انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 429/المجرم رجل مريض

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 429/المجرم رجل مريض

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1941



للأستاذ حسين الظريفي

كان سيزار لمبروزو أول من تناول المجرم بالبحث العلمي وطلع على العالم بنتائج طريفة كان أخطر ما فيها إثبات العلائم الدالة على الأجرام. وقد لبثت نظريته في المجرم والجريمة ردحاً من الزمن وهي ذات سيادة تكاد تكون كاملة في عالم الجنائيات. إلا أنها أخذت بعد حين بكثير من النقد والتجريح، ثم توسع فيها الناقدون وأضافوا إلى أصلها كثيراً من الحواشي التي لم يقل بها صاحب النظرية، حتى يكاد يعد لمبروزو خارجا على ما ينسب إليه، أو أنه ليس من المدرسة المعروفة باسمه

وفي الواقع ان لمبروزو لم يصب كبد الحقيقة، إلا أنه لم يزغ عنها تمام الزيوغ؛ فالنظرية ليست كلها على خطأ أنها ليست كلها على صواب؛ وأحسن ما يمكن أن يقال فيها إنها صورت نصف الحقيقة، ولم يعن جمهور العلماء بنقضها ودحضها إلا لأنها ظهرت في غير ظرفها الملائم وقبل الزمن المهيأ لأخذها بالقبول

وتتضح خطوط هذا التحليل في تفصيل النظرية الحديثة على بواعث الأجرام، تلك النظرية التي تنطوي على بعث الجريمة من وراء الخلل في الغدد الصماء

وهذه الغدد غير منقاة، وهي تلتقي عصارتها في الدم مباشرة من دون وسيط فتنتقل على متنه إلى كافة أجهزة الجسم وتفعل فيه الأفاعيل من هدم وبناء وتنويم وأيقاظ على رغم مقاديرها الضئيلة، وهي في مجموعها تؤلف وحدة حيوية مترابطة الأجزاء تفعل وتتفاعل بمقدار وعلى نمط خاص

وكان من العلماء الذين وقفوا سنوات طويلة من حياتهم على البحث في الغدد الصماء (الدكتور رالف رينولدز) بسان فرنسيسكو وزميله الدكتور (ستانلي) طبيب سجن كانتين. وقد قام هذان الدكتوران بكثير من العمليات لإزالة اضطرابات الغدد وتنظيم سيرها في السجناء من الجناة فكان ما قاما به عظيم الأثر في تحسين أحوالهم الطبيعية والعقلية؛ وتغيرت طباعهم وأخلاقهم وحتى إشكالهم الظاهرة. وقد وجد الدكتور (رالف) أثناء اختباراته المتواصلة أن نسبة مئوية كبيرة من أبناء السجون مصابة بحالة غير عادية في الغدد الصماء، وشاهد أن من يرتكبون جناية القتل وما يماثلها من الجروح يكونون مصابين باضطرابات في الغدد الدرقية الموجودة في أصل العنق، وأن المزورين والمحتالين والسراق يختلفون من غيرهم بغددهم النخامية، وأن من ينغمسون في الجرائم الشهوانية والنقائص الجنسية، وإذا كانت هيئة أعضائهم في الذكورة والأنوثة شبيهة بسواها فلأن منبع الاختلاف مستقر في الداخل.

على أن الغدد المضطربة يكثر أن تترك آثار اضطراباتها ظاهرة في أجزاء البدن الظاهر، تلكم الآثار التي أوحت إلى لمبروزو نظريته فأصاب وأخطأ في آن واحد.

والذي يظهر من هذه الكشوف العلمية أن الجريمة ظاهرة مادية لعلة فسيولوجية تقوم في جانحة المجرم، أو أنها ليست إلا مظهراً لزيادة أو نقص تلك العصارات الذرية التي تفرزها الغدد الصماء في الدم، فتختلق في الإنسان ما تشاء من عواطف وشذوذ.

وبالقياس إلى هذه النظرية يصبح العقاب غير مجد في معالجة الأجرام وفيه جناية اجتماعية على الجاني. والطريق الوحيدة لإزالة الجريمة هي معالجة ما يعانيه الجناة من الاضطرابات في غددهم الصماء.

