مجلة الرسالة/العدد 430/أدباء ومدرسون!. . .
مجلة الرسالة/العدد 430/أدباء ومدرسون!. . .
(حديث ذو شجون إلى وزارة المعارف وإلى الدكتور زكي
مبارك. . .)
للأستاذ محمد سعيد العريان
تلطف الدكتور زكي مبارك فتناول في حديث الأسبوع الماضي موضوع (الترقية إلى المدارس الثانوية)؛ وهو موضوع من حق صديقنا الدكتور زكي مبارك أن يتحدث عنه، لأنه بسبيل من عمله الرسمي في وزارة المعارف، وعمله الأدبي في مجلة (الرسالة)؛ فليس من حق أحد أن يدهش للأسلوب الذي تناول به موضوعه، أو الطريق الذي سلكه لإبداء الرأي فيه؛ وإنه لمن الغبن أن يكون الدكتور زكي مبارك ملوماً على ما في حديثه ذاك من التناقض وفساد الحكم؛ إذ كان يملي عليه الرأي حين يحكم شخصيتان لا تجتمعان على فكرة واحدة: شخصية زكي مبارك المفتش بوزارة المعارف، وشخصية زكي مبارك المؤلف المحقق الأديب؛ ومن أين لهاتين الشخصيتين أن تجتمعا على رأي وبينهما ما بينهما من الفوارق العقلية، ولكل منهما مقياسه في موازين الأشياء. . .!
والموضوع الذي تناوله الدكتور زكي مبارك حقيق بالبحث والدراسة، لأنه موضوع عام يتصل من قريب بشأن من أخص شؤوننا الأدبية، إذ كان المعلم هو فكرة الشعب، وأماني الغد، ومستقبل الثقافة، ولكن هذا الموضوع على عمومه يتصل بجانب من حياتي الخاصة يحرجني أن أتخذه موضوعاً للحديث، ولعل كثيراً من الذين يقرءون لي في الرسالة منذ سنين، لم يدر في خلد أحد منهم أن يسأل عن عملي الذي أتكسب منه ووظيفتي الرسمية التي أعيش بها قبل أن يعرف بي الدكتور زكي مبارك. .
ومعذرة إلى طائفة من القراء، فإن الرأي العام في مصر وفي الشرق ما زال يقيس منازل الرجال على قدر منازلهم في مناسب الحكومة أو منازلهم في دولة المال!
على أنه لا مندوحة لي اليوم عن الحديث في موضوع كنت أتنكبه فراراً من التهمة، ولست أطمع بعد في كلمة عطف أو أخشى كلمة ملام، فإني لقوي بنفسي عن استجداء العطف أو خوف الملام، ومن وجد في نفسه الطاقة فليس له عذر من التقصير؛ وليغضب من يغض لنفسه أو للحق، فليس بي إلى أحد حاجة، وليس لي في سبيل الحق أن أخاف سطوة إنسان!
وأبدأ حديثي لأصحح للدكتور زكي مبارك قوله: (الترقية إلى المدارس الثانوية) فإن كلمة (الترقية) هنا لا تؤدي معناها اللغوي كما يفهمه أهل التحقيق، وليس في نقل معلم من المدرسة الابتدائية إلى المدرسة الثانوية أي معنى من معاني (الترقية) وليس ثمة فرق بين معلم هنا ومعلم هناك، لا في الدرجة العلمية، ولا في العمل، ولا في المال، ولكن الفرق كل الفرق في التلميذ وفي المكان. . .
هذا حق يعرفه زكي مبارك (المفتش بوزارة المعارف)، كما يعرفه وزير المعارف نفسه، وكما يعرفه المعلمون جميعاً في المدرستين الابتدائية والثانوية؛ ولكن لماذا، لماذا - والأمر كذلك - تصر وزارة المعارف على تسمية هذه النقلة (ترقية)؟ ولماذا يشكو طوائف من المعلمين فيطلبون حقهم في هذه (الترقية)؟
جواب ذلك: أن هذه (النقلة) هي مظهر من مظاهر (الثقة العلمية) بالمعلم المنقول، وهي (اعتراف رسمي) بأن لهذا المعلم أهمية لتعليم طائفة من التلاميذ أنضج عقلاً من إخوانهم في المدرسة الابتدائية؛ وهذه (الثقة العلمية) وهذا (الاعتراف الرسمي) هما كل جزاء المدرس المنقول، وهما حسبه وكفايته؛ وأهل العلم دائماً هم أقنع الناس بالقليل!
. . . وقد سنت وزارة المعارف سنة منذ عامين: أن تسبق بين المعلمين في امتحان سنوي عام، لتمنح أسبقهم ثقتها العلمية واعترافها الرسمي.
