مجلة الرسالة/العدد 42/صور من التاريخ الإسلامي
مجلة الرسالة/العدد 42/صور من التاريخ الإسلامي
5 - صور من التاريخ الإسلامي
الهجرة
للأستاذ عبد الحميد العبادي
كان من أثر الاتجاه المادي الحديث في فهم حوادث التاريخ وتعليلها أن أصبح المؤرخون أشبه شيء بالفلاسفة الكلبيين القدماء الذين كانوا يجردون الإنسان من عاطفة الخير، ويعتقدون أنه أناني بطبعه، لا يصدر عنه الخير إلا رئاء ونفاقاً، ولكن من حسن حظ الحقيقة والفضيلة أن بعض أحداث التاريخ يكذب هذه الدعوى وينقضها نقضاً صريحاً، ولست أجد في التاريخ الإسلامي انقض لتلك الدعوى وأشد تكذيباً من حديث الهجرة التي وقعت زمن النبوة، سواء أكانت هجرة الحبشة أم الهجرة إلى المدينة، ففي كلتا الهجرتين تجد الإخلاص للعقيدة مجسماً محسوساً، والتنزه عن حطام الدنيا واضحاً ملموساً. وإلى القارئ أسواق المقال الآتي توضيحاً لهاتين الهجرتين في ضوء الحياة العامة التي ابتعثتهما وأدت إليهما
لقد حمل الإسلام من أول الأمر على ما كان لقريش من نظم بالية عتيقة حملة عنيفة لا مواربة فيها ولا هوادة. فكان محمد يقرع أسماع قومه بما يتنزل عليه من القرآن ناعياً عليهم وثنيتهم المنحطة، ونظامهم الاجتماعي الذي فرقهم أغنياء وفقراء وسادة وعبيداً، مهجنا تكثرهم بالاحساب والأنساب، مقبحاً طرقهم الملتوية في المعاملات من تطفيف الكيل والميزان وأكل أموال الناس بالباطل. محذراً لهم إن هم أصروا على عتوهم واستكبارهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم عندما أعرضت عما بعث به إليها الرسل من أسباب الهداية والأصلاح.
لم يجب هذه الدعوة التي تكلفت بخيري الدنيا والآخرة إلا فريق قليل العدد وسيط المكانة في المجتمع القرشي. أما الملأ من قريش فرأوها دعوة صريحة إلى الفوضى وقلب الأوضاع. ورأوا في محمد ثائراً يريد هدم النظم التي درجت عليها الجمهورية المكية من قديم. ثم من يدريهم لعلهم إن هم اتبعوه التات عليهم الأمر واضطرب الحبل، فان الهدم عادة أيسر من البناء. تلك كانت حجتهم في عدم متابعته، وهي حجة الجامدين على المصلحين في كل زمان ومكان.
وكان موقف قريش من محمد أول الأمر سلبياً محضاً. ولكن محمداً كان النشاط واللباقة والفصاحة وقوة الخلق مجتمعة، فوجدت قريش نفسها بازاء رجل لا كالرجال، وخصم ليس كغيره من الخصوم، فهي إن لم تعاجله عاجلها، وإن لم تقض عليه قضى عليها. لذلك أخذت تنهج في مقاومته خطة إيجابية تدرجت فيها تدرجاً. فكانت أول الأمر تستهزئ به وبدعوته وبمن اتبعه، فهو شاعر وساحر ومجنون، ودعوته إنما هي محض خداع وغرور، وأتباعه ليسوا إلا أراذلها وسفلتها، ثم جعلت تحاول إعجازه ومعاياته. إن يكن صادقاً فيما يدعى فليحول جبال مكة جناناً وأنهاراً، أو فليكن له بيت من زخرف، أو ليرق في السماء، أو فليسقط السحاب عليهم كسفاً، أو فليأت بالله والملائكة قبيلاً. ثم انتقلوا من هذه المعاياة الدالة على قصر عقولهم إلى التعريض له بالمال والسلطان. فلما أعيتهم فيه الحيل ورأوا وقوف عشيرته دونه أخذوا يفتنون أصحابه بالأذى والعذاب. فمنهم من كان يثبت على رأيه وعقيدته، ومنهم من كان يفتتن من شدة البلاء.
عند ذلك أمر الرسول أصحابه بالهجرة التي هي آخر ما يلجأ إليه المحق الضعيف في مقاومة المبطل القوي. أمرهم بالهجرة إلى أرض الحبشة فهي أرض قديمة الصلة بمكة، وبها ملك نصراني رشيد لا يضام من يلجأ إليه ويحتمي بحماه.
فخرج من مكة في شهر رجب من سنة خمس للنبوة زهاء مائة مسلم ومسلمة، وكلهم جاز البحر الأحمر من الشعيبة إلى بر الحبشة، فتلقاهم النجاشي لقاء حسناً وأذن لهم في المقام بأرضه آمنين على دينهم وأنفسهم. وقد أبى أن يخفر ذمته لهم عندما أرسلت إليه قريش في رد اللاجئين إليه. فلما تبدلت الأحوال بالحجاز وعلا شأن الإسلام به جعل هؤلاء المهاجرون يعودون إلى الحجاز. وكانت عودة بقيتهم إلى المدينة سنة سبع للهجرة أي بعد أن لبثت بأرض الحبشة نحو خمسة عشر عاماً. وقد جزت الرواية الإسلامية النجاشي عن صنيعه هذا بأن اعتقدت إسلامه، وبأن النبي ﷺ قد صلى عليه عندما بلغته وفاته.
ولما رأت قريش خروج من خرج إلى الحبشة من أصحاب محمد أرادت أن تحسم مادة الخطر فاجتمعت كلمة ملئها على حبس محمد وعشيرته من بني هاشم والمطلب في بعض شعاب مكة، وعلى أن يقطعوا كل أسباب الاتصال بينهم وبين جمهور قريش، وقد أنفذت هذا الحكم، وقضى بنو هاشم والمطلب في الشعب نحو ثلاث سنين قاسوا فيها جهداً جاهداً حتى لقد كان يسمع صوت صغارهم من وراء الشعب وهم يتضورون جوعاً. وأخيراً قام في قريش من عطفته عليهم عاطفة الرحم والقرابة فسعى في إخراجهم من الشعب فأخرجوا
على أن الرسول لم ينعم بتلك الحرية التي سيقت إليه طويلاً. ففي السنة العاشرة للنبوة أصيب بفقد عمه أبي طالب وزوجه خديجة، فخلا الميدان من النصير الذائد، وخلا البيت من الحبيب المؤنس. واصبح محمد وجهاً لوجه أمام عدون حنق عليه كان يترقب فيه الفرصة، فلما امكنت استغلها استغلالا. فجعل يأخذ عليه المذاهب ويعزى به السفهاء يتعمدونه بالأذى والهوان
عند ذلك أخذ الرسول يفكر فيما كان قد أشار به على أصحبه منذ سنين عندما اشتد تحامل قريش عليهم: أخذ يفكر هو أيضاً في الهجرة. لقد دلته تجارب سنوات عشر على أن دعوته توشك أن تذهب بمكة صرخة في واد ونفخة في رماد، وإذا ففيم المقام بواد غير ذي زرع حقيقة ومجازاً؟ فليهاجر! ذلك ما قر عليه رأيه. ولكن على ألا يتخطى حدود بلاد العرب فهو مبعوث إلى العرب أولا والى سائر الناس أخيراً. فليخرج إلى اقرب قرية عربية من مكة؛ إلى الطائف، لعل ثقيفاً تجيره حتى يبلغ رسالته. ولكن ثقيفاً لم تكن أبر به من قريش، فقد أعرضت عن سماع دعوته وضنت عليه بجوارها، ثم زادت فأغرت به سفهاءها، فما زالوا يتعقبونه حتى ألجأوه هو ومولاه زيد بن حارثة إلى حائط من حوائط ثقيف. وهنا - وقد خلا إلى نفسه وربه -. فاضت أشجانه واعتلجت في صدره همومه، فانبعث يناجي ربه (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي؟ ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)
ثم نهض من مكانه يريد مكة فلم يدخلها إلا في جوار سيد من ساداتها هو المطعم بن عدي. وكف محمد مؤقتاً عن توجيه الدعوة إلى قريش واكتفى بعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج لعل قبيلة تصغي إليه فينتقل إليها ويبلغ دعوته في ظلها وسلطانها. فكانت القبائل ترد عليه بأنه لو كان صادقاً لاتبعه قومه، إلا ما كان من أمر أهل يثرب. ففي عام 11 للنبوة لقي النبي عند العقبة ستة نفر من الخزرج فعرض عليهم الإسلام فآمنوا وصدقوا، ووعدوا أن ينشروا الدين الجديد في قومهم. تلك بيعة العقبة الأولى. فلما كان العام القابل وافى الموسم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلاً، لقوا النبي عند العقبة أيضاً فبايعوه على بيعة النساء، وذلك قبل أن يشرع القتال (على ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف. فأن وفيتم فلكم الجنة، وان غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل، أن شاء غفر، وأن شاء عذب) تلك بيعة العقبة الثاني، وبعث الرسول معهم صاحباً من أصحابه ديِّناً لبقاً فطنه ليفقه القوم في الدين، وفي الوقت نفسه ليخبر أحوال يثرب العامة ويسبر غورها وينهي إلى النبي ما يصل إليه من ذلك. ذلك هو مصعب بن عمير. وقد أدى مصعب بن عمير واجبه أحسن أداء وأتمه، ثم عاد إلى مكة فاطلع الرسول على حال يثرب ومقدار نجاح الدعوة الإسلامية بها. فلما حل موسم الحج وافى مكة جم غفير من الأوس والخزرج، مسلمهم ومشركهم. فواعد المسلمون منهم رسول الله أن يلقوه عند العقبة ليلاً، وقد لقيه منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، فبايعوا الرسول بيعة العقبة الكبرى المشهورة وهي تقوم على تعهد الأوس والخزرج بالدفاع عن الرسول والحرب من دونه. يقول الطبري (فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة وأعطوه عهودهم، على إنّا منك وأنت منا، وعلى أنه من جاءنا من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا) وبهذه البيعة أصبح للرسول بيثرب أنصار يؤوونه ويذودون عنه.
لكي ندرك السبب في مسارعة الأوس والخزرج إلى قبول الدعوة الإسلامية ومبايعة الرسول على الدفاع عنه، ينبغي أن نلم بحال يثرب في السنوات السابقة على الهجرة من الناحيتين الدينية والسياسية، فمن الناحية الدينية كانت اليهودية قد حرثت المدينة وأعدتالأنصار لقبول الدعوة الإسلامية، لأنهم أهل كتاب منزل ودين مشروع. وكان الأوس والخزرج يلقفون منهم معنى النبوة والرسالة والوحي ونحو ذلك من المصطلحات الدينية. ثم أن اليهود كانوا كدأبهم يتوقعون ظهور نبي منهم يجمع شملهم ويعيد إليهم سلطانهم يقهر بهم أعداءهم، وكانوا لا يعدمون أن يبوحوا بشيء من ذلك لمواطنيهم من الأوس والخزرج.
قال ابن اسحق عند كلامه على استجابة الأنصار لدعوة النبي في بيعة العقبة الأولى: (وكان مما صنع الله لهم به من الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم إن نبياً مبعوث الآن، قد أظل زمانه نتبعه فنقلتكم معه قتل عاد وأرم. فلما كلم رسول الله (ص) أولئك النفر دعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا، والله انه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام)
قد يكون تصوير حالة المدينة السياسية قبيل الهجرة أبلغ من تصوير الحال الدينية في فهم قبول الأنصار دعوة النبي والتزامهم الدفاع عنه ببلدهم. لقد كانت الحياة العامة بالمدينة مضطربة أشد الاضطراب من جراء حرب الأوس والخزرج التي سببها ما كان بين الفريقين من دماء وثارات. وكانت الغلبة بوجه عام في تلك الحرب للخزرج على الأوس، حتى لقد همت الأوس حوالي السنة العاشرة قبل الهجرة أن تجلو عن المدينة جملة، وأخذت تفاوض قريشاً في أن تأذن لها بالنزول عليها بمكة، ولكن قريشاً كانت أحرص من أن تأذن بذلك، فلما طلبت إليها الأوس أن تحالفها على الخزرج أبت أن تتورط في شيء من ذلك أيضاً. فعادت الأوس تلتمس الحلف من يهود يثرب وخاصة قريظة والنضير. وكان اليهود قد وقفوا من تلك الحرب موقف الحياد المطلق، فملا بلغ الأمر الخزرج أرسلت إلى اليهود تحذرهم عاقبة هذا الحلف إن تم، فلما أكد اليهود أنهم غير محالفي الأوس عادت الخزرج تطلب منهم رهناً أربعين غلاماً من غلمانهم يكونون بأيديهم ضماناً لهذا الحياد. فلم يسع اليهود ألا أن يسلموا إليهم الضمان الذي طلبوا. ولكن الخزرج كانت قد قدمت إلى ارض قريظة والنضير وكانت أغنى بقاع يثرب، فأقبلت تتجنى على اليهود وتخير قريظة والنضير بين أمرين كلاهما شر: فإما أن يجلوا عن يثرب وينزلوا لهم عن أرضهم، وإما أن تقتل غلمانهم. فلما رأت اليهود أن الخزرج قد لجت في طغيانها، وان حيادها لن يجر إليها خيراً، عند ذلك خرجت من حيادها وحالفت الأوس صراحة، فقتلت الخزرج الغلمان وعقدت حلفاً مع القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة قبيلة بني قينقاع وبذلك استحالت يثرب عسكرين تشحذ فيهما السيوف وتراش النبال استعداد للواقعة الفاصلة.
وقد وقعدت الواقعة الفاصلة في يوم بعاث الذي كان قبيل الهجرة بنحو خمسين سنين. في ذلك اليوم أديل للأوس وحلفائهم من الخزرج وحلفائهم، وقتل من الفريقين يومئذ عدد كبير من سادات الناس وأشرافهم. جاء في صحيح البخاري عن عائشة: (كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله (صلعم) في دخولهم في الإسلام، فقدم رسول الله صلعم وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم) ويفسر السمهