انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 429/في الليل!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 429/في الليل!

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1941



للأديب عبد الرحمن الخميسي

(في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي. . . طلبته فما

وجدته)

(التوراة)

أسدَلَ الليْلُ ياَ حَبيبي سُتورَهْ ... ومَشَى في جَوَانِبِ المعَمُورَهْ

كاهِناً تْخفُقُ الشُّموُعُ عَلَى كَفَ ... يهِ حَيَرَي كَأَنَهَا مَذْعُورَهْ

حَالِماً يَعْقِدُ الضَّباَبُ حَوالي ... هِ أكاِليلَ في الدُّجى مَنْثُورَهْ

شَاعِراً يَنْقُلُ النَّسِيمُ أَغَانِي ... هِ وَتَنْدى جِوَاوِهُ الْمَسحُورَهْ

سَاحِراً يَبْهَرُ النُّفُوسَ وَيُلقِى ... بِعَصاهُ عَلى الرِّيَاضِ الشَّجِيِرَهْ

شَادِياً يُنْصِتُ الوُجُودُ لِمُوسِي ... قاهُ حَتى كَأِنَّها مَنْظُورَهْ

عَابِدَاً تَظْمَأُ الصَّلاةُ إِليهِ ... وَمَحَارِيبه السَّمَاءُ الكَبِيِرَهْ

ذَاهِلاً أَغْرَقَ الدُّنَى فيْ ذُهُولٍ ... مُسْتَحَبٍ إلى القُلُوب الكَسِيرهْ

صَامِتاً تَضْجَرُ المُرُوجُ بِنَجْوَا ... هُ وَلَكِنَّهُ وَسِيعُ السَّرِيرَهْ

سَاهِماً يَرْقُصُ الخَيَالُ حَوَالي ... هِ وَيُجْرِي الرَّبِيعُ فِيهِ عَبِيرَهْ

رَاحِماً يَلجَأُ الحَزِيِنُ إِليهِ ... بِشِكاَياتِهِ الدَّوَامِي المَرِيرَهْ

شَاعَ فيْ جَوِّهِ السُّكُونُ وَمَدَّتْ ... فِيهِ أَنْفاسَها النُّجُومُ المُنيرَهْ

وَجَرَتْ خَلفهُ الظُّنُونُ وَحَاطَتْهُ ... طُيُوفٌ مُجَنَحاتٌ سَحِيرَهْ

فَهوَ لِلْبَائِسِ الطَّرِيدِ عَذَابٌ ... يَمسَحُ الفَجرُ فيْ الفَضَاءِ سُطُورَهْ

وَهَوَ لِلعَاشِقِ الوَفيِّ سَمِيعٌ ... يَتَلَقَّى عَنْ حُبِّهِ أُسطُورَهْ

وَهوَ لِلشَّاعِرِ الكَئِيبِ مَلاذٌ ... يْنفُضُ الدَّمْعَ فيْ صُواهُ الضَّرِيرهْ

أَقْبَلَ اللَّيْلُ! آهٍ يَا وَيْلتاَ مِنْ ... مَقْدَمِ اللَّيْلِ لِلنُّفُوسِ الْكَسِيرهْ

أَقْبَلَ اللَّيْلُ! فاَسْتَيَدَّتْ بِقَلْبي ... حَسَراتٌ عَلَى عُهُودِي الَخْضِيرَهْ

وَسَرَى فيْ دَمِي حَنِينٌ وَشَوقٌ ... مُبْهَمٌ. . . آهٍ مَا أَشَدَّ سَعِيرهْ وَصَحَتْ حَوْليَ الهُمُومُ وَنَاشَتْ ... ذَاتَ نَفسِي كَأَنْها مَسْعُورَهْ

أَقبَلَ الِليْلُ فَاَرتَطَمَتُ كَأنِّي ... مَوجَةٌ فَوقَ شَطِّهِ المَحْبُوبِ

قَذَفَتْ بِيَّ إلَيهِ أَشْوَاقُ رُوحِي ... وَشُجُوني وَحَسرَتي وَلَهِيِبي

وَارِتِيَاحِي إلى الظّلامِ وَيَأَسِي ... وَحَنِيني إلى السُّكونِ الرَّحيِبِ

وَاغتِرَابي عَن الأَنامِ كأَني ... زَهْرَةٌ بَيْنَ جَلمَدٍ وَجِدِيبِ

وَهُرُوبي مِنْ الْحَقِيقَةِ يَا لَيْ ... لُ فَأَتْرِعْ بِخَمْرِةِ الوَهْمِ كوبي!

آهٍ! إِني أُرِيْدُ أَنسَى غَرَامِي ... وَجِرَاحِي وَذِكْرَيَاتِ حَبِيِبي

أَبْعِدُوا الصُّوْرَةَ الجَمِيلةَ عَني ... أَبْعِدُوها لِتُخْمِدُوا تَعْذِيِبي!

أَبْعِدُوا الصُّورَةَ الجَمِيلةَ عَني! ... أَبْعِدُوها فَإنّها لحَبيِبي!

فَهي في مَسبَحِ الهَواءِ تَهَادَتْ ... رِقَّةً تَبْعَثُ اشْتِيَاقَ القُلُوبِ

وَهْيَ في جَبْهَةِ السَّمَاءِ هِلاَلٌ ... يَتَغَنَّى بِنُورِهِ تَشْبِيِبي

وَهيَ في الظُّلْمَةِ المَدِيدَةِ نُسْكٌ ... شَاعَ في رَحْبِها النَّدِىِّ الرِطِيِبِ

وَهيَ في البَحْرِ! وَالسَّماءِ! وَفي النُّو ... رِ! وفي سُحمةِ الظّلامِ الرهِيبِ!

وَهيَ في الأَرْضِ كلِّها. . حَيَواتٌ ... وَمِثالٌ لكلِّ حُسنٍ نَشيبِ

صَاغَهَا اللهُ مِنْ مَفَاتِنِ هَذا ال ... كَوْنِ فنّاً لِكلِّ فَنٍ ذَهِيبِ

أَبْعِدُوا الصُّورَةَ الَجمِيلةَ عَني ... أَبعِدُوهَا لِتُخْمِدُوا تَعذِيبي!

كيْفَ أَنِّي أُرِيدُ أَنْسَى غَرَامِي ... وَجِرَاحِي وَذِكْرَيَاتِ حَبِيبي؟

وَلقَدْ أُطْبِقَتْ جُفُوني وَلكِنْ ... قَدْ تَرَاءتْ رُسُومُهُ في جُنُوبي

أَيها الليْلُ قَدْ فَزِعتُ إلى عَط ... فِكَ مِنْ ظُلمِ حُرْقَتي وَكُروبي

أَنَا أَهْوَاكَ يَا ظلاَمُ فَأَطفئِ ... لي دَرَارِيكَ وَاستَمِعْ لِنَحيِبي!

وَلتَكُنْ فِي النَّسيِمِ مِنكَ شَكاتي ... ارْوِهَا لِلسَّمَاءِ عَنْ مَكْرُوبِ!

أَيُّهَا الليلُ لَيتَني كنتُ نَجماً ... عَائماً في مِيَاهِكَ الزرْقاءِ

أَقطَعُ الظُّلمَةَ الأتِيَّةَ لهَفَا ... نَ إلى مَخْدَعِ الْحَبيبِ النَّائي

ثمَّ أُضْفِي عَلَيهِ مِني خُيُوطاً ... تَحْتَويهِ في ضَمِّةٍ رَعناءِ

لأُرَوِّي بِقُبلَةٍ مِنهُ نَفْسي ... تُطلِقُ الرُّوحَ من أسًى وَعَنَاءِ وَأُحَلِّي بِسِحرِ عَينَيْهِ ذاتي ... ثَّم أزْهى عَلَى نُجُوم السَّمَاءِ

غَيْرَ أَني يَا حَسْرَتا آدَمِيٌّ! ... قَيَّدتِني أَرْضِيَّتِي في بِنائِي!

أَيها الليلُ لَيْتَني كنتُ عصفو ... راً طَلِيقاً مَعَ السَّنَي وَالهَوَاءِ

كنْتُ نَقَّرتُ فَوقَ نَافِذَةِ الَمحْ ... بُوبِ أدْعُوهُ لاسْتماعِ غِنائِي

ليُغنِّي مَعِي وَيُحْكِمَ قَيدِي ... بَيْنَ كفّيْهِ رَاضِياً بِشَقَائِي

غَيْرَ أَني يَا حَسْرَتاَ آدَميٌّ! ... قَيَّدَتْني أَرْضِيَّتِي في بِناَئي

أيها الليلُ ليْتَ أَنِّي هَوَاءٌ ... سَابحٌ في حدِيقَةٍ زَهْرَاءِ

أجْمعُ العِطْرَ مِنْ ثُغُورِ الأَقَاحي ... وَالرَّياحينِ في مَدَى أَحْناَئي

ثمَّ أَمْضِي إلى حَبِيبي عَلِيلاً ... أَسْكَرَ البَدْرُ عُنْصُري بالضَّياَءِ

أَحمِلُ الطِّيبَ في فُؤَادِي إِليهِ ... وَأُفرِّي حِيَالَهُ أحْشاَئي

لأكُونَ الأَنفاَسَ في رِئَتَيهِ ... وَلأحْظَى في صَدرِهِ بفَناَئِي

غَيرَ أنِّي ياَ حَسرَتا آدَمِيٌّ! ... قيَّدَتني أَرْضِيَّتي في بِنائي

أيُّها اللَّيْلُ! ليتَني كنتُ روضاً ... مُورِقَ الزَّهْرِ، وارِفَ الأفياءِ

نمَّقَتْ صَفْحَتي أَنَامِلُ حَسنَا ... ءُ رَبيِعيَّةُ النّدَى والرُّواءِ

كنْتُ نَسَّقْتُ مِنْ وُرُودي تاَجاً ... لِحَبيبي كالهالةِ البَيْضَاءِ

غَيْرَ أَنِّي ياَ حَسْرَتَا آدَمِيٌّ! ... قيَّدَتني أَرْضيَّتي في بِنائي!

أَيُّهاَ اللَّيْلُ ياَ مُقِيلَ الْحَيَارَى ... والْمَسَاكِينِ في البَلاَءِ الشديدِ

في دَمي ثَوْرةٌُيَبُثُّ لَظاَهَا ... هَاجِسٌ أَلهَبَتْهُ ناَرُ الصُّدودِ

وَعَلَى مُهْجَتِي يَؤُزُّ الْتِيَاعٌ ... جَائِعٌ لِلوَقودِ بَعْدَ الوَقُودِ

وَأَناَ بَيْنَ ما أُعَاني لَهِيفٌ ... أَتهاَوّى في قلِبَي المَهْدُودِ

نهْزَةٌ لِلشُّجُونِ لَكِنَّ رُوحي ... تَتَخَطَّى إليْكَ كلَّ السُّدُودِ

خُذْ بِنفْسي إلى السَّلاَمِ وَهَدِّى ... سَوْرَةَ الوَجْدِ في فُؤَادِي العَمِيد

وأمْسَح السُّهْدَ عَنْ عُيُوني وصُغْ مِنْ ... زَفَرَاتي النّشِيدَ تِلوَ النّشِيِدِ

فَارْتِقابُ الوِصَالِ أمرٌ بَعيدٌ ... خِلتُهُ لَيْسَ كالسُّهَا بِالْبِعَيِد

وَحَرَامٌ عَلَى الغَرامِ ضَيَاعِي! ... وَحلاَلٌ فِي ظِلِّهِ تَغْرِيِدي! وَحرامٌ عَلَى العَذَابِ اجْتِياحي ... وَأَنا مَا بَلَغتُ عُمرَ الوُرُودِ

وحرامٌ عَلَى العُيُونِ اللوَاتِي ... حيَّرَتْني، فِي بُعْدِها تَشْريدِي

وحرامٌ عَلَى الهَوَى يَا حبيبي ... أنْ يُحيلَ السَّعيدَ غَيرَ سَعيِد! ِ

وحرامٌ عَلَى الليَالِي طَوَافِي ... حوْلَ أَهْوَالها الغِضَابِ السُّودِ

وأَناَ ما خُلِقْتُ إِلا لأشّدُو ... في رِكابٍ مِنَ الجمَالِ فَرِيدِ

أيُّهَا الليلُ في فُؤَادِيَ لَيلٌ ... زَاخِرُ الَموْجِ لَيْسَ بالْمَحْدُودِ

وَسَيَهْتَزُّ في ضُلوعكَ فَجرٌ ... يُوقِظٌ الطَّيرَ لِلنهارِ الجَديدِ

وَأَناَ مُظْلِمُ الْجَوانِحِ ظَمْآ ... نُ إلى فَجْرِى الْمُنيرِ الْفَقِيدِ

لِي رَجَاءٌ في رَحْمَةِ اللهِ لَمَّا ... وَسِعَتْ في الوُجُودِ كُلَّ الوُجُودِ

أَنْ يُنِيرَ الْحَيَاةَ في قَلبِيَ الدَّا ... جي وَيُقْصِى عَنِّى هَزِيمَ الرُّعُودِ

فأَناَ زَوْرَقٌ يُضَلِّلُهُ الإِعْ ... صَارُ عَنْ شَطِّهِ الأمِينِ الوَحِيدِ

حَجَبُوهَا! وَمَنْ سَيُطْلِقُ أَسْرَا ... بَ الأمَاني إلى وُكورِ حَيَاتي؟

حَجَبُوهَا! وَمَنْ يُنَضِّرُ أَغْرَا ... مِي وَيَجْنِي مَع الصِّبَا ثَمَرَاتي؟

حَجَبُوهَا! وَمَنْ يُجَمِّلُ عَيْشِي ... وَيُغَذِّى بِحُسْنِه صَبَوَاتي؟

وَلِمَنْ جِئْتَ ياَ غَرَامِي إلى الدُّنْ ... ياَ؟ وَمَنْ ذَاتُهُ تُكمِّلُ ذاتي؟

حَجَبُوهَا! فَمَنْ يُهدْهِدُ أَشْوَا ... قِي إلَيهاَ وَلْهَفَتِي وَشَكائي؟

أَيُّهَذَا القَضَاءُ لا كنْتَ ياَ غَا ... دِرُ! فَرَّقْتَ في اللَّهِيبِ شَتاتي

وَشَرِبْتَ الدِّمَاَء مِنْ غَوْرِ قلبِي ... وَاخْتَطَفْتَ الضِّيَاَء مِنْ بَسَمَاتي

وَغَرَسْتَ الْهُمُوم في ذاتِ نَفْسِي ... كَحِرابٍ تُدَكُ في جَنَباَتي

وَزَرَعْتُ الأشْوَاكَ في طُرُقاتي ... وَأَرَقتَ الذُّهولَ في نَظَرَاتي!

فعَبَرْتُ السِّنِيَن كالطْائرِ المح ... مُومِ أقتاَتُ من رِمالِ الْفَلاةِ

أيْنَ عُشِّي وَأيْكَتِي وَغَدِيري ... وَرَحيقِي وَزَهْرَتي وَلِدَاتي؟

وَلِمِاذَا أَبْعَدْتَني ياَ زَماني ... عَنْ حِمَاها! فأَظْلمَتْ طُرُقاتي؟

أناَ أهْوَاكِ يَا شَقيقَةَ رُوحي! ... أناَ أهْواكِ يَا حَيَاةَ حَياتي!

فَنِيَتُ نَفْسي في هَواكِ كما لوْ ... فَنِيَ النَّهْرُ في الْخِضَمِّ الْعَاتي وتَلاشَيْتُ في غَرَامكِ، وَاهْتَا ... جَتْ من الشَّوقِ والْجَوى حُرُقاتي

أَنتِ شِطْري وكَيْفَ يَبْعُدُ شِطْري ... ثمَّ تَخْبُو إذا نَأَى حَسَرَاتي؟

أنتِ إِشْرَاقَةٌ مِنَ اللهِ تَنْسَا ... بُ وَتَمْحُو بِنُورِها ظلمُاَتي

أَنتِ مَعْنىً فَوقَ الَجماَل رَفِيعٌ ... أَتَسَامَى إليه في صَلَوَاتي

قَرِّبينيِ مِنَ الإِلهِ وَهَاتى ... مَا تَشَائِينَ مِنْ كُئُوسِكِ هَاتى

وَخُذيني إليكِ في كُلِّ مَعْنىً ... منْ مَعَانِيكِ يا حَيَاةَ حَيَاتي!

(القاهرة)

عبد الرحمن الخميسي