مجلة الرسالة/العدد 428/القصص
مجلة الرسالة/العدد 428/القصص
ذَهَبْ آلْ هُوهِنِزْلَرِنْ
تأليف الكاتب الإنكليزي س. فورستر
للأديب سيد إبراهيم البكار
عندما كان ابن عمي بريان طالباً بالطب، كان كثيراً ما يختلف إلى منزلي، وخاصة عندما يكون في حاجة شديدة إلى النقود. أما الآن وقد أصبح طبياً ناجحاً فلم أعد أراه أو أسمع صوته. لذلك كانت دهشتي شديدة، عندما دق جرس التليفون في أحد الأيام وكان المتكلم بريان. وسألني عما إذا كان في استطاعتي أن أستغني عن جزء من وقتي ليواضعني الرأي في أمر هام. وقد انتهى حديثي معه بأن دعوته إلى العشاء.
ومع أنني كنت مشغولاً إذ ذاك بعرض إحدى رواياتي على مسارح لندن، ومنهمكاً في درس تفاصيل اتفاق مع إحدى الشركات السينمائية على شراء رواية أخرى، فإني كنت مشتاقاً إلى رؤية بريان، وقضاء بعض الوقت معه. فقد كان شاباً ظريفاً، يتفجر حيوية ونشاطاً.
وكان لبريان مقدرة عظيمة على ضبط نفسه، فلم يكلمني في ذلك الأمر الهام حتى فرغنا من تناول العشاء وشرب القهوة. وفي أثناء ذلك أخذ يسألني بكل أدب عن الرواية والفلم، وعن مدى نجاح مسرحيتي الجديدة. ولم يكن عجيباً أن يلقبني بريان بالعم فقد درج على ذلك منذ صغره، ولم أكن من ناحيتي أرى غضاضة في ذلك، بل كنت أعتبر هذا شعوراً طيباً منه نحوي. ولما فرغ بريان من إشعال سيجارته سألته عن ذلك الأمر الهام الذي كلمني عنه في التليفون.
قال بريان: حسن يا عمي، كل ما أريده منك أن تصحبني في رحلة على ظهر الدوليسينيا. والدوليسينيا هو الاسم الذي أطلقه على يختي الخاص.
قلت: يا طفلي العزيز، لقد كنت تتكلم الآن عن الرواية والفلم. وأنت تعرف أني أريد أن أنتهي منهما. وعلى ذلك لن يكون في استطاعتي أن أستغني عن دقيقة واحدة في ستة الأسابيع القادمة.
قال بريان: حسن، هذا ما كنت أخشاه، فبعد ستة أسابيع يكون الوقت قد مضى، وأنت تعرف أن الملاحة في الدانوب تتعطل في أثناء الشتاء.
- الدانوب؟ وأين تريد أن تذهب؟ ولماذا؟
- أنت ترى، ولكن يحسن بي أن أتكلم من البداية.
- إن هذا يكون أكثر إيضاحاً.
- لقد بدأت هذه القصة منذ أسبوعين مع أحد مرضاي وهو بحار ألماني ظريف يدعى (باير). وكانوا قد حملوه إلى المستشفى من الميناء، إذ أصابته إحدى الرافعات إصابة خطرة. وقد بلغت ما في وسعي لإنقاذه فنلت بذلك ثقته، وقد ساعدني على ذلك معرفتي باللغة الألمانية. وقبل وفاته بقليل أرسل إحدى الممرضات لاستدعائي - ولحسن الحظ كنت موجوداً حينئذ في المستشفى - وأخبرني عن الكنز.
- الكنز؟
- نعم، الكنز. إنها تبدو لك رواية خيالية. وقد فكرت فيك وهو يقص عليّ تلك القصة العجيبة. ألا ترى معي أنها كذلك؟ البحار الذي يحتضر يقص على الدكتور الطبيب في المستشفى قصة الكنز المخبوء، إنما كان ينبغي أن تكون مع البحار خريطة يبين عليها مكان الكنز.
- وهل كان معه؟
- كلا ولكن ما قاله يكفي. لقد قال إنه كان جندياً في الحرب العظمى، ولم يشتغل بالملاحة إلا أخيراً. وقد كان أحد الحراس الثلاثة الذين أرسلته الحكومة الألمانية لحراسة مقدار من المال أرسلته إلى بلغاريا أثناء الحرب. وقد عهد إلى أحد الضباط حراسة العربة المملوءة بالمال. ولما كانت أرض بلغاريا أرض صخرية وعرة، فقد وصلوا إلى هناك متأخرين. وأنت تعرف أن بلغاريا كانت أسبق الدول التي بادرت في التسليم.
- نعم. هنا صحيح. ولا زلت أعجب كيف أن الشبان الذين لم يكونوا إلا صبية صغار في سنة 1918 يعرفون عن معركة هاستنج أكثر مما يعرفه آباؤهم وأعمامهم الذين خاضوا غمارها وذاقوا ويلاتها.
وعاد بريان يقول: لقد كانوا قريبين من الحدود عندما سلمت بلغاريا. ولما سمع الضابط أن جيشاً إنجليزياً كان في طريقه إلى صوفيا أمر بتحويل عربة الكنز إلى خط آخر، ووصلها بالقطار الذاهب إلى ألمانيا. ولم يكن سيرهم سريعاً، لأن خطوط السكك الحديدية كانت غير منتظمة. وكانوا لا يزالون في هنغاريا عندما سلمت النمسا أيضاً.
قلت: هذا معقول جداً. فالنمسا كانت ثانية الدول التي سلمت
واستطرد بريان يقول: وهكذا كانوا هناك مع عربة من عربات السكك الحديدية ملأى بالذهب. ولم يكونوا قادرين على التقدم ولا على الرجوع. وكان عليهم أن يعملوا عملاً حازماً سريعاً. ومما حملهم على ذلك أيضاً أن التشيك والرومانيين كانوا يسيرون في اتجاههم. وكان الإيطاليون يتقدمون نحو فينا. وبالطبع لم يكن الضابط يريد أن يستولي الخلفاء على ذلك الكنز ولذلك دفنوه.
قلت: وهل أخبرك أين دفنوه؟
- بالطبع. فقد وقف قطارهم عند تل عال يقع بالقرب من قرية تسمى (ديللنجن) على نهر الدانوب. وعلى قمة هذا التل صليب تذكاري. وقد تعاون الضابط وباير والرجل الثالث على إخراج الذهب من العربة، وحملوه ليلاً إلى أعلى التل، ودفنوه هناك على عشر خطوات من الصليب المذكور.
وقد قال لي باير إن المال كله كان في صناديق حديدية، من بينها اثنان لم يستطيعوا حملهما إلا بصعوبة.
- وهل تظن أنه كان يقول الحقيقة؟
- نعم. . إني متأكد من ذلك تأكدي من جلوسي هنا معك.
- ولكن هذا لا يعني أن الكنز لا يزال هناك.
- صبراً. فسأخبرك عن كل شئ في وقته، فبعد أن دفنوا الكنز رحل الثلاثة: باير، والضابط، والرجل الثالث، قاصدين بلادهم. وقد كان رجوعهم شاقاً، فقد كانت هناك ثورات في كل مكان؛ وكانت آثار التخريب والدمار بادية في كل قرية.
- نعم هذا صحيح، فقد شاهدت بعيني ما حدث في دول أوربا الوسطى بعد الهدنة بقليل.
- وعلاوة على ذلك لم يكن مع أحدهم الغذاء الكافي. وكانت العدوى الأنفلونزا منتشرة في ذلك الوقت، وقد أصيب بها الرجل الثالث فمات في فينا. وبقى باير والضابط. ولما وصلا أخيراً إلى ألمانيا كانت الحرب هناك قد انتهت أيضاً؛ ولكن كانت هناك فتن وقلاقل داخلية. وبينما كانا خارجين من محطة السكك الحديدية في درسدن قذف شخص مجهول قنبلة أصابت من الضابط مقتلاً. وأصيب باير بجروح لم تكن خطرة على كل حال، فقضى هناك بعض الوقت حتى التأمت جروحه، ولما ثابت إليه صحته صمم على أن يحتفظ بسر الكنز لنفسه وألا يخبر به أحداً ما داموا لم يسألوه عنه. فقد نسى الجميع كل شئ عن هذا الكنز وسط القلق والاضطراب والثورات القائمة.
