انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 43/تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي 1876 - 1933

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 43/تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي 1876 - 1933

مجلة الرسالة - العدد 43
تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي 1876 - 1933
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 04 - 1934



للأستاذ خليل هنداوي

خلاصة مقال نشرته مجلة في تموز الغابر للأديب (موريس را)

دي نواي والطبيعة

يقول (جابريول) إن الشاعرة الفتاة - صديقة الحدائق - قد تأثرت كثيرا بالشاعر الكبير (جامس) وقد وضح هذا التأثر في ديوانها (القلب الذي لا يمكن تعديده) فهناك تشابه قريب بين الروحين وبين الفنين. فمقطوعات الشاعر (جامس) (الآس البري الأزرق) و (شجرات الجوز ذات الأزهار البيضاء) و (طيب الغصون المبتورة قبل الشتاء، وهو ينتشر كالمحزون في أجواء الغابة) قد ألهمت (دي نواي) كثيرا. وهب أن (جامس) لم يكن مترنماً بهذه المقاطع، فهل كان باستطاعة (دي نواي) أن تستنزل ذلك الإلهام، وأن تخترق بروحها ما اخترقت من تلك الآفاق الواسعة. قد يكون الجواب لا، ولا ريب! ولكن مالنا ننكر على (دي نواي) براعتها وخصائصها، فهبها إنها كانت حميلة على (جامس) في كي ما أنتجت وأخصبت، فأن للشاعرة وراء هذا كله مجداً وبراعة خاصة. لقد أغارت على طائفة من معاني (جامس) إغارة روحية لا أدبية، ونظمت ما تلجلج فيه (جامس) نظماً رقيق الحواشي، لطيف التعبير، زاخراً بالعاطفة، جرت فيه على الأسلوب العاطفي، أسلوب (هوجو ولامرتين). أما هوجو فقد كان كثير الرؤى والأحلام و (بودلير) كان يعبث بالطيوب عبثا، أما (الكونتس) فقد فتحت قلبها للصباح وودت أن تلمسه وتذوقه بحاستي اللمس والذوق، كما تقول:

(أفتح فمي للهواء الذي ترطبه الانداء)

وفي موطن آخر تراها لا تشبعها الطيوب ولا الألوان ولا الألحان، تتذوقها وتظل جائعة نهمة، فتعلن أنها تود أن تلمس العالم والطبيعة بيدها، فنقول بلهجة صادقة:

(أريد أن ألمس عذوبة هذا الفضاء، هذه العذوبة الندية الزرقاء حيث العصافير السكارى تثب وتنفذ في مساربه كما تشاء)

فهي تريد أن تتذوق وأن تتروح وأن تلتمس وأن تلتهم جمال الصباح، هي تستطيع أن تقول مع (سانت انطوان) بنأليه الكون. (أريد أن يكون لي أجنحة، وأن أدخل ف شيء، وأن أكون في كل شيء. أنتشر كالطيوب، وأنمو كالنبات، وأجري كالماء، وأرن كالألحان، وأسطع كالنور وأوتى جميع الأشكال، وأنفذ في كل شيء وهيئة، وأغور في أعماق المادة، وأكون بعد هذا كله - المادة. . .)

ودت الشاعرة أن تكون المادة بذاتها، فدنت منها وامتزجت مع الأشياء وقالت (سيكون جميلا وحقا إيماني. . . بأن قلبي المتوقد هو كهذه الكمثرى التي ينضج جلدها رويداً تحت أشعة الشمس). وتمنت أن تكون أحد الكائنات في الغاب، فقالت والجشع غالب عليها:

(من أين جئت؟ إن الوجود لم يحل العقدة التي تجمعني بهذا المرأى.

أنا بنفسي، أفق، وجدول، وكوكب، وغابة).

على أن رغبتها قد تثور فتأبى أن تماثل جسدها الهالك بكل أشياء هذا الوجود، ويهيج نهمها الذي لا يشبع فتخاطب الزمن قائلة:

(وأنا مثل الزمن. أنا قبل مصر العتيقة. وقبل اليونان. كنت في عهد الماء)

على أن مثل هذا الهذيان الخيالي قد يدعو إلى الابتسام، وإذا كانت الشاعرة - في واديها الذي هامت فيه - لم تخلص نفسها من تأثير أترابها الشعراء فيها، ولم تجد لمسراتها التي تفننت بها ألحانا جديدة قوية، فأنها قد جارتهم وبزتهم في كثير من مقاطعها، وابتدعت لنفسها أفقا جديدا، وإذا أدرك الشعراء الطبيعة وفهموا معانيها ورأوا ألوانها، وتنشقوا أريجها، فهي قد تروحت هذا الأرج وأصغت إلى ألحان الطبيعة التمتامة، ولمست أشياءها وأكلتها وشربتها.

أليس هذا نهمها الشعري يبدو في ثنايا سطورها؟

وهكذا أجدني أستطيع أن أطرح بيدي للا نهاية فإذا كل شيء دان من فمي، لا يمتنع عنه شيء)

وإذا ما هبت النسائم العاطرة تروحت شذا خمور (آسيا)

(وهذه الريح المهيمنة. . .

المزودة بالسماء والفضاء، والمناظر الواسعة

هي شبيهة بهذه الخمور القادم شذاها من (آسيا)

وإذا ما جنحت الشمس للغروب وكان الأفق هادئا جميلا، خيل لها أن الطبيعة نفسها قد استحالت كلبة جميلة أمينة مستوية على حضنها).

(وكنت أحس أن هذا المساء الأنيس

يهرع إلى من كل صوب ومن كل طريق لينام بين يدي)

فيالها من ساحرة نهمة لا تشبع، ويالها من غادة مجوسية - كما دعاها مارسيل بروست - هذه الغادة النهمة التي لا تقنع بإرسال طرفها في الكون، ولا بالإصغاء إلى أصواته، ولا بتروح شذاه، فهي تعمل على أن تلمس وأن تلتهم الوجود إلتهامة الشره. ولهذه الرغبة الملتهبة والصور القوية المكتنزة يعود سر استعمالها للألفاظ (اللحمية) في شعرها، ودي نواي الشاعرة هي التي كتبت (لأندريه جيد) عن الأطعمة الترابية - بكل ما في معنى الكلمة حتى أنزلت الطبيعة والحياة عندها منزلة (راحة الحلقوم) (إن الهواء الحار يحمل إلى أريكة تتهافت عليها روحي وفجاجة هذا المرج الأخضر هي في عيني مائدة فاخرة)

لكن إغراقها كثيرا في التشابيه والمجازات قد يضل القارئ عن أغراض المقطوعة وعن قصد الشاعرة.

قد تكون وجهتها في شعرها وجهة (جامس) في شعره، فأن (جامس) قد تغنى بجبال (البيرية) التي حنت على طفولته وشدا بجمالها الساحر بألحان صادقة سامية رائعة، و (دي نواي) قد تغنت بحدائق (فالوا) الفينانة، وبدت شرقيتها في كل ما نظمت هذه الشرقية المغمضة، فكانت تتروح عطور المشرق وتجد ألوان جزائر (الأرخبيل) وتذكر الأرض وقد حالت عند المغيب شعلة ملتهبة، هذه المناظر وهذه الأكوان قد آثرتها على كل شيء ووصفتها وحبتها بالألوان والشذا وبكل تلك الخاطرات السامية التي تموج في قلبها.

قال أحد نقادها بعد وفاتها (إن دي نواي قد أحبت التراب القدسي الذي يولد منه كل شيء، وإليه كل شيء يعود، هذا المعبد الذي تتعاقب عليه الفصول الأربعة تعاقبا متشابها. أحبت في الأرض تلك المرضع التي يفيض قلبها رأفة وحنانا، والتي تسمو عن الإنسان القاسي على الضعفاء)

وإذا تأمل قارئ (دي نواي) في شعرها يدرك أن هذا رأي خاطئ، لأن الشاعرة لم تقدس الأعمال ولا الأيام. لكنها كانت كإحدى كاهنات (أدونيس) أو (باخوس) تحمل في صدرها ملذات حساسة متيقظة. وهي لا تتخذ الطبيعة موضوعا لها، بل تتخذ موضوعها نفسها، وإذا ما خرجت عن نفسها لتتحد مع النجوم الساهرة، أو لتمتزج مع الأطياف التي تخلقها بخيالها، فإنما تريد من وراء هذا كله أن تنمي وجودها، وتستخلص من الوجود مسراتها النادرة.

وهي القائلة عن نفسها: (قد أكون غير مجدية، ولكن فراغي لا يملؤه أحد)

(يتبع)

خليل هنداوي