انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 436/جميل نخلة المدور

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 436/جميل نخلة المدور

مجلة الرسالة - العدد 436
جميل نخلة المدور
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 11 - 1941


َّور

(1862 - 1907)

للأستاذ كوركيس عواد

1 - كلمة في تراجم رجال العصر

ما زال الشيء المدون من تراجم رجال عصرنا ضئيل القدر. فالباحث يحار في أكثر الأحيان، ليقف على ترجمة هذا أو أخبار ذاك! لأن ما بأيدينا من هذه التراجم لا يتعدى العشرات! وأما أكثر العلماء والكتاب وغيرهم، فلا شأن لهم في تلك المدونات. إذ يأتي هؤلاء فيعملون ثم يذهبون إلى حيث يذهب الناس، ثم تندثر أخبارهم وتطمس معالمهم! ولو أحصينا كتب تراجم المحدثين لما تجاوزت العشرة على ما نظن. وهذا شيء زهيد، إذا ما قيس بالأسفار الموضوعة في تراجم الأقدمين. فللمؤلفين القدماء كتب لا تحصى في تراجم الرجال عامة، أو في تراجم طبقة أو فئة خاصة منهم. فأفردوا للأطباء مثلاً تراجم، وللوزراء تراجم، ومثل ذلك قل عن الأدباء والشعراء والنحاة والحكماء والمحدثين والفقهاء والحفاظ وغيرهم. بل إنك تجد تآليف خاصة بمدد من السنين: كتراجم رجال المائة السادسة أو السابعة أو الثامنة وهلم جرا؛ كما تلفى كتباً في تراجم من عاش في قطر ما أو بلدة ما، أو تراجم رجال المذاهب والفِرق، أو من تميز بصفة أو أصيب بعاهة، كالمعمرين والمتطفلين والعميان. أو غير ذلك من صنوف التراجم التي يطول بنا ذكرها. وإن تمادينا في تعداد ما صنفه الأقدمون في التراجم، وقسناه بقلة ما صنعه المحدثون فيها، وجدنا ما في أيدينا من هذا التآليف الأخيرة شيئاً نزراً، يسعف في بعض الأحوال، ويخيب آمالنا في أكثرها!

2 - سبب كتابة هذا المقال

والذي حملنا على كتابة هذا المقال، هو كلمة قلناها بشأن مقال ثمين عقده الأستاذ الفاضل محمد عبد الغني حسن في هذه المجلة بعنوان: (مدن الحضارات القديمة) ثم أجابه حضرته على كلمتنا المذكورة بعبارة رقيقة، دلت على سمو أدبه، وسعيه وراء الحقيقة أينما كانت. وقد طلب فيها أن أكتب ترجمة لجميل نخلة المدور. وما كدت أبدأ بذلك حتى وجدت الأستاذ أحمد صفوان يعقب بنبذة على كلام الأستاذ محمد عبد الغني حسن ويؤكد فيها طلبه.

وهاأنذا ألبي طلبهما بما في مكنتي وفاءً لحق كاتب راحل، خدم الأدب والتاريخ خدمة كبيرة. وقد استعنت في كتابة هذه الترجمة بمؤلفاته نفسها، وبالمراجع المختلفة التي بحث فيها عنه والله المستعان.

3 - ترجمة جميل نخلة المدور

1 - مولده

كانت ولادة جميل في بيروت سنة 1862، ببيت عرف حينذاك بالمجد والأدب. وقد أرخ الشيخ ناصيف اليازجي. أديب زمانه وكبير كتابه، مولد جميل، ببيتين من الشعر وهما

لنخلةَ قد أتى نجلٌ جميلٌ ... كما سُميْ فسَرَّ أباً وأُمَّا

دعوتُ فقلتُ بالتاريخ ينشو ... غلامٌ طاَبقَ الاسمَ المسَّمى

سنة 1862

2 - والده

أما والده فهو ميخائيل بن يوسف مدور، الذي ولد في بيروت سنة 1822. ثم دخل في مدرسة عين طورا فدرس اللغتين الفرنسية والإيطالية، فضلاً عن اللغة العربية التي برع فيها. ثم أخذ يتعاطى التجارة زمناً مع أخوته. وفي سنة 1852 اقترن بالسيدة روزا بنت نقولا صالحاني، وكانت سيدة فاضلة أديبة.

ولقد توغل ميخائيل في تاريخ الغرب، وأصاب بسهم وافر من آدابهم؛ فاختير عضواً في الجمعية الآسيوية الفرنسية بباريس، والجمعية العلمية السورية ببيروت، وكان صديقاً حميما للشيخ ناصيف اليازجي. ومما يذكر له بلسان الثناء والتقدير الذي هو أهل له، أنه في الوقت الذي كانت سوق العلم كاسدة، والإقبال على نشر الكتب يكاد يكون معدوماً في البلدان الشرقية قام فطبع على نفقته في سنة 1854 مقامات اليازجي المعروفة بـ (مجمع البحرين) كما سبق له أن طبع (مقامات الحريري) فأنشده الشيخ ناصيف قصيدة، منها هذان البيتان:

ملكت الفضل في شرع وعرف ... فليس على كمالك بعض خلف إذا عدَّت رجال العصر يوماً ... فإنك واحد بمقام ألف

وكان عوناً على إصدار أول جريدة عربية في بيروت، وهي (حديقة الأخبار) سنة 1858

وعين ترجماناً في قنصلية فرنسا ببيروت، لأنه كان يجيد الفرنسية إجادته العربية ولبث في هذا المنصب إلى آخر أيامه.

وكانت له خدمات علمية ووطنية عديدة، لا يسعنا استيفاؤها في هذا المقام.

وقد خلف أربعة أبناء اشتهر منهم اثنان في العلم والتأليف وهما نجيب وجميل صاحب الترجمة.

3 - شيء من حياة (جميل)

عرف (جميل) منذ صغره بالنباهة والذكاء وسلامة الذوق، وأوتي قريحة وقاد لا تخبو نارها بسلاسة عبارته، وبصيرة ناقدة لا يخفي شرارها بطلاوة نوادره وحسن فكاهته، وجدّاً يستسهل المتاعب، وثباتاً يغلب المصاعب. وقد أظهر براعة كوالده في تعلم العربية والفرنسية؛ فوضع في الأولى تصانيف ومقالات عديدة كما كان له من الثانية أكبر عون على توسيع آفاق فكره، ونقل بعض المؤلفات منها إلى لغة الضاد.

ولقد نالت مؤلفاته استحساناً من رجال عصره. فكتابه (حضارة الإسلام في دار السلام) الذي يأتي الكلام عليه في مكان آخر من هذا المقال، (قدِّره وأنزلهُ منزلةٌ رفيعة كما يستحق، كل من جودت باشا وزير المعارف العثمانية، وأحمد مختار باشا الغازي المعتمد السلطاني في مصر سابقاً، وغيرهما من مشاهير الرجال. وقد كافأه عليه حينئذ السلطان عبد الحميد بجائزة مالية تنشيطاً له على خدمة العلم).

وهذا العلامة جبر ضومط، أثنى على كتاب حضارة الإسلام المذكور ثناء عاطراً، فقال فيه إنه (كتابٌ لو وُزن بالدرر لرجحها!).

وذكر المؤرخ جورجي زيدان، في معرض كلامه على ما أداه جميل المدور للغة العربية، فقال إنه (خدم آداب هذا اللسان خدمة حسنة بذكرها له التاريخ ما بقيت اللغة العربية!).

وذكر إدورد فنديك في محتويات كتاب حضارة الإسلام أنها (مفيدة من حيث لغتها وآدابها ورونقها التاريخي) وزاد على ذلك قوله: (نحث كل شاب على اقتنائها).

وانتقل جميل إلى القاهرة، وتولى في آخر حياته فيها تحرير جريدة (المؤيد) وهي إحدى كبريات الصحف المصرية فأظهر من المقدرة الصحافية حينذاك ما يشهد له بطول الباع فيها.

وكان قد نشر مقالات عديدة في مجلة (المقتطف) ومجلة (الجنان) للمعلم بطرس البستاني وأبنائه من بعده.

وهنالك مناح مختلفة من حياته لم نتحققها، لأن جميع المراجع التي بأيدينا لم تشر إليها. من ذلك هل كان قد تزوج؟ وهل خلف أبناء؟ وفي أية سنة ارتحل إلى مصر؟ وما هي الدواعي إلى ذلك؟

4 - وفاته

وقد أدركته المنية في القاهرة في 24 وقيل في 26 كانون الثاني سنة 1907، وهو في عز كهولته، إذ لم يتجاوز آنذاك من العمر السادسة والأربعين! فمات بعيداً عن وطنه وذويه، مأسوفاً عليه من عارفيه ومقدري فضله. فرحمه الله رحمة واسعة.

(البقية في العدد القادم)

كوركيس عواد