- ليس هذا بعجيب.
- حسن. منذ ذلك الوقت وباير يبحث عن طريقة يحصل بها على هذا المال؛ ولكن لم يكن ذلك بالشيء اليسير، إذ يجب عليه أن يجتاز بعض الحدود، ويتعرض للشبهات والظنون. وفضلاً عن ذلك فإن هذه الرحلة الطويلة الشاقة تتطلب كثيراً من النقود ولم تكن النقود متوفرة لديه. وكان يخاف أن يطلب معونة أحد حتى لا يطلعه على سره. لذلك أخذ يتنقل من عمل إلى آخر، منتظراً حدوث معجزة تدنيه من غرضه. ولكن لم يتحقق حلمه، فقد كان آخر عمل له أنه كان بحاراً على ظهر السفينة الألمانية، ولم يعش طويلاً؛ فقد مات بعد أن قص على هذه القصة.
- وهل سمعه أحد وهو يخبرك بهذه القصة؟
- كلا. إن هذا مستحيل. ومع ذلك فقد كان يكلمني باللغة الألمانية.
- حسن، كل شئ يكاد يبدو حقيقياً، ولكن ما هي خطتك؟
- أريد أن نركب الدوليسينيا إلى هناك، ويمكننا أن نبحر إلى أعالي نهر الرين، ونعبر القناة الواصلة بين الرين والدانوب.
- يا إلهي! لقد نسيت كل شئ عن هذه القناة.
- ومن ثم ننزل إلى الدانوب، من فينا، وبعد ذلك ترسى عند ديللجمة، ثم نحمل الكنز ليلاً إلى اليخت. وأنت تعرف أن اليخت أكثر صلاحية لتخبئة الكنز من السيارة. ولن يرتاب فينا إنسان أو يشك في الأمر أحد.
- هه!
- ستأتي معنا. أليس كذلك؟ سنكون أنا ودوروثي مسرورين بمجيئك.
- دوروثي؟ يا للشيطان! وما الذي أدخل دوروثي في الأمر؟ ودوروثي هي خطيبة بريان.
- نحن على وشك الزواج، وستكون هذه الرحلة بمثابة شهر العسل لنا.
- فليبارك الله نفسي. هل تظنني أصحبكما وأتطفل على زوجين في شهر العسل؟
- لكننا لا نبالي بذلك.
- ربما لا تبالون أنتم بالأمر؛ ولكني أنا أبالي. إني أفضل أن يختل عقلي - كما أتوقع لنفسي - بهذه التجارب وهذا الفلم. أما أنت فخذ اليخت، ولكن لا تسألني أن أصحبكما.
- أشكرك يا عمي. ستأخذ نصف الكنز. هل تقبل؟ إننا سنستخدم يختك كما تعلم.
ردني ما قاله إلى عالم الحقيقة مرة ثانية. لقد رن كل شئ في أذني معقولاً إلى الآن. ولكن عندما أخذت أنظر في الأمر عن كثب بدا لي كل شئ أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة الواقعة. فاكتشاف الكنز المخبوء لا يكون إلا في القصص والروايات.
وقطع على بريان سلسلة تأملاتي بقوله:
- كم تظن من المال هناك؟
قلت: أنا لا أعتقد أن دولة كبيرة كألمانيا ترسل إلى بلغاريا في أثناء الحرب أقل من مليون جنيه. أليس كذلك؟
وتناولت ورقة وقلماً وأخذت أحسب.
- كل شئ حسن. لقد حسبناها أنا ودوروثي. نحن نستطيع أن نحمل مليون جنيه على ظهر الدوليسينيا بكل سهولة.
وأخيراً اتفقنا على كل شئ. سأضع يختي تحت تصرف بريان؛ وعندما يأتي بالمليون سيعطيني عشر هذا المليون. وأنا أعتقد أن مائة ألف جنيه تكفي عجوزاً مثلي لكي يقضي بقية حياته في هدوء واطمئنان. ويستطيع بريان أن يأخذ باقي المليون، وإذا لم يستطع إنفاق كل هذا المال فعليه أن يعيد بناء مستشفى لندن. وكنت أعرف أن بلاد الدانوب مليئة بالفتن والقلاقل، وأنهم سيتعرضون لكثير من المخاطر. فلما أبديت مخاوفي إلى بريان ابتسم وقال:
- إن دوروثي تحب المغامرات، وهي تخوض المخاطر بشجاعة منقطعة النظير. وعلى كل حال نحن نعرف كيف نحتفظ برؤوسنا سليمة، فلا تخف.
وأخذنا نتناقش في بعض التفصيلات الخاصة بالرحلة، وإعداد العدة لها، ولم يبرح بريان منزلي إلا بعد الساعة الرابعة صباحاً.
وأخيراً أتى اليوم السعيد، يوم زواج بريان ودوروثي. ولم أستطع التخلص من مشاغلي إلا بصعوبة. وما صدقت أني أصبحت حراً طليقاً، من أوامر الأستديو، وقيود التجارب في يوم بأكمله، حتى قصدت الكنيسة حيث أقيمت مراسيم الزواج، ووقعت باسمي شاهداً في السجل الخاص بالزواج، ثم قدت العروسين السعيدين إلى مرسى الدوليسينا. كان أمامي ستة أسابيع قبل أن أراهما ثانية. ولا أقول إن هذه الستة أسابيع مرت ببطء، أو إني قضيتها على أحر من الجمر، فقد كانت مشاغلي كثيرة. كان أمامي الرواية المسرحية، ومضايقات التجارب التي لا تنتهي؛ ثم هناك أيضاً الفلم، ولا تستطيع من يشتغل بإخراج فلم أن يجد من وقته لحظة واحدة يقضيها في هدوء وسلام. وعندما انتهى الفلم وأصبح صالحاً للعرض، كان لا يزال على أن أنتهي من هذه الرواية بسرعة، وقد انتهيت منها في الوقت الذي تعهدت بتقديمها فيه إلى الناشر. وعندما انتهيت من هذا كله أحسست كأن عبئاً ثقيلاً أزيح عن عاتقي. ومن ثم أخذت أفكر طويلاً في الدوليسينا، وكنت أتخيلها وهي تأخذ طريقها عبر القناة بين مرتفعات بافاريا، ثم أتخيلها وهي تندفع مع التيار في نهر الدانوب؛ ثم أتخيلها وهي تثير شكوك البوليس في سبع دول مختلفة.
وكنت أواظب في أثناء ذلك على قراءة الجرائد الأجنبية. ولكني لم أعثر فيها على أي نبأ بالقبض على زوجين إنجليزيين بتهمة التجسس أو سرقة كنز. ولكنني مع ذلك أخذت أتضايق، وأوشك صبري أن ينفذ عندما سمعت جرس التليفون يدق فجأة، وكان الترنك يناديني من سوثهامبتن.
- هالو! عمي! لقد رجعنا ثانية. وكان الصوت صوت بريان.
قلت: وهل أنتما بخير؟
قال: نعم وقد وجدنا الكنز.
وصحت فجأة: وجدتما ماذا؟
- وجدنا الكنز كله سليماً. ألم أقل لك إني سأجده؟ سأخبرك بكل شئ في هذا المساء. نحن الآن في المحطة على وشك ركوب القطار إلى المدينة.
وربما كان أول ما خالج نفسي من مشاعر هو الاطمئنان لعودتهم سالمين، ولكن مع هذا طغى على فضول هائل لمعرفة كل شئ عن الكنز. وقد كنت ما أزال في ريب من أن هذه المغامرة قد انتهت بهذه السهولة. وعهدي بالمغامرات أنها لا تتحقق إلا في الروايات الخيالية التي كنت أؤلف منها العدد الكبير. كنت في الحقيقة بين الشك واليقين، وكنت في اضطراب ذهني، وقلق فكري، عندما أتى بريان ودوروثي لينقذاني مما أعاني.
قلت عند رؤيتهم: حسن؟
قال بريان: نحن مسروران لرؤية عمي المؤلف العظيم.
وقالت دوروثي: لقد رأينا ونحن في التاكسي جموع الجماهير المحتشدة وهي تتزاحم على شراء التذاكر لرؤية مسرحيتك الخالدة!
قلت: لعنة الله على المسرحية، لنتكلم عن الكنز أولاً.
قال بريان: حسن، ولكن أسمح لي أولاً بشيء من الشراب يا عمي.
وأحضرت إليه ما طلبه، ثم أخبرت الخادم أن الدكتور والمسز سومرست سيبقيان للعشاء. ثم استدرت نحوهما وقلت: حسن.
وابتدأ بريان يقول: لم تكن رحلة رديئة بالنظر إلى الدين كانوا يرافقونني.
ورمته دوروثي بمخدة صغيرة.
قلت وقد شعرت بالغضب لتدخلها: لا تكوني طفلة حديثة الزواج هكذا! اتركي هذا الطفل الأحمق يقص قصته بطريقته الخاصة.
وعاد بريان يقول: لم تكن الرحلة تستحق الذكر. إلا أن النهر كان مليئاً بالقوارب الكبيرة والجرارات الضخمة التي كانت تحدث صوتاً عالياً، حتى أنك لا تستطيع أن تسمع كلامك نفسه؛ وقضينا يومين على هذا الحال. أما اليخت فيجب عليك يا عمي أن تضع فيه ماكينة فاخرة بعد ذلك. لقد كنت أقول دائماً إنك ستستعمل اليخت عاجلاً أو آجلاً.
قلت بضيق: سأفعل ذلك في المرة القادمة.
- هذا عن نهر الرين. أما الملاحة في الدانوب فقد كانت حسنة. إنه نهر واسع جميل، وكانت الرياح تساعدنا، وكانت الأمواج هادئة، وبعبارة أصح كانت الرحلة موفقة. آه، لقد نسيت أن أخبرك عن العبور من هولندا إلى ألمانيا. كان علينا أن ندفع. . .
قلت وقد نفذ صبري: أنا لا أهتم بما تدفعه. استمر في قصتك.
- حسن، لقد عبرنا تشيكوسلوفاكيا والنمسا والمجر، وكان كل من يرى الراية الزرقاء ترفرف على اليخت لا يفهم السبب الذي حدا بيخت إنجليزي خاص إلى المجيء إلى أواسط أوربا، ولكنهم اعتادوا رؤيتنا فلم يسببوا لنا متاعب عند رجوعنا أخيراً بالذهب؛ وكان كل مكتب جمارك يدعونا ليلقي علينا بعض الأسئلة عن المكان الذي أتينا منه، وعما نفعله، وإلى أين نحن ذاهبان، وكان أكثرهم يتظاهر بأنه لا يعرف الألمانية.
قلت وقد عيل صبري: لعنة الله على الألمانية! ألم تذهب أخيراً إلى ديللنجن؟
- نعم في آخر الأمر، وكان أول شئ بدا لنا من ديللنجن هو الصليب التذكاري على المرتفعات القريبة من الماء. وكان هناك خط حديدي بجوار التل كما قال باير تماماً؛ وكان علينا أن نذهب إلى الشاطئ ونعبر شريط القطار، ثم نصعد إلى قمة الجبل، ولما وصلنا إلى ذلك الصليب التذكاري خطوت عشر ياردات إلى الشمال منه، وكان كل شئ حسناً.
- ماذا تعني بقولك حسن؟
- لقد قال باير الصدق، فقد كان هناك كثيب صغير من الرمال وحشيش نام لا يلاحظه إلا من يعرف مكانه بالضبط.
وعلى ذلك فقد رجعنا إلى اليخت، وانتظرنا إلى أن أتى الليل، وكان الانتظار طويلاً ومملاً، إذ كان يلوح لنا أن الوقت لا يتقدم. ولما خيم الظلام على الكون، ذهبنا إلى الشاطئ ثانية. . . وكنت قد اشتريت مجرافاً أثناء مروري بمدينة فينا، فأخذناه معنا واجتزنا شريط القطار، وكان قطار الشرق السريع الآتي من استامبول يمر في ذلك الوقت. . . فانتظرنا حتى مر، ثم ارتقينا التل في الظلام. ولم يكن من السهل العثور على ذلك الصليب التذكاري في هذا الظلام الشامل. . . ولكن كان من حسن حظنا أننا قد أتينا إلى هذا المكان في النهار. . . فجلست القرفصاء، وأخذت أتحسس الأرض لكي أعثر على كثيب الرمل. . . ولما وجدته بدأت أحفر في ذلك المكان. . . ولم أحفر كثيراً، فبعد أن حفرت ثلاث بوصات بدأ المجراف يحدث صوتاً مسموعاً نجم عن اصطدامه بشيء معدني، وكان ذلك الشيء صندوقاً حديدياً كبيراً. . . وبذلنا أنا ودوروثي مجهوداً كبيراً حتى أخرجناه من الحفرة. . .! وكان هناك صناديق أخرى في تلك الحفرة. وكنت أعرف أننا إذا أخرجناها كلها من الحفرة فلن نجد الوقت الكافي لكي نحملها إلى اليخت قبل طلوع النهار. وهذا يعني أن بعضها سيبقى على التل إلى النهار، وسيظهر الناس على حقيقة الأمر كله. لذلك آثرنا أن نحمل هذا الصندوق أولاً، ثم نحمل بقية الصناديق في الليالي التالية. وعلى ذلك، فقد ردمنا الحفرة بمهارة ورجعنا إلى اليخت بالصندوق الأول، وكان ثقيلاً. وقد حدث أن وقع على قدمي، وكشط الجلد كله، وكانت دوروثي هي السبب في ذلك. . .
وصاحت دوروثي معارضة: كلا، لست أنا. . .
وصحت غاضباً: كوني هادئة، أيتها الطفلة. . .
وعاد بريان يقول: حسن، بعد ما اجتزنا شريط القطار أوصلنا الصندوق إلى اليخت بواسطة قارب، ثم وضعناه أخيراً في الكابينة، وكان أمامنا وقت كاف لكي نحضر صندوقاً آخر، ولكننا آثرنا أن نفتح ذلك الصندوق أولاً لنرى ما بداخله.
وكأنما تعمد بريان مضايقتي، لأنه اختار هذه اللحظة بالذات لكي يشعل سيجارته، ولكنني امتنعت عن أي معارضة وانتظرت بفارغ الصبر حتى انتهي من هذه العملية وعاد يقول:
- ولم يكن فتح الصندوق بالشيء الصعب، فقد كان القفل قديماً قد أتلفه الصدأ، فلم نجد صعوبة في كسره، وكان. . .
فقاطعته وأنا أقول بلهفة: وماذا وجدتم في الداخل؟
- وجدنا المال الذي قال عنه (باير)؛ ولكنه كان أوراقاً مالية، وبالطبع كانت هذه الأوراق من الطبعة التي أصدرتها ألمانيا أثناء الحرب. وكان في الصندوق نصف مليون فرنك إن لم يكن أكثر؛ وأظنك اشتريت لي أوراقاً من هذا النوع بعد الحرب مباشرة لكي ألعب بها، وفي الوقت الذي خرجت فيه هذه الأوراق من دائرة التعامل، كان المائة ألف منها تساوي بنساً واحداً على ما أظن!
سيد إبراهيم البكار