لقد كثر ما تحدث المربون عن عيوب الامتحان، واختلال ميزانه، وجنايته على شخصية التلميذ. . . أفلم تجد الوزارة - بعد تجارب السنين - وسيلة لاختيار كفاية المعلم غير الامتحان وقد قالت ما قالت فيه وسمعت ما قيل؟
أليس لدى وزارة (المعارف) من وسائل (المعرفة) في ذلك غير امتحان (المعلمين)؟ بلى! هكذا قالت وزارة المعارف منذ سنتين وما تزال تقول: الامتحان!
الامتحان؟ بالله كيف صارت عيوبه حسنات، واختلال ميزانه دقة، وجنايته على (شخصية التلميذ) سبيلاً إلى تحديد (شخصية المعلم)؟
ولكن لا علينا من ذاك؛ فليس يعنينا ما تكون وسيلة وزارة المعارف إلى اختيار معلميها، ولو كانت المباراة بين المعلمين في حمل الأثقال. . .! ولكن، لأي شيء سنت الوزارة سنة الامتحان؟
الوزارة تقول أنها تقصد من ذلك إلى استثارة القوى والكشف عن (الكفايات المغمورة)؛ هذا كلامها؛ فما بالها تصر على امتحان ذوي القوى العاملة و (الكفايات المشهورة) إذا لم يكن القصد من الامتحان إلا الكشف أو الاستكشاف؟ ما قيمة المصباح تشعله في النهار والشمس طالعة؟ وما عمل المظلة ترفعها على رأسك في الظلام ولا مطر ولا غمام؟ وماذا يقول المعلم يوم الامتحان إذا كانت مؤلفاته وأعماله الأدبية هي موضوع الامتحان؟
هنا مشكلة أدبية عامة، هي مشكلة (النفر الستة) الذين قصر عليهم الدكتور زكي مبارك حديثه في العدد الماضي.
ليت شعري ما شأنك وشأنهم يا صديقي؟ إنك لتعرف هؤلاء النفر الستة معرفة الرأي والنظر، وتعرف كم أبلوا في جهادهم للعلم منذ سنين؛ وأراك لم تنكر أقدارهم العلمية والفنية على طول ما تعتبت عليهم وتجنيت.
هؤلاء النفر الستة يا صديقي - وأنا منهم - لم يرجوا وزارة المعارف أن ترقيهم إلى المدارس الثانوية كما ظننت، فإنهم أصدق نظراً من أن تخدعهم الفروق الصغيرة بين الأسماء فتحملهم على الرجاء والاستجداء. . .
بلى، نحن لم نطلب هذه (الترقية)، ولم نسع لها، ولا نعرف لها طعماً مما يمر في الأفواه ويحلو؛ وإن لنا من الإيمان بأنفسنا ومن الإيمان بمعنى الأدب ما يرتفع بنا عن ذلك المستوى، ولكنا كتبنا لننبه وزارة المعارف إلى معنى أدبي كان ينبغي ألا تغفل عنه أو يغفل عنه القائمون بشؤونها؛ - كتبنا لننبهها إلى أنها بما أكثرت من الحديث والنشر عن امتحان المسابقة، ونتائج المسابقة، قد ألقت في وهم الناس أن معلم المدرسة الابتدائية ليس له من العلم مثل حظ المعلم في المدرسة الثانوية، وليس له تحصيله وكفايته. . . . . .
هذا المعنى يا صديق يسوءني ويسوءك، ولكنه يسئ إلى وزارة المعارف أكثر مما يسوءني ويسوءك حين يعرف الناس أن بين المعلمين في المدارس الابتدائية طائفة من أهل التأليف والتحقيق يدوي صوتهم في آذان الشرق العربي ويملأ حديثهم نوادي الأدب هنا وهناك ولا تكاد تحس بهم وزارة المعارف. .!
أي تهمة يا صديقي تنال وزارة المعارف في سمعتها، وماذا يقول الناس عن كفايتها وحسن تقديرها للآثار العلمية، وهي تجهل أقدار العاملين من معلميها وما أنتجوا من بحوث وما استحدثوا من فنون؟
. . . هذا المعنى يا صديقي هو الذي رفعنا من أجله الصوت إلى وزارة المعارف - ووزيرها من أهل التأليف والتحقيق - نطلب إليها أن ترد إلينا الاعتبار العلمي، فتعترف بنا أدباء ومؤلفين ومحققين.
ولكنك تقول يا صديقي: (إن هذا الباب إن فُتح فسيتيح فرصاً كثيرة لأدعياء التأليف والتحقيق. . .)
وأعيذك يا صاحبي أن تكون قصدت إلى المعنى الذي تشير إليه عبارتك؛ فأي عمل لوزارة المعارف إن كانت لا تدرك الفرق بين المدعي والأصيل من أهل التأليف والتحقيق؟
ويذكرني قولك هذا يا صديقي كلمة قالها لي الدكتور فلان منذ بضعة أشهر، قال: (لو كنت موظفاً في مصلحة التنظيم لوجدت من وزيرها اعترافاً بمجهودك الأدبي أكثر مما أنت واجد اليوم في وزارة المعارف. . .!)
على أن للمسألة يا صديقي وجهاً أخطر من ذلك وأبعد أثراً في أدب الجيل؛ فإن إنكار الفضل على (ستة نفر) استعلنوا بجهودهم بين ألف ومائتي معلم في المدارس الابتدائية، جدير بان يفقد هؤلاء (النفر الستة) حلاوة الإيمان بمعنى الأدب، ويردهم آلات لا يعملون إلا (الواجب)، الواجب الذي يؤجرون عليه بالطعام والشراب واللباس وزخرف الحياة، وأعوذ بالله من سوء الخاتمة!
ومالي أبعد في الظن وأقدر وأتوقع وأترك الواقع الملموس؟ ألست تعرف كما اعرف يا صديقي مَن الذي (يؤلف) أكثر الكتب المدرسية في وزارة المعارف ومن الذي (يشرفها) باسمه الكريم؟. . . أحسبك لا تطالبني بالتصريح بأكثر من ذلك، لأنك لا تحاول أنت أن تنكره ولا أحاول أنا أن أخفيه. . . . . .
وتسألني: ما لهذا وللمشكلة التي نعالجها اليوم وتلك قضية من قضايا الأخلاق وهذه مشكلة من مشاكل الأدب؟
وأقول: إنه ما دام الاعتبار الأول عند وزارة المعارف في الحكم على الآثار الأدبية هو (وظيفة المؤلف) فما بد أن يكون هناك تعاون بين ذوي (العلم) وذوي (الجاه) شبيهه بالتعاون بين (رأس المال) و (جهد العامل) في تكوين (شركة) من شركات (الربح والتثمير)!
أتريد أمثلة يا صديقي أم كفاك ما تعرفه وأعرفه مما لا تحاول أنت أن تنكره ولا أحاول أنا أن أخفيه!
ولكني أراك لم تقنع بعد بالعلاقة بين ما ذكرت وبين المشكلة التي نحن بسببها؛ إذن فاعلم يا صديقي أن جرثومة ذلك الداء هي تلك (الأرستقراطية العلمية) التي تأبى أن تعترف بقيمة الإنتاج الأدبي لأحد من (صغار المعلمين) إلا. . . إلا ماذا؟. . . معذرة فقد نسيت!
أتراك يا صديقي قرأت قصة (من أدباء الجيل)؟ نعم، إنني أذكر ذلك، فقد كانت موضوع حديث بيننا يوماً، ولكني أشير عليك أن تعود إليها فتقرأها مرة ثانية، فلعلك واجد فيها متاعاً ولذة يرفهان عنك بعض ما تجد من ثقل هذا الحديث!
وأعود إلى ما كنا فيه، فأسألك يا صديقي: أترى حقاً وصدقاً أنه لا بد من امتحان (المسابقة) للترقي في الوظائف حين تكون كفاية الموظف في حاجة إلى دليل؟. . .
ففي أي مباراة سبقت أنت حتى صرت (مربياً كبيراً) تحكم على أقدار (صغار المعلمين)؟ وفي أي مباراة سبق فلان وفلان ليكونوا أعضاء في لجان الامتحان وحكاماً في مباريات المعلمين؟. . .
وأبادر فأعتذر إليك وإلى فلان وفلان؛ فما أردت أن أغض من أقداركم العلمية، وإنكم لأدباء من أهل التأليف والتحقيق. . .
. . . ولكني رأيتك في بعض ما ساقتك إليه شجون الأحاديث، تنكر قيمة كل المقاييس العلمية إلا مقياس الامتحان، فرأيت أن أعرف أين أنت هناك؟. . .
أهذا ما تسميه الزهو البغيض؟
الهم إني أستغفرك وأستهديك، وأسألك إلا ما جنبتني من الكبرياء، أن تزيدني ثقة بنفسي، ويقيناً بحقي، وإيماناً بعملي!. . .
وإنه لعلى الرغم مني - يا صديقي - ألا تتهيأ لي العوامل النفسية التي تسمح لي أن أقبل على الامتحان، وإن كانوا: (في أوربا وأمريكا يتقدمون إلى المسابقات بعد الخمسين، ولهم في ميدان المجد الأدبي والعلمي مكان). . .
تسألني: لماذا؟
وأسألك: لماذا؟
وتعرف وتسكت، وأعرف وأغضي، وتفتر الشفاه عن بسمات حين تتراءى صورة فلان وفلان. . . (وأنت تعرف ما أريد)!
محمد سعيد العريان
المدرس بالمدرسة الابتدائية