قد يقال: إن من الجناة من لا يعود إلى ما جنى إذا نزل به العقاب، وإن منهم من يقلع عن ارتكاب الجرائم متى تقدمت به السن. وعندي أن الرد على هذا النقد منطو في أن من الجناة من يندفع إلى الجريمة بقوة ظرفه الخاص؛ فمثل هذا الجاني لا يمكن أن يعد في عداد أولئك الذين تتحرك في نفوسهم عوامل الأجرام من وراء الخلل في الغدد الصماء. كذلك يمكن أن يقال: أن الغدد قد تعود إلى التوازن بعد الإفراط في الإفراز متى ضمرت ببلوغ الشيخوخة.

ونحن وإن كنا نرى استحالة تطبيق هذه النظرية في أكثر البلاد وتعسر تطبيقها في البلدان الأخرى، فإن البحث العلمي يجب ألا ينقطع بقيام التعذر والاستحالة في التطبيق، وأنه لا مناص من اعتباره باعثا عليه.

على أن من الجرائم ما قد يكون منبعثاً عن سوء التربية في دور الطفولة. فقد ثبت في دائرة العلوم النفسية والتربوية أن لسنوات الطفولة من التأثير الخطير في نفس وأخلاق الطفل ما يبقى رازحاً تحت أعبائه طول حياته.

وليس عجيباً أن نحلل بعض مظاهر الأجرام، فنجدها عائدة إلى ما كان من سوء التربية في مراحل الطفولة، فإن الوليد لا بد أن يأخذ عن وسطه المحدود كثيراً مما ندعوه بالعقد النفسية، تلك التي تتسرب إلى سريرة الطفل كأمراض داخلية تظهر عادة في أخلاقه وأعماله وفي طريقة تفكيره، وقد تندفع به إلى نوع خاص من الأجرام، وذلك أن سلسلة التفكير تصطدم بالعقد النفسية فيقف دون نموه الطبيعي ويضطر إلى اتخاذ طريق آخر معوج في النمو يوحي به ما ترسب في قاع النفس من عهد الطفولة. فالعقدة ليست إلا الشرك الذي تقع فيه حياتنا العقلية، وقد توحي بارتكاب الجريمة، وأي من وراء قناع من العقل الباطني تتوارى فيه الأبصار.

إن هذه العقد النفسية مهما كانت راسية في قرارة النفس، ولا تكاد تظهر إلا في ثوب مستعار تخفى فيه حقيقتها عن الأنظار فإن في الإمكان أن تصل إليها يد البحث العلمي بطريقة التحليل النفسي، حيث يهتدي بهذا الطريقة إلى العقد النفسية التي اعترضت حياتنا العقلية، وعاقتها عن السير في طريق تكاملها الطبيعي؛ ثم أخذت تظهر من حين لآخر في ضروب أخلاقنا وأفكارنا وأعمالنا، وكانت مصدر شذوذ في كثير من أولئك. وقد ظهر لدى البحث العلمي أن المرض يزول بالوقوف على العقدة التي فرضته وبهذه الطريقة يمكن إرجاع المصابين في حياتهم العقلية إلى حالتهم الطبيعية بعد أن تكون قد انحلت العقدة، وقضى على أصل المرض.

وظاهر مما سبق أن الجريمة قد تكون منبعثة عن تلك الرسائل الكهربائية التي تطلقها الغدد الصماء على متون الدماء فتتصل عن طريقها إلى أجهزة البدن كافة. وقد تكون وليدة العقد النفسية التي تصيب الحياة العقلية؛ وتورث من الأمراض ما قد تظهر آثارها في صورة ارتكاب بعض الجرائم.

فالمجرم لم يعد بعد كما كان من قبل مثال الرجولة والبطولة، والسجن لا يقوم على الرجال، وإنما يقوم على أشباه الرجال ممن أصيبوا في غددهم أو في نفوسهم، وكانوا أجدر بالمعالجة الطبية أو النفسية من الزج بهم في أعماق السجون

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي