انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 42/من صور المدنية الإسلامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 42/من صور المدنية الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 42
من صور المدنية الإسلامية
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1934



التجارب العلمية عند المسلمين

نكاد أن نصور لأنفسنا صورة كاملة لمعظم النواحي الفكرية من المدنية الإسلامية، ولكن الناحية العلمية المحضة مجهولة بالنسبة لسائر تلك النواحي، فقل من أقدم على إثارة أبحاثها والغوص إلى أعماقها، وذلك لقلة ما بين أيدينا من الآثار في هذه الناحية بل لفقدانها، فلم يصل إلينا من هذه الآثار إلا أسماؤها وما تغني الأسماء عنا شيئا! نعم يمكننا أن نستدل بهذه الأسماء - التي كثيراً ما نجدها في أمثال كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وتاريخ الحكماء للقفطي وغيرهما - على ما عالجوه في تلك العصور من المواضيع العلمية في الطبيعيات والرياضيات وما يلحق بهما.

على انه إذا كان لدينا شيء من هذه الآثار فأنى نجد من يستطيع أن يقدم على معالجة هذه المواضيع والناس على شطرين، فأما مثقفون ثقافة عربية حديثة يملون وينفرون من النظر في أشباه تلك الكتب (الصفراء) كما يسمونها لقلة عنايتهم بها واستبعادهم حصول الفائدة من مثلها لأنها (قديمة) ولأنها (شرقية)، وإما مثقفون ثقافة شرقية قديمة وهم بعيدو عهد عن النظر في المواضيع العلمية الخالصة، ولا تكاد تجد منهم من يقدر على فهمها وإعطائها حقها من العناية. فما أحوجنا إلى أولئك الذين سماهم الأستاذ احمد أمين الحلقة المفقودة، أعني الذي يجمعون بين الثقافتين الشرقية والغربية ويؤلفون مزيجاً من الحضارتين القديمة والحديثة.

قد كان الناس إلى عهد غير بعيد، ولا يزال بعضهم على ذلك، يعتقدون أن العلم بمعناه الحديث وأساليبه الحاضرة من حيث استناده على الحس والمشاهدة والتجربة والاستنباط هو من مولدات هذه العصور ومن مميزات المدنية الحديثة، ولكننا إذا تتبعنا الحركة العلمية في المدنية الإسلامية وجدنا فيها ما يملأ النفس إعجاباً وإكباراً بأولئك العلماء الذين كانوا مثلا أعلى للنشاط العلمي بجميع معانيه، فلقد كانت الفكرة العلمية نامية لديهم وبالغة من التجريد والتعميم درجة غير قليلة، فكانوا يقولون كما يظهر من آثارهم بالقوانين وبشمولها واطرادها ويسلكون في استنباطها واستخراجها الطرق المعروفة اليوم والتي تستند إلى المشاهدة والتجربة، وليس استعمال التجارب أداة للتحقيق العلمي مقصوراً على الع الحديثة، فالمدنية الإسلامية كانت مجلية في هذا الميدان، فلم يقصر علماؤها كبني شاكر محمد واحمد والحسن، وأبي الريحان البيروتي وغيرهم في القيام بالتجارب العلمية الكثيرة وتقليبها على وجوهها، ولم تعوز تجاربهم تلك دقة الملاحظة لشروط الحادث الطبيعي وظروفه والعوامل المؤثرة في تغييره ولم يفتهم إحكام القياس وجودة الاستنباط.

وهانذا ناقبل تجربة لأبي الريحان البيروني في رسوب الأجسام وطفوها على وجه الماء، تلك التجربة المؤدية إلى فكرة كثافة الأجسام وهي تطبيق للقانون المشهور الآن باسم قانون أرخميدس، والتجربة بعينها يجرونها اليوم في مخابر التعليم من غير تغيير يذكر.

ولعل القارئ يعجب إذا قلت له أن هذه التجربة يجدها مذكورة في أحد كتب التوحيد وهو شرح المقاصد لسعد الدين النفتازاني، ولكن سرعان ما يزول بعض تعجبه إذا عرف أن كتب التوحيد كانت مبنية على الفلسفة، والفلسفة بمفهومها القديم تشمل جميع أنواع العلوم، فكانوا يقسمونها إلى ثلاثة أقسام، الفلسفة الدنيا وهي الطبيعيات، والفلسفة الوسطى وهي الرياضيات، والفلسفة العيا وهي الآلهيات، فمباحث التوحيد مؤسسة على هذه الأقسام الثلاثة للفلسفة، ولهذا فان كثيراً من الأبحاث الطبيعية منبثة في كتب التوحيد، وموضوع هذه التجربة من جملة تلك المباحث المشردة في تضاعيف تلك الكتب.

قال التفتازاني في آخر الجزء الأول من كتابه المذكور: (. . وبحسب تفاوتها - يعني الأجسام - في الخفة والثقل. . تتفاوت فيما يتبع ذلك من الحجم والحيز والطفو على الماء والرسوب فيه، ومن اختلاف أوزانها في الماء بعد التساوي في الهواء، مثلا: حجم الأخف (أي الأقل كثافة) يكون أعظم من حجم الأثقل (أي الاكثف) مع التساوي في الوزن كمئة مثقال من الفضة ومئة مثقال من الذهب، (والفضة كما نعلم أقل كثافة من الذهب). (وإذا كان في إحدى كفتي الميزان مئة مثقال من الحجر وفي الأخرى مئة مثقال من الذهب أو الفضة أو غيرهما من الأجسام التي جوهرها أثقل من جوهر الحجر (أي أكثف منه) فلا محالة يقوم الميزان مستوياً في الهواء، وإذا أرسلنا الكفتين في الماء لم يبق الاستواء، بل يميل العمود إلى جانب الجوهر الاثقل، وكلما كان من جوهر أثقل (أي أكثف) كان الميل أكثر، ويفتقر الاستواء إلى زيادة في الحجر حسب زيادة الثقل مع أن وزن الجوهر ليس إلا مئة مثقال مثلاً) (وقد حاول أبو ريحان تعيين مقدار تفاوت ما بين الفلزات وبعض الأحجار في الحجم وفي الخفة والثقل بان عمل إناء على شكل الطبرزد مركبا على عنقه شبه ميزاب منحن كما يكون حال الأباريق وملأه ماء وأرسل فيه مئة مثقال من الذهب مثلا وجعل تحت رأس الميزاب كفة الميزان الذي يريد به معرفة مقدار الماء الذي يخرج من الإناء، وهكذا كل من الفلزات والأحجار بعد ما بالغ في تنقية الفلزات من الغش وفي تصفية الماء، وكان ذلك من ماء جيحون في خوارزم في فصل الخريف، ولا شك أن الحكم يختلف باختلاف أحوالها بحسب البلدان والفصول، فحصل معرفة مقدار الماء الذي يخرج من الإناء بمئة مثقال من كل من الفلزات والأحجار (أي بوضع مئة مثقال من كل منها في الماء) وعرف بذلك مقدار تفاوتها ما يخرج من الماء بوضع كل مئة مثقال منها في الماء)، والثقل (يعني به الكثافة) فان ما يكون ماؤه أكثر (أي الماء الذي يخرج بوضع الجسم في الماء) يكون حجمه أكبر وثقله أخف بنسبة تفاوت الماءين وإذا اسقط ماء كل من وزنه في الهواء كان الباقي وزنه في الماء، مثلا لما كان ماء مئة مثقال من الذهب خمسة مثاقيل وربع مثقال كان وزنه في الماء أربعاً وتسعين مثقالا وثلاثة أرباع المثقال، والماء الذي يخرج من الإناء بإلقاء الجسم فيه إن كان أقل من وزن الجسم فالجسم يرسب فيه، وان كان أكثر منه فيطفو، وإن كان مساوياً له فالجسم ينزل في الماء بحيث يماس أعلاه سطح الماء. وقد وضع أبو ريحان ومن تبعه جدولا جامعاً لمقدار الماء الذي يخرج من الإناء بمئة مثقال من الذهب والفضة وغيرهما ومقدار أوزانهما عند كون الفلزات السبعة في حجم مئة مثقال من الذهب، والجواهر في حجم مئة مثقال من الياقوت الاسمانجوني، ولمقدار اوزانها في الماء بعدما يكون مئة مثقال في الهواء، وهو هذا الجدول (فهذا الجدول يحتوي على ثلاثة جداول أحدهما لأوزان الماء الذي يخرج بإرسال مئة مثقال من كل من هذه الأجسام في الماء، وثانيها لأوزان هذه الأجسام عندما تكون حجومها متساوية، ومساوية لحجم مئة مثقال من الذهب إن كانت من الفلزات، ولحجم مئة مثقال من الياقوت الاسمانجوني إن كانت من الجواهر، وثالثها لأوزان هذه الأجسام في الماء عندما يكون وزن كل منها في الهواء مئة مثقال).

(1) جدول في أوزان ما يخرج من الماء بوضع مئة مثقال من الأجسام المذكورة

المثاقيل الدونق الطسوجات ذهب 5 1 2

فضة 9 4 1

زئبق 7 2 1

الاسرب 8 5 0

الصفر 11 2 0 الفلزات

النحاس الاحمر 11 2 1

النحاس الاصفر 11 4 0

الحديد 12 5 2

الرصاص 13 4 0

الياقوت الاسمانجوبي 25 1 2

اللعل 27 5 2

الزمرد 36 2 0

اللاجورد 37 1 0

اللؤلؤ 38 3 0 الجواهر

العقيق 39 0 0

الشبه 39 3 0

البلور 40 0 0

الياقوت الأحمر 26 0 0

(2) جدول في أوزان الفلزات والجواهر إذا كانت الفلزات في حجم (100) مثقال من الذهب والجواهر في حجم (100) مثقال في الياقوت الاسمانجوني

ذهب 5 1 2

فضة 9 4 1

زئبق 7 2 1

الاسرب 8 5 0

الصفر 11 2 0 الفلزات

النحاس الاحمر 11 2 1

النحاس الاصفر 11 4 0

الحديد 12 5 2

الرصاص 13 4 0

الياقوت الاسمانجوبي 25 1 2

اللعل 27 5 2

الزمرد 36 2 0

اللاجورد 37 1 0

اللؤلؤ 38 3 0 الجواهر

العقيق 39 0 0

الشبه 39 3 0

البلور 40 0 0

الياقوت الأحمر 26 0 0

(2) جدول في أوزان الفلزات والجواهر إذا كانت الفلزات في حجم (100) مثقال من الذهب والجواهر في حجم (100) مثقال في الياقوت الاسمانجوني

مثقال دانقطسوج

ذهب 100 0 0

فضة 54 1 2

زئبق 71 2 1

الاسرب 55 2 2 الصفر 46 2 0 الفلزات

النحاس الأحمر 45 3 0

النحاس الأصفر 45 0 0

الحديد 40 3 3

الرصاص 38 2 2

الياقوت الاسمانجوبي 100 0 0

الياقوت الأحمر 97 0 3

اللعل 90 2 3

الزمرد 69 3 0

اللاجورد 69 5 2 الجواهر

اللؤلؤ 65 3 2

العقيق 64 4 2

الشبه 64 2 1

البلور 63 0 3

وأما الجدول الثالث وهو الذي يبين وزن كل جسم في الماء فيحصل بطرح وزن ما يخرج من الماء بغمس كل جسم في الماء، من الوزن الأصلي في الهواء اعني مئة مثقال، ولما كان وزن ما يخرج من الماء بغمس كل جسم من الأجسام المذكورة مبيناً في الجدول الأول فيطرح هذا الوزن من (100) مثقال فيخرج وزن ذلك الجسم في الماء، مثلا: وزن الذهب في الماء (94) مثقالا و (4) دوانق و (2) طسوجان

ومما يلاحظ أن المؤلف قد استعمل لفظي الثقل والوزن بمعينين مختلفين فجعل الثقل بمعنى الكثافة كما هو ظاهر من سياق كلامه، وهذا مما يدل على ما في اللغة العلمية من دقة في التعبير.

هذا وإن من الجدير بالعناية والنظر في أمر هذه التجربة أنه اشتهرت نسبتها - أو على الأقل نسبة النظرية التي تستند إليها هذه التجربة - إلى ارخميدس، وقصته في اكتشافها مشهورة تكاد تكون مضرب المثل في الإلهام أو الحدس العلمي، ومع ذلك فلم يشر إلى هذا الأمر المتقدمون من علماء المسلمين ممن بحثوا هذا المبحث أو ممن ترجموا لارخميدس. وإذا رجعنا إلى ترجمته في كتاب تاريخ الحكماء للقفطي والفهرست لابن النديم مثلا وجدنا ما ترجم من كتبه إلى العربية ليس شيء منه من باب الطبيعيات وإنما هي في الرياضيات، فكل هذا يدعونا إلى التساؤل كيف انتقل هذا القانون أو هذه النظرية إلى المسلمين؛ أهو عن طريق ارخميدس ولم يذكر بين كتبه المعربة ما يشبه هذه المباحث! أم عن طريق غيره من الفلاسفة ممن نقلوا عنه ذلك؟ وإذا كان كذلك فلم لم يكن لارخميدس ذكر في هذا النقل! أم أن المسلمين أنفسهم توصلوا إليها؟ ولم ينقل إلينا مثل هذا الاكتشاف! وعلى كل نترك التحقيق والبت في هذا الأمر إلى من هم أوسع تحقيقاً واغزر علماً ومهما كان الأمر فان مما يسترعي النظر في هذه ما فيها من الدقة في تعيين المكان (خوارزم)، والزمان (فصل الخريف)، والماء المستعمل في التجربة (ماء جيحون)، تلك العوامل التي تؤثر في نتيجة التجربة كما أشار التفتازاني نفسه إلى ذلك حيث قال: (ولا شك أن الحكم يختلف باختلاف المياه واختلاف أحوالها بحسب البلدان والفصول) ولا شك في الحقيقة أن كثافة الماء تختلف تبعاً لهذه العوامل التي ذكرها. ومن جهة أخرى فان أبا ريحان (بالغ في تنقية الفلزات من الغش وفي تصفية الماء) لتكون النتائج أدق واضبط، ولم يكن في الكميات أقل ضبطا منه في الكيفيات وهو لتعيين الأوزان يستعمل المثقال والدانق (سدس المثقال) والطسوج (ربع الدانق) ومن ذلك نعلم أن فكرة إرجاع الكيفيات في الحوادث الطبيعية إلى الكميات كانت معروفة شائعة لديهم وهي الفكرة التي يرتكز عليها علم الطبيعة اليوم والتي كانت وسيلة لرقيه السريع وبلوغه تلك المنزلة الرفيعة التي ارتقى إليها في هذا العصر، فجرى بمن يؤلف بالعربية في علوم الطبيعة أن يشير إلى أمثال هؤلاء العلماء ممن نستطيع أن نفاخر بهم في الميادين العلمية، والذين كثيراً ما ينسب إلى غيرهم من متأخري علماء الفرنجة ما هو أحق أن ينسب إليهم لما لهم من السبق في تحريه واكتشافه أو في التحقيق عن صحته واثباته، فقد اصبحنا ومالنا من ماضينا سوى الافتخار باسمه والإشادة بذكره، فإذا توخينا تلمس ما في هذا الماضي من مآثر حقيقية في كل منحى من مناحي التفكير أحجمنا وكلت أبصارنا عن النظر في مثل تلك الآفاق الواسعة التي تثبت بحق ما كانت تقوم عليه الحضارة الإسلامية من سعة في التفكير لم يكن الدين (على ازدهاره إذ ذاك) ليضيق بها ذرعاً، بل أن هذه الحركة فيما أرى كانت تغذيها وتدفع الناس إليهما روح الإسلام نفسه، ذلك الدين الذي يجب أن نتصوره بأوسع مما هو مصور في الحقيقة في مخيلتنا والذي قد تضيق كلمة دين - إذا نحن اطلقناها عليه - مفهومة في، نفوسنا لما نتصوره من لوازم عديدة لهذه الكلمة حينما نذكرها بسبب ما مرت عليه من أدوار مختلفة في خلال التاريخ البشري. فهو في الحقيقة أوسع من أن يسمى ديناً بالمفهوم الحالي لهذه الكلمة، وانما هو الطريقة المثلى في الحياة في جميع نواحيها وشعبها، وناهيك بما أنتجته الحضارة الإسلامية من إبداع في الأدب والعلم والتشريع دليلا على سمو هذا المنهاج الحيوي الأقوم.

دمشق

محمد مبارك

بكالوريوس في العلوم