انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 422/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 422/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1941



الرجل المكروه

عن الانجليزية

للأستاذ عبد اللطيف النشار

وقف على غير انتظار في وسط الجمع وكان صامتاً وكانوا صامتين، ويظهر أنهم يشعروا ببدخوله، فابتسم ثم جرْ كرسياً وجلس على مقربة من صاحبة المنزل، فلما نظرت إليه قالت: (ما أغرب تصرفاتك! هل مشيت كل المسافة بين بروم هيل وبين المنزل في هذه الشمس؟).

فهز رأسه بالايجاب دون أن يتكلم، وقد كان غريب التصرفات كما وصفته مسز ألينورا بونيتون التي أمرت على أثر مجيئه بالشاي والتفتت إليه وقد كان مجيئه بغير دعوة وجلوسه بغير استئذان.

ودار الحديث بينهم متجاهلين جوده فشرب الشاي في صمت وهو شاعر بهذا التجاهل ولكنه لم ينسحب من المجلس ولم يهم بالانسحاب.

وقالت اللادي مارتين لصاحبة المنزل: (ما أغرب هذا الرجل ياعزيزتي ألينورا! أهو نموذج لأهل جيراتكم؟ لقد كنت أظن أهل هذا الوسط راقين!).

فهزت مسز ألينورا كتفها وقالت: (لا يعلم إلا الله من هو وماذا يريد، وليس فينا من يحبه غير زوجي، وأنت تعرفين أنه يسر من كل شيء غير عادي).

فقالت الزائرة: (ولكن من أين أتى؟ هل هو جار؟).

قالت: ألينورا: (اسمه ليندهام وهو يسكن في كوخ على بعد بضعة أميال، وليس لدي أي إنسان فكرة عن شخصيته ولا عن الجهة التي جاء منها، وهو يقضي معظم أوقاته في المشي في الطريق وفي غزو المنازل).

قالت اللادي مارتين: (يظهر من هيئته أنه راق وأنه غريب الأطوار).

فاختلست مسز بوينتون نظرة من المستر ليندهام وقد كان في ثياب شديدة القدم ولحية مقصوصة على غير نظام ورباط رقبته منحرف، ولكن في هويته علائم التهذيب وصوته الهادئ الرصين يفتن سامعيه.

وعادت الزائرة إلى الكلام فسألت صاحبة المنزل: (لماذا يأتي هذا الرجل هنا؟).

فأجابتها ألينورا: (لا أعرف سبب مجيئه خصوصاً مع غياب زوجي عن المنزل، ولا أحد يلاطفه هنا لا يكاد يكلم أحداً، وهو يكثر من المشي تحت الدار. وقد قابلته في إحدى الليالي فرأيته يكلم نفسه بصوت منخفض ولم تكن المسافة بيني وبينه أكثر من متر، ولكنه لم يلاحظني وقد خفت منه كما أخاف من الموت).

قالت الزائرة: (إن زوجك رجل طيب يالألينورا؛ وعلى ذكر زوجك أخبريني ماذا تم في القضية؟).

فقالت صاحبة المنزل: (إنه ذهب ليقابل المحامين، ويظهر أنهم لم يحصلوا على رد من السير جيرفاس؛ ويظهر أنهم لايعرفون مكانه).

فنظرت اللادي مرتين من خلال النافذة وقالت: (أرجو ألا تخسروا القضية فإن هذه الجهة من أحسن الأماكن في الإقليم) ونظرت ألينورا من خلال النافذة أيضاً إلى المنظر الذي أطلعت عليه اللادي وقالت: (إخال أنني أسمع صوت عربة مقبلة) ثم وقفت وخرجت من الغرفة. وبعد قليل عادت وأعلنت قدوم الأميرة فوقف جميع الضيوف إلا الزائر غير المرغوب فيه. ونظرت ألينورا إلى هذا الرجل الذي لايحبه إنسان نظرة مقت وانتظر الجميع أن يكون لدى الرجل من حسن الذوق ما يحمله على مغادرة المنزل قبل أن تأتي الأميرة.

على أنه لما أقبلت الأميرة وقف ودار بعينيه في الفضاء، وكان بادياً على الأميرة التعب ولكن تعبها لم يؤثر على جمالها الرائع. وفي فترة التعارف وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام ليندهام الذي لم تعن مسز بوينتون بتقديمه إلى الأميرة فقدم هو نفسه إليها قال: (هل تسمحين يا صاحبة السمو بأن أذكرك بإسمي؟ أنا ريتشارد ليندهام وأرجو ألا تكوني نسيتني).

فمدت إليه يدها وقالت بصوت عذب: (إن الإنسان لا ينسى أقدم أصدقائه. وإني مسرورة جداً برؤيتك يا مستر ليندهام).

وجيء بالشاي، ثم دخلت الأميرة قاعة أخرى وطلبت من صاحبة المنزل أن تدعو إليها المستر ليندهام لأنها تريد محادثته.

قالت مسز بوينتون: (ليندهام ياصاحبة السمو؟!).

وكانت لهجتها شديدة الدلالة على الاستغراب، ولكن الأميرة كررت أنها تريد محادثته، فذهبت إليه صاحبة المنزل وقالت بغير ما اعتادته من لهجة في مخاطبته: (إن الأميرة تريد أن تراه؛ فقام متباطئاً ولم يبد عليه شيء من الاستغراب، ولا أظهر شيئاً من الاهتمام وقال: (اسبقيني وسأتبعك).

أغلق الباب وكانت الأميرة في حالة غير عادية: فعيناها مغرورقتان بالدموع وقالت: (لقد ظفرت بك في النهاية ولن تستطيع أن تفلت مني. تعال الآن).

فتناول كفها ورفع يدها إلى شفته؛ وتغيرت هيئته ففارقه مظهر الخشونة المعتاد، وأصبحت نظراته وصوته كصوت الطفل ونظراته وقال: (ياعزيزتي جبربيل، هل لا تزالين مؤمنة؟ ألم تنفقدي ثقتك؟). فقالت: (كلا. كلا. ولا لحظة واحدة).

قال: (الحمد لله).

ثم انقضت لحظات في صمت، وبعد ذلك قالت: (ألا تزال باسمك المستعار؟) فقال: ليس لي اسم سواه.

قالت: ولكنك في انكلترا ولم تتركها إلى غيرها. فقال بلهجته التهكمية القديمة: ليس أغرب من ذلك.

قالت: (لقد تغير كل شيء فلم أتبين أين كنت)؛ فمشى نحو النافذة وقال: (لقد كان إطلاق الرصاصة من هذا المكان وكان أكثر من عشرة أشخاص مستعدين للشهادة بأنه لم يكن يقيم هنا أحد غيري).

قالت الأميرة: يظهر يا جيرفاس أنك هنا لغرض خاص، فقال: وأنت؟.

قالت: لغرض أيضاً. . . فقل لي: هل تسلمت خطاباً؟.

فقال: نعم، وهو السبب في مجيئ من النمسا. . . انظر وعرضت عليه خطاباً، فرمقه بنظرة ثم قال: هو كخطابي تماماً، ويعلم الله أن هذا في منتهى الغرابة. . . ولكن الذين على وشك الموت كثيراً ما يقولون الحقيقة!.

وكان في هذه الأثناء يفحص الحائط وفي يده سكين يضرب بها في مكان بعد مكان ويتسع الصوت. . . وكانت الأميرة تراقب حركته وهي واقفة وراء ظهره، وقال: ليس هنا أي دليل يساعدنا.

قالت: لقد اختفى جزء مهم من أركان القضية. . . أين هو الرجل الذي أخفي مطلق الرصاص؟.

فهز رأسه وقال: لقد كان من الغباوة ألا أفكر في المكان من قبل، ولقد اختفى جزء من القضية كما تقولون، ولكن الجزء الآخر لا يزال باقياً. . .

وأشارت إلى شيء ملقي على الأرض، فتناوله وقال: هذا دفتر مذكرات. . . ففتحت الصحيفة الأخيرة منه وصاحت:

- ماهذا يا جيرفاس؟.

فهز كتفه وقال: هذا ما ليس يعلمه إلا الله.

وحاول أن يقرأ الأسطر التي أشارت إليها، ولكنه صاح بدوره: إقرائي أنت. . . فإنني لا أستطيع.

فاختطفت الدفتر من يده واقتربت من النور. . .

ظل الرجل الذي لا يحبه إنسان. . . الرجل الذي تعده صاحبة المنزل فضولياً. . . ظل مع الأميرة نحو ساعة، وكانت صاحبة المنزل ومن معها يتحدثن في هذه الأثناء. . .

وقد نالت الأميرة رتبتها بالزواج من أمير، وهي من أسرة قديمة، ولكنها قبل الزواج كانت فقيرة، ويشاع أنها كانت مربية في بعض البيوت. . .

وفي عهد هذه القصة كان الأمير متوفى منذ عام، تاركا لها ثروة كبيرة، وكان مركزها في المجتمع موطداً بالرغم من إشاعات السوء التي كان يشيمها عنها بعض الناس.

وقد سئمت مسز (بوينتون) من تكرار القول لزائريها أنها لا تعرف (ليندهام)، وأنه جاء من حيث لا يعرف إنسان، وأن زوجها المستر (آرثر) قد اهتم بشأنه، ولكنها كانت مرتابة منه منذ البداية. . . وبينما هي لا تزال كذلك تضرب على هذه النغمة، إذ دخلت الأميرة ومعها المستر (ليندهام) كما هو معروف بهذا الاسم بين الزائرين، أو السير (ليندهام) كما هو معروف بهذا الاسم بين الزائرين، أو السير (جيرفاس) هو اسمه الحقيقي، وقالت الأميرة: لقد رأيت الغرف التي أعددتها لضيافتي، ولكن يظهر أن إحداها لها تاريخ، فهل صحيح أن السير (نولز فلتون) قتل برصاصة أطلقت عليه من نافذة غرفة الجلوس؟!.

ظهر شيء من الاضطراب على وجه صاحبة المنزل وقالت:

- نعم، ولكن هذا من سنوات عديدة، وكنت أظن أن كل إنسان نسي ذلك، وأظنك يا صاحبة السمو لا تخافين من الأشباح. . .

فابتسمت الأميرة وقالت: لقد رأيت الآن واحداً من هذه الأشباح. . .

وكان السامعون يتحدثون فيما ينهم ويتساءلون عما تتحدث عنه الأميرة. وقد بدت علائم الاعتمام. وقالت الأميرة: نريد أن تحدثينا يامسز بوينتون عن تلك الجريمة. لقد قتل السير نوليس وهو يمشي على الشرفة. وكانت الإصابة من مجهول، فهل عرف شيء عن سرها؟.

فقالت مسز بوينتون: أما في المحاكم فلا، وأما بصفة قاطعة بين الناس فلا. ولكن القرائن ضده أنه بالرغم من أن التهمة لم توجه إليه فإنه غادر البلاد هارباً ولم يعرف له مكان.

قالت الأميرة: لم يكن بينهما خصومة معروفة، ولكن شاع بعد الحادث وبعد سفر جيرفاس أن بينهما سوء تفاهم، إلا أنه لحسن حظ جيرفاس لم تقل كلمة في هذا الصدد في التحقيق.

قالت الأميرة: ولكن هل عرف شيء من أسباب سوء التفاهم؟ فهزت مسز بوينتون كتفها وقالت: يقال إنه كانت هناك مريبة لأولاد اللادي موري أخت الشقيقين، وكان كلاهما عاشقاً لها، وأن جيرفاس قتل أخاه مدفوعاً بدافع الغيرة. ويرجح أن الرصاصة خرجت من غرفة السير جيرفاس. وقد بقي السير جيرفاس في انكلترا بعد وقوع الجريمة ببضعة شهور، ثم سافر وأملي ألا يعود، لأنه إن عاد فسنظطر إلى إخلاء هذا المنزل له وهو خير مكان يوافقنا.

فابتسمت الأميرة وابتسم المستر ليندهام، وقالت الأولى: ولكن ما رأيك في أنالسير جيرفاس قد عاد وأنه جالس بجانبي الآن؟.

فقالت مسز بوينتون وقد بدت عليها علائم الدهشة والانزعاج: المستر ليندهام؟.

فأححنى الرجل رأسه وقال: إنني أعتذر على انتحالي اسماً مستعاراً، ولكن كان لدي أسباب هامة تضطرني إلى زيارة الأماكن المجاورة، وأنتم تدركون عذري إذا لم أستطع الظهور باسمي الحقيقي. وإن غياب ثمانية أعوام وإرسال اللحية لجديران بتغيير الهوية.

قالت مسز بوينتون: ولكن الأميرة عرفتك عند ما رأتك.

فقال: نعم.

وقالت الأميرة: ربما كنتم قد سمعتم بأنني قضيت عامين مربية قبل زواجي من الأمير برليتز، ولكن الذي لا تعرفونه على ما أظن هو أنني كنت مربية في نفس هذا المنزل. وربما أدهشكم أن السير جيرفاس الذي يتهم بأنه قتل أخاه قبل من أجلي لم يكلمني أية كلمة قبل الآن.

ساد الصمت وقد كانت القرائن كلها قوية ضد جيرفاس والأميرة. ولكن لم تظهر على واحد منهما أدلة الإجرام. واستأنفت الأميرة الكلام فقالت: (وقد استكشفنا أن في الغرفة التي كنت أقيم فيها مكاناً سرياً في الحائط بينها وبين الغرفة المجاورة؛ وهذا المكان هو المخبأ الذي أطلقت منه الرصاصة.

وقالت: إنه وصل إليها بالنمسا وإلى السير جيرفاس في الاسكا خطابات من مجهول فاضطرا إلى المجيء وإلى دخول المنزل للبحث عن هذا المكان السري. وقالت: إن استكشافهما كان خطيراً. ثم اطلعت صاحبة المنزل على دفتر المذكرات وقالت: إنه دفتر مذكرات السير جوليس لترانج وصيف السير نوليس فيلتون، وهو يعترف بأن كتمانه الحقيقة يكاد يصيبه بالجنون، ويظهر أنه كان قريباً جداً من الجنون لما كتب هذه المذكرة. وهذا نصها فاقرئيها!.

فقرأت مسز بوينيون:

(سبتمبر - لا أستطيع الاحتمال فوق ذلك. إنها كانت تغض النظر عني لأني وصيف ولا تعني بغير السيد، وقد قتلته وألصقت التهمة بالسير جيرفاس).

وقرأت مسز بوينتون بعد ذلك الخطاب الذي وصل إلى الأميرة والخطاب الذي وصل إلى السير جيرفاس فوجدتهما بخط واحد، وهو نفسه خط صاحب المذكرة. وقد روى في الخطابين أنه في المستشفى في حالة الاحتضار.

فقالت: (هذه أنباء غريبة، ولكن أخشى ألا أستطيع تجديد عقد الإيجار).

فابتسم السير وقال: (هذا يتوقف على رغبة الأميرة).

عبد اللطيف النشار