انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 422/من أدب المدرسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 422/من أدب المدرسة

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1941



أستاذ

للأستاذ علي الطنطاوي

لما بلغنا قرية (صاربتا) كان الصبح يتنفس، فطرقنا أول باب لقيناه، فلما فتح لنا واحتوانا (المنزل) المعد للضيفان، سقطنا من الكلال والإعياء كالقتلى، فلم نلبث أن غرقنا في لجة الكرى. ولا عجب أنيبلغ منا التعب هذا المبلغ وقد سرنا الليل كله على الأقدام نصعد جبلاً ثم نهبط وادياً ثم نتسلق الصخر. حتى أدركنا هذه القرية التي فرت من العمران، وتغلغلت في الأودية المقفرة من لبنان الشرقي حتى وجدت هذه الذروة التي لا يضارعها شيء في عزلتها وعلوها وضياعها بين الأرض والسماء فاستقرت عليها.

ولما أفقنا ورأينا احتفاء القوم بنا، وعجبهم من سُرانا إليهم وقدومنا عليهم، سألناهم وضربنا معهم في شعاب الأحاديث، فعلمنا أنه لم ينزل بلدهم (أعني أنه لم يصعد إليها. . .) غريب عنها قبلنا، وكانوا يكلموننا على تخوف وحذر، فلما انتسبنا إليهم، وعرفناهم بنفوسنا داخلهم شيء من الاطمئنان. غير أنهم لم يكونوا يجيبون عن أسئلتنا وإنما يحيلونها على الأستاذ. . .) ورأيتهم يذكرون الأستاذ كما تذكر الرعية الملك المحبوب، تبرق عيونهم حباً، وتخشع أصواتهم احتراماً، فكنت أعجب أن يكون لمعلم القرية، وهو لعمري أستاذهم مثل هذه المنزلة، وعهدنا بمعلمي القرى أن الجندي أكبر في عيون الفلاحين منهم. وقلت: ألا تدعون لنا هذه الأستاذ المحترم حتى نراه؟ فلما سمعوا هذه الكلمة اضطربوا وتلفتوا يتبادلون النظرات، وعراهم مثل ما يعرو المؤمنين سمعوا كلمة الكفر. وكانت سكتة طالت، فأعدت السؤال، فقال صاحب المنزل وهو يبذل أكبر الجهد حتى يمسك غضبه فلا يؤذي ضيفه: إن الأستاذ يزار ولا يزور. فلما سمعت ذلك اطمأننت وقلت: لا بأس، إنا نتشرف بزيارته، ولو علمت عادته ما سألتكم دعوته، فقوموا بنا إليه. فقاموا وقد سرى عنهم بعض الذي وجدوا، ومشينا نصعد في طرقات القرية الضيقة الملتوية، وأنا أتصور هذا (الأستاذ) بعين الوهم فلا أراه إلا مثل من عرفت من معلمي الصبيان، غير أن له فيما يبدو دهاء ومكراً، مَخرَق بهما على الفلاحين وموه عليهم حتى حسبوه شيئاً وما هو بشيء.

حتى إذا بلغنا ذروة الجبل وجدنا عليها بيتاً هو أعلى بيت في القرية و (العين) أسفل منه، وحوله حديقة لطيفة، فدخلنا البيت فإذا فيه فرش نظيف، وأثاث من أثاث المدن، وخزانة كتب بالقرب منها مكتب صغير عليه أوراق وأقلام، وكتاب مفتوح عرفت من نظرة واحدة أ، هـ (الإحياء) للغزالي، ف والله ما أظن أني عجبت من شيء عجبي منه. ولبثنا هنية؛ ثم دخل علينا شيخ أبيض الحية، قد وضع على كتفيه عباءة ستر بها ثوباً من ثياب التفضل أبيض نظيفاً، فرحب بنا بلهجة فصيحة وانطلق يحدثنا. أما الفلاحون فقد جلسوا عند الباب لم يقتربوا من الشيخ إجلالاً له، وسكنوا كأن على رؤوسهم الطير.

كان الشيخ يتكلم وكنت أحدّ النظر إليه وأكدّ ذهني لأذكر أي رأيت هذا الوجه. فلما طال ذلك مني ولحظة قال: مالك يا بني؟ قلت: أظن أني أعرفك يا سيدي. فضحك وقال: وأنا أعرفك يا بني، أما كنت في المدرسة التجارية سنة 1918؟ فتأملته ورأيت كأني رجعت طفلاً أنظر من وراء ثلاث وعشرين سنة إلى أستاذي الجليل الشيخ (عبد الواسع)، فلم أملك أن صحت: أستاذي! ووقعت على يديه أقبلهما، وأقبل يمسح على ظهري ويقبل جبيني، وقد استعبر كل من حضر.

أستاذي الذي ترك المدرسة وأحيل إلى المعاش منذ عشرين عاما، وانقطعت أخباره عنا وحسبناه مات، لا يزال حياً؟ ويقيم في قرية (صاربتا) الضائعة بين السماء والأرض! إن هذا لعجب.

قلت وقد سكن المجلس بعد أن حركته هذه المفاجأة الغريبة: وكيف عرفتني ياسيدي الأستاذ، وقد غيرتني الأيام؟ قال: ما تغيرت عليّ، ولقد ذكرتك من أول نظرة. ألم تكن في الصف الخامس حينما انتهت الحرب، وخرج الأتراك من الشام ليدخلها الشريف؟ ألم تكن في المقعد الأول حيال الشباك، وإلى جانبك (سرِّى) أين هو (سرى) الآن؟ قلت: لا أدري ياسيدي، ولم ألقه أبداً بعد تلك السنة. قال الشيخ مترفقاً ناصحاً بلهجته التي كان يخاطبني بها وأنا صغير (لم أنسها) قال: ولم يا بنيّ؟ لماذا لا تصل إخوان المدرسة؟ أما علمتك الحياة أن صداقة المدرسة خير صداقة وأمتنها؟ أصلحك الله يا ولدي.

وأطرق الشيخ يفكر، ثم قال: هل علمت يا ولدي أن المعلم يتمنى ألا يكبر تلاميذه أبداً، وأنه لا يتصورهم إلا كما عرفهم أول مرة ولو صاروا رجالاً؟ أنا لا أرى فيك الآن إلاَّ ذلك الصبي الذي كان في المقهد الأول حيال الشباك. فقدر المحنة التي يصاب بها المعلم حين يرأسه أحد تلاميذه. أتعرف عدنان؟.

قلت: ومن عدنان؟ قال: لا. لم يكن معكم، هو أصغر منكم. عدنان هذا كان من أصغر تلاميذي وأحبهم إليّ. لقد جعلته الأيام ناظر المدرسة التي كنت فيها، فتصوره وهو يدعوني إليه ويستقبلني قاعداً، ويأمرني بأمره. ولقد نالني مرة بسوء لأني لم أوفه ما يراه حقه من الاحترام. وكيف أحترمه يا ولدي وأنا لا أقدر أن أرى على كرسيه إلا عدنان الطفل ذا الشعر الذهبي؟ كيف أحترمه؟ أأحترم ولدي! سامحه الله. سامحه الله لقد آلمني. وآذاني.

إن المعلم يحس بوخزة في كبده إذا أعرض عنه تلاميذه أو أنكروا أو ترفعوا عليه. كأن أولئك الأطفال هم الذين ترفعوا عليه. لا يعلم المسكين أن الطفل لا يبقى أبد الدهر طفلاً. . . لا. لا يتخيل ذلك أبداً. . .

وسكت الشيخ قليلاً ثم رجع يقول: وكنت ترفع أصبعك دائماً، أرأيت؟ أني لم أنسك. وكيف ينسى المعلم تلاميذه وهم بعض ذكرياته، والذكريات هي الحياة.

ثم سألني: وماذا تشتغل أنت الآن؟ فضحكت وقلت: معلم.

قال: آه. . . مسكين. . . لماذا اخترت هذه المهنة يا ولدي؟ قلت: أني سأتركها يا سيدي؛ قال: وتظن أنك تستطيع؟ إن تلاميذي الذي أحببتهم ومنحتهم قلبي، قد أنكروني. . . لم أعد أخطر لهم على بال. لم يزرني منهم أحد. . . لقد رأيت منهم ألوان الجحود، ولكني لا أزال أحبهم، وأتمنى لو أستطيع أن أضمهم إلى صدري. . . آه. . . كم يتألم الأب إذا رأى ولده يعرض عنه وينكره ويمر كأنه لا يعرفه؟ لم ألق منهم خيراً ومع ذلك فأنا أحب أن أنشئ غيرهم، وأن أصب البقية الباقية من روحي وحياتي في نفوس أطفال جدد، أعلم أنهم لن يكونوا خيراً من أولئك، ولكن هذه هي آفة المهنة. . . إنها مهنة ليس فيها إلا الألم. . . ولكن صاحبه يستمرئه ويجزع لفقده كصاحب (الكوكائين) يأخذه وهو يأخذ حياته، فإذا افتقده حنّ إليه. . . أليس هذا من الغرائب؟.

إني أمر على مدرسة القرية، فأسمع الطلاب يرددون درساً، أو يرتلون أنشودة، فيخفق قلبي في صدري، وأحسد هذا المعلم الذي أخذ مني أولادي. . . لا تعجب يا ولدي. . . سل الفلاح الذي يشق الأرض ويغرس فيها البذر وينتظر النبتة الضعيفة. . . فإذا ظهرت تعهدها بالسقي والعناية، وقاس طولها يوماً بعد يوم، فلا تنمو أنملة إلا وضع في هذه الأنملة أمله ورجاءه وخوفه وإشفاقه وأحاطها بعواطفه، وصب فيها من ماء حياته. . . حتى إذا نما النبت واستطال، وظلته غصونه، وتدلى من حوله زهرة، وأينع ثمره، اضطر إلى بيعه. . . فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يراه في يد غير يده. . . سَلْهُ كم يتألم ويشقى، ويتقطع القلب منه حسرات كلما تنظر إلى هذه الأشجار، وذكر ماله فيها من ذِكَر وما أنفق عليها من أصباحة وأماسيه، ومن حبه وأماني نفسه. . . وإنها لأشجار. . . جمادات لا تعقل. . . فكيف بي وقد ربيت بشراً ثم أعرضوا عني ونسوا عواطفي وحبي. . . وما نسيتهم ولا أقلعت عن حبهم؟.

وما كان لي يا ولدي أن أزعجك بحديثي لولا أني أنفّس به عن نفسي. إنني أعيش وحيداً في هذه القرية المعتزلة لا أدري كيف أزجي الباقي من أيام حياتي. إني أشكو الملل، ولا أطيق النوم، فلا أجد إلا النجم أراقبه وذكرياتي أناجيها. وكثيراً ما تثقل عليَّ هذه الذكريات، حتى لأُضلَّ قلبي بين حاضر لا متعة فيه وماض لا رجعة له. . .

لا، يا ولدي، لا تحرص على هذه المهنة. اتركها إن استطعت فهي محنة لا مهنة. هي ممات بطيء لا حياة. إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد، ولا يذكره الناس إلا ليضحكوا من نوادره وحماقاته.

وعدنا من المشية نسلك تلك الأودية، ونتسلق تلك الصخور عائدين من (صاربتا) ولا يزال حديث أستاذي يدوي في أذني، فأحس به في هذه البرية الساكنة قوياً مجلجلاً، ولكن الناس لا يسمعونه، وإن هم سمعوه لم يحبوا أن يفهموه!

علي الطنطاوي