انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 423/زخرفة المساجد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 423/زخرفة المساجد

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1941



للأستاذ الشيخ سيد رجب

كان الدكتور زكي مبارك قد كتب في بعض أعداد (الرسالة) القريبة كلمة من (شجون حديثه) يدعو بها إلى زخرفة المساجد وتنميقها، ذاهباً إلى أن هذا مما يرفه عن النفس بعد مشاغل العمل، ويهدئ الخاطر، ويلهم الروح، ويرغب في المساجد، ويعين على العبادة! وذاهلاً - وهو مؤلف (التصوف الإسلامي) وإن كنا لم نره - عن أن العبادة الحق إنما تنبعث من نبع الإيمان في القلب، ومن مثابة الهداية في النفس، وتستلهم الروح لا المادة، وتتجه بحقيقتها المعنوية إلى السماء لا إلى الأرض. وهذه حقائق لا ينفع لإيجادها، ولا يغني في التسبب لها، أن نملأ الأرض - لا المساجد وحدها - بما يقترحه الدكتور من دُمى وتماثيل وتهاويل وتصاوير! بل إن كل أولئك لن يكون - إن وجد - إلا مشغلة للحس والوجدان والعقل، وصارفاً للنفس، في موقفها الرهيب العظيم عما يجب أن تفرغ له من استغراق وتأمل ومناجاة. وهذا بعض ما من أجله صرحت النصوص الدينية بالنهي عن زخرفة المساجد وتنميقها.

ذهل الدكتور عن كل هذا، وأخذ - وهو الرجل الأزهري رغم صبغته الجديدة - بما لا ينبغي أن يؤخذ مثله به، ولا أن يغلط في حقيقته! فلما قام فقيه في المسألة يرجعه إلى الصواب، وإرشاده للحق، استنكف ذلك وكبر عليه، وأخذته العزة بنفسه، فلم يرض لها أن تخطئ، ولم يرض لها - إن هي أخطأت - أن يردها عن الخطأ ناصح من المسلمين! والكلمة التي كتبت في الرد عليه بغير توقيع، وفي مجلة لا شأن للوعظ والوعاظ بها؛ ولكن هذا لم يكن من مصلحة الدكتور أن يفكر فيه، وليس من شأنه أن يعرفه، فإنه عسى أن يفسد عليه ما قصد، وهو لا يقصد إلا الأزهر والأزهريين.

وعلى هذه النية وهذا الأساس هاجم الدكتور الأزهر في أشخاص الوعاظ، وأقحم ذكرى الرجل الفاضل والمؤمن البار المرحوم الشيخ عبد ربه مفتاح في حديثه، وعرض نفسه وعلمه وثقافته وفكره الحر الطليق على شباب الأزهر عامة، وكلية اللغة العربية خاصة، وسمي الدكتور ذلك كله (زخرف المساجد).

بيد أن الدكتور قد عرض في كلمته الأولى، في (الرسالة) الصادرة بتاريخ (26 من جمادى الآخرة سنة 1360) لما تعود هو وأمثاله أن يلوذوا بحصنه كلما حز بهم الأمر في ميدان من ميادين الخلق والعلم والدين، وهو المناداة بحرية الفكر، واصطناع الصراخ والعويل على ما يحاول رجال الدين الرجعيون الجامدون من حجر على العقل، وتكبيل للرأي، ومناوأة لهذه الحرية!! وتلك ناحية لا نحب أن يخلو حديثنا من الكلام فيها، إحقاقاً للحق، وإرشاداً للصواب، وحرصاً على فائدة من تعوزه هذه الفائدة من القراء.

وفي (الرسالة) التالية، الصادرة بتاريخ (4 من رجب) عرض الدكتور لحضرة النائب المحترم مفتش الوعظ، فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف دراز من أجل كلمة ألقاها في مجلس النواب، وهذه أيضاً لا نحب أن نتركها حتى نحاسب الدكتور عليها.

حرية الفكر:

يظن بعض الناس أن الحرية هي التحلل من كل حرمة، والانطلاق من كل قيد، والخوض ما وسع المرء أن يخوض في كل ما يسنح لخاطره ويستهوي نفسه! فإن بصرهم ناصح بالصواب، أو ذاد عن حقه المعتدي عليه ذو حق، هب أولئك الناس في وجهه، يدقون طبول الحرب للدفاع عن الحرية المهضومة والفكر المقيد، جاهلين أن حرية الناس - إلا من العبودية لخالقهم جل جلاله - هي أول عقيدة دعا إليها الرسل والأنبياء، وأول مبدأ قام من أجله ذلك الصراع الطويل الهائل في تاريخ البشرية بين الحق والباطل والسماء والأرض. وهل قدس كتاب أو شريعة أو أمة، ما قدس القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وسلف الإسلام الصالح، من هذه الحرية والدفاع عنها وتحقيقها في النفوس وتقريرها بين الناس؟ ومَن أولى بأن يعرف هذا للكتاب والسنة وسلف الإسلام من أعلام الملة وجنود الدعوة ورجال الدين؟؟

ولكنها الحرية بمعناها الحق، وفي هيئتها التي برأها الله على سنته من الوزن والتقدير والإحكام، ومراعاة العدل والحق في كل ما يبرأ وما يبدع، فلا يتجاوز خلق حده، ولا يخرج عن طوقه، ولا يطغى شيء على شيء في وجوده وكنهه، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

هذه الحرية الموزونة المقدرة التي لا تجهل ولا تظلم ولا تطغي، هي الحرية التي يقرها ناموس الوجود ويعرفها العقل ويدعو إليها الدين؛ وهي الحرية التي يطلبها الناس ويهيمون بها ويتفانون في الدفاع عنها، لأنهم يرون فيها قوام وجودهم وصلاح حياتهم، وهو بعض ما من أجله أعزها الله ومكن لها تمكيناً، فجعلها فطرة النفس وصبغة الخلق وحقيقة التوحيد.

فهل سمع بهذا أو عرفه من قبل أولئك الذين يكثرون من تصنع الغيرة على الحرية والدفاع عنها، ليبرروا بها كل مخزاة، ويدرعوا بها عند كل طغيان؟!

هل علم هؤلاء - وهم لا يقفون الحرية إلا حيث تناوئ الدين والخلق وتقاليد الإسلام - أنهم بهذا يسيئون إليها ولا يحسنون، ويهدمونها من حيث لا يشعرون؟!

إن علماء الدين - يا قوم - لا يمكن أن يكونوا أعداء الحرية، لأن الحرية من صميم الدين، ولكنهم أعداء الفوضى وأول هادميها، وهذا واجبهم الذي لن يتخلوا عنه مهما لاقوا في سبيله من أذى واعتداء.

الرياء الاجتماعي

طالما وصف الدكتور زكي مبارك مخالفيه في الرأي بهذا الوصف، وعلى الأخص أثناء مناقضتهم إياه في مسألة الأغنياء والفقراء، وأسباب الفقر وأسباب الغنى، مع أنهم كانوا يستمسكون بحق معروف لم نر لهم فيه مخالفاً من القراء، وكان هو يدافع عن شاذ من الرأي لم يوافقه عليه أحد؛ وقد ظل سادراً حتى أرسل إليه القراء يخيرونه بين اختفائه من الميدان الأدبي، أو سكوته عن هذا الباطل؟ فهل يسمح الدكتور أن نستعير منه هذا الوصف لنصف به تصنعه الدفاع عن مصر والإشفاق عليها من تلك النصيحة المخلصة التي أسداها فضيلة الأستاذ الشيخ دراز مفتش الوعظ إلى الأمة والحكومة في مجلس النواب؟! إننا لا نجد وصفاً أصدق منه لموقفك هذا يا دكتور. أيكون الأستاذ دراز متحاملاً على مصر وطاعناً فيها، ومقرراً غير الحق حين يقول بلسان العالم المصلح والنائب الغيور، ناصحاً أمته داعياً إلى الإصلاح فيها: (أصبحت هذه البلاد لا هي بالبلاد الدينية، ولا هي بالبلاد اللادينية، ولا هي بالبلد الشرقي، ولا هي بالبلد الغربي؛ وذلك ظاهر في كل مظاهرها، ليس في الزي فقط، ولكن في الثقافة والخلق وكل ما يتصل بحياتنا الخلقية والاجتماعية) - ولا يكون الدكتور مرائياً في موقفه حين يرد هذا القول ويماري في الواقع الذي يشهد له ويؤيده، ويقر الباطل والفساد في الأمة، متظاهراً بالدفاع المريب عنها، والإشفاق المصطنع على سمعتها الدينية والأدبية؟ فهل نأخذ من هذا أن الدكتور يقر ذلك الاختلاف والتناقض في ثقافة الأمة وقوميتها وأصول اجتماعها وتعدد شرائعها وأزيائها، وغير هذا مما أجمع المتصدون للإصلاح الاجتماعي على أنه شر ما نكبت به البلاد من بلاء يجب دفعه والتخلص منه أم ماذا يريد؟

أما بعد، فإن من أبدَى صفحته للحق هلك، ولقد أراد الدكتور زكي مبارك أن يدفع عن نفسه ما حسبه من بعض الناس عدواناً عليه فلم يستطع هذا إلا بأن يتعدى هو على نفسه مرتين: مرة بمجافاته الحق، وأخرى بمحاولته النَّيل من جماعة كبيرة كريمة كعلماء الوعظ والإرشاد؛ وما منهم إلا يملك ما يملك الدكتور من قلم ولسان. فما أكثر في الناس من يسئ لنفسه حين يريد أن يحسن إليها، أكان ذلك دفاعاً عن نفسه، أم كان توريطاً لها في مأزق آخر تكون فيه أكثر ملامة وأثقل حملاً وأشد حاجة للدفاع؟ وهل صان الدكتور بذلك أنفه الذي قام حامياً له، أم حقق عليه المثل العربي الحكيم: (رب حام لأنفه وهو جادعة)؟

نسأل الله أن يجنبنا مزالق الأقلام، وفتنة اللسان والجنان، وأن يعصمنا من خطل الرأي وضلال الهوى، وأن يهدينا بفضله سواء السبيل.

السيد رجب

واعظ القاهرة