عبقريات النفس البشرية في التخريب بعد التكوين: فهي طوراً تبني وتعيش في صفات البناء وأخلاقه، وطوراً تهدم وتعيش في أخلاق الهدم وصفاته، لتدرك معالم الضدين المتقابلين الأبديين: الخير والشر. . .

ولكن إن صح هذا كتعليل لحياة الشر في الماضي حين كانت الحياة محتاجة إلى دوافع الغرائز لتدريب الإنسان في طفولته على ما تهيئه له الأقدار في مستقبله ولحمله على الاقتحام والكشف وتفتيق الحيلة، وحين كانت نتائج ثورات غرائزه محدودة ضيقة لا تتعدى أضرارها إلى هدم أصول الحياة وتحطيم أسس الاجتماع ومخلفات الإنسانية ذات الحرمات والقيم التي لها اعتبارها، كما هي الحال الآن في نتائج هذه الحرب. . . فلن يصح الآن هذا التعليل بعد أن صار قتال الإنسان كقتال الآلهة لا كخصام الأطفال

وقتال الآلهة - لو كان هناك آلهة إلا الله - تخريب لأصول الحياة وسحق لبراعمها ومناطق نموها. وهم يعلمون بالطبع طرق التسلل إليها والإطباق عليها لأنهم فرضاً خالقوها وواضعو أسرارها. . .

فلنوحد الإنسانية بعد أن صار لها قوة الآلهة في التخريب، كما وحدنا الأرباب!

ولنعلن بأرواحها وأفكارها عن مستوى بنات الطين والتراب، من كل ذات ظفر وناب!

عبد المنعم محمد خلاف