انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 420/مدن الحضارات في القديم والحديث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 420/مدن الحضارات في القديم والحديث

مجلة الرسالة - العدد 420
مدن الحضارات في القديم والحديث
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 07 - 1941



للأستاذ محمد عبد الغني حسن

- 4 -

كانت حفلات الفاطميين في القاهرة موصولة لا تنقطع العام كله. ولقد صورها المؤرخون المعاصرون صوراً تنقل إلينا حقائق كثيرة عنها، ومن هؤلاء المؤرخين أبو محمد الحسن ابن زولاق مؤرخ المعز لدين الله وصاحب سيرته، وابن الطوير الذي يأخذ المقريزي عنه كثيراً في خططه، والمسبحي صاحب التاريخ الكبير، وابن عبد الظاهر وغيرهم.

وكانت القاهرة في عهد الفواطم تزخر بالقصور الكثيرة والدور المختلفة. ومن القصور التي ورد ذكرها في كتب الخطط: القصران الكبير والصغير، والقصر اليافعي، وقصر الذهب، وقصر الأقيال، وقصر الظفر، وقصر الشجرة، وقصر الشوك، وقصر الزمرد، وقصر النسيم، وقصر الحريم، وقصر البحر

ومن الدور المشهورة عندهم دار الضيافة ودار الوزارة ودار الضرب ودار الذهب ودار الملك

ومن المناظر التي كثرت في عهدهم منظرة اللؤلؤة وكانت تقع على الخليج، ومنظرة الغزالة، ومنظرة المقس، ومنظرة الدكة، ومنظرة السكرة.

والقصر الكبير يسمى المعزي نسبة إلى المعز لأنه هو الذي أمر جوهراً ببنائه حينما زايل مع عسكره شمالي أفريقية إلى مصر. ويقول المقريزي إن هذا القصر من ترتيب المعز ورسمه، وإن جوهراً لم يكن في البناء والتعمير إلا منفذاً لتصميم مولاه. ويجد القارئ وصف هذا القصر وصفاً تفصيلياً في الخطط مما ليس هذا موضع الإفاضة فيه. إلا أن شيئاً واحداً يطيب ذكره في هذا الموضع، وهو مد السماط في شهر رمضان، وكيف كان يجتمع فيه قاضي القضاة والوزير والأمراء يأكلون الطعام الهنيء ويشربون الشراب المريء ويقدم إليهم الماء المبخر في كيزان الخزف.

وكان لعيد الفطر مثل هذا السماط ومثله في عيد النحر، وكانت القاهرة المعزية تشهد هذه الحفلات في فرح عظيم

ولا نجد أحلى في هذا المقام من تدوين أبيات من القصيدة التي رثى بها عُمارة الدولة الفاطمية، وودع مكارمها وأيامها وحفلاتها وعاداتها، وشيَّع فيها السن الجميلة التي استنوها لإحياء عيد أو إقامة شعيرة أو توديع جيش أو فتح خليج، فقال:

دار الضيافة كانت أنُس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم على طلل

وفطرة الصوم إن أصفت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل

وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورث منها جديد عنهم وبلى

وموسم كان في كسر الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل

وأول العام والعيدان كان لكم ... فيهم من وبل جود ليس بالوشل

والأرض تهتز في عيد الغدير بما ... يهتز ما بين قصريكم من الأسل

والخيل تعرض في وشى وفي شية ... مثل العرائس في حلى وفي حلل

ولا حملتم قوي الأضياف من سعة الْ ... أطباق إلا على الأعناق والعجل

وما خصصتم ببر أهل ملتكم ... حتى عممتم به الأمضى من الملل

وللجوامع من أحباسكم نعم ... لمن تصدر في علم وفي عمل

والقصيدة تجري كلها على هذا النسق من حسن السبك وجودة التصوير وصدق العاطفة وأثر الفجيعة والإحساس الأليم ويذكر المقزيزي أنه سبب هذه القصيدة قتل عمارة وتمحلت عليه الذنوب

لم يكن التصوير الفوتوغرافي قد ظهر في ذلك العهد ولو كان ذلك لبقيت لنا لوحات ومناظر تغني عن وصف القلم الذي كثيراَ ما يوجز فيجنح إلى الإخلال أو يطيل فيميل إلى المبالغة والإغراق ولو كان الرسم متقدماً في ذلك العهد، لسلمت لنا لوحات مصرية صادقة كتلك التي يصنعها الرسامون أمثال: محمود بك سعيد، واحمد بك راسم، وصبري، وعياد، وصباغ، وهلبرت التشيكوسلوفاكي المتمصر وغيرهم ممن يسجلون الحياة المصرية المعاصرة في لوحات ستبقى خالدة تمثل الفن من ناحية وتسجل تاريخ الخطط المصرية من ناحية أخرى

ولقد زار القاهرة في القرن الثامن الهجري الرحالة ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة، وكان سلطان مصر على عهد دخوله إليها الملك الناصر أبو الفتح محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي. وقد أثنى ابن بطوطة على الملك الناصر في خلال كتابه ثناء عظيما ووصفه بأنه: (صاحب السيرة الكريمة والفضائل العظيمة).

ولقي ابن بطوطة في القاهرة جماعة من الأمراء والفضلاء ذكرهم في رحلته، ووصف في خلال ذلك مجلس القاضي فخر الدين (وكان قبطياً ثم اسلم)، وكيف كانت تقضي عنده الحوائج، وتدرك لديه المطالب

وقد ترك لنا ابن بطوطة في رحلته وصفاً مختصراً ممتعاً ليوم المحمل في القاهرة، وهو يرينا صورة لما كان يجري في هذه العاصمة القديمة في عصر المماليك الذي جاء بعد عصر الفواطم.

وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً، يركب فيه القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب، ومعهم الفقهاء، والرؤساء وأصحاب السلطان وأرباب الدولة وأهل الوجاهة، ويقصدون باب القلعة دار الملك الناصر (سلطان مصر في عهد المؤرخ)، فيخرج إليهم المحمل على جمل وأمامه أمير الحج المعين لمرافقة المحمل في تلك السنة ومع الأمير عسكره وأتباعه والسقاءون على جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء، ثم يطوفون بالمحمل في أنحاء القاهرة ومصر وأمامهم المنشدون ينشدون والحداة يحدون. . . وعندئذ ينبعث في قلوب الناظرين شوق إلى الحج وتهيج عزماتهم وتتحرك بواعثهم لقضاء الفريضة الموقوتة والعبادة المكتوبة.

ومن دواعي الأسف أن ابن بطوطة لم يترك لقلمه العنان في وصف القاهرة وما كانت عليه يوم وفوده عليها، وإنما اكتفى من ذلك بالنظرة العابرة، واللحظة الخاطفة، ولو قد فعل لترك لنا وصفاً طويلاً وصورة جميلة لنواح كثيرة من القاهرة كأسواقها ودورها وقصورها ومجامعها ومحافلها، ومساجدها ومدارسها، وشوارعها وحواريها، وقناطرها وجسورها، ولعل الناحية التخطيطية لم تكن تعنيه كما عنت المقريزي وعلي باشا مبارك من بعده.

أما ابن إياس صاحب التاريخ المشهور ومؤرخ مصر الإسلامية في آخر عصر المماليك وأول العصر التركي فقد وصف القاهرة في عصره وصفاً لا يخلو من فائدة

ومن الحفلات التي وصفها ابن إياس في كتابه المشهور حفلة المولد النبوي الشريف فهو يذكر أن السلطان الغوري أقام الخيمة العظيمة التي صنعها الأشرف قايتباي - وبلغت تكاليفها ستة وثلاثين ألف دينار - وقد صنعت من قماش مختلف الألوان واشترك في نصبها بالحوش ثلاثمائة رجل من النواتية، ونصبت خارج الخيمة أحواض من الجلد قد ملئت ماء مسكراً، وجلس السلطان في الخيمة وحوله الأتابكي (رئيس الجند) والأمراء المقدمون والقضاة الأربعة والوجهاء من أهل القاهرة والقراء والعلماء ومد السماط الحافل بكل هنيء مريء

وفي أيام نيابة طومان باي عن الغوري، احتفل بوفاء النيل وكسر السد. فنزل الأمير لهذه الغاية في سفينة كبيرة، وتوجه إلى المقياس وعاين زيادة النيل وقدرها، وتم الاحتفال في سرور عاد بعده الأمير إلى مقره في موكب حافل عظيم

وتذكرنا حوادث إخلاء المناطق الخطرة في الإسكندرية اليوم بسبب الغارات الطائشة عليها، بحادث إخلاء حيّ (بركة الرطلي) من سكانه، والفرق بين الحادثين كبير، إلا أن النتيجة كانت واحدة وهي وحشة كل من الحيين وفرار الناس عنهما. ولم يذكر ابن أياس السبب الذي حدا بالأمير (طومان باي) إلى تحريم السكن في بركة الرطلي والمسطاحي، ولا لماذا تشدد الأمير في إخلاء هذين الحيين حتى صارا موحشين، وغَدَوا بلقعين لا يسكن إليهما ساكن، ولا يطمئن إليها ناظر، ولا تتحرك فيها من الأنس نسائم. ولقد خسر بذلك أصحاب الدور أموالاً كثيرة، وأصبحت بيوتهم خاوية خالية. ولقد صَّور الشيخ بدر الزيتوني هذه الصورة الموحشة في شعر يقول فيه:

وأضحت بيوت الجسر خالية فلا ... لصاحبها سكنى ولا واحد يكرى

وقد أصبحت تلك القصور خوالياً ... فيا وحشة السكان من كل ذي قصر

على بركة الرطلي نوحوا وعددوا ... لما حل فيها من نكال ومن خسر

رعى الله أياماً نقضت يطيبها ... ونحن بمصر في أمان وفي بشر

وكان الدوادار الكبير هو الذي ... أشار بهذا المنع بالنهي والأمر

وغفر الله لهذا الشاعر فشعره أصدق صورة لما وصل إليه الشعر العربي في عصر المماليك من ركة وسخف وضعف

على أنه يؤخذ على أياس أيضاً - كما أخذ على غيره من المؤرخين - أنه لم يتعرض لوصف القاهرة في عهده في تفصيل. ولعله كان مثل الكثيرين من المؤرخين لا يهتم إلا بالناحية السياسية أو العسكرية من تاريخه. أما ناحية الوصف والتخطيط فقد تركها لغيره ممن يهتمون بأمثال هذه المباحث. ولكن لسوء الحظ لا نعلم فيما بين أيدينا من مراجع وصفاً للقاهرة في عهد ابن أياس. ولو قد تأخر الزمن بالمقريزي حتى شاهد مصر العثمانية لكان لنا من مادته في الخطط فيض غزير وتدخل القاهرة بعد ذلك في دور جديد، وتودع عهد المماليك لتستقبل عهد الأتراك. ويظهر أن هؤلاء خربوا كثيراً من معالمهما، وليس لدي الآن وأنا أكتب هذه الكلمة نص تاريخي قاطع للتدليل على ما أقول؛ ولكن بيتين للشاعر بدر الدين الزيتوني المعاصر للفتح العثماني يشتم القارئ منهما رائحة التخريب والذبول فيما كان قائماً فيها من آثار

وقد يكون الشاعر بدر الدين الزيتوني جنح إلى المبالغة في بيتيه كما يصنع الشعراء غالباً في اكثر ما يصفون. إلا أنه كلام يلقى ظلاً من الحق على ما ذهب إليه فيقول:

نبكي على مصر وسكانها ... قد خربت أركانها العامرة

وأصبحت بالذل مقهورة ... من بعدما كانت هي القاهرة

فقوله خربت أركانها العامرة لم يكن ضرورة من ضرورات القافية التجأ إليها، ولكن يلوح لنا أنه كلام فيه من الحق كثير وإذا كان العصر التركي قد اتسم بالغموض في كثير من حوادثه، إلا أن بعض المؤرخين من المصريين وبعض الرحالين من الأجانب قد وصفوا مصر في هذه الفترة الطويلة المظلمة. وابن أياس والجبرتي مرجعان مهمان لذلك العصر

وممن زار القاهرة في ذلك العصر القس (ريتشارد بوكوك) في سنة 1737م وترك كتابه الضخم (وصف الشرق وبلاد أخرى). وكتب قبله (دي ما بيه) قنصل فرنسا في مصر كتاباً عن أحوال مصر في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر الميلادي

أما القاهرة في عهد محمد علي فقد وصفها المستشرق (لاين) في أحد كتابيه المشهورين، ووصف آداب أهلها وعاداتهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وبعض أغانيهم التي كان يقرؤها علينا تحت ظلال شجرة الكافور على نيل المنصورة قارئ أديب فيستمع إليها الأستاذان الجليلان: أحمد حسن الزيات والشيخ محمود زناتي وكاتب هذه الكلمات في لذة ومتاع عظيم

(الحديث موصول)

محمد عبد الغني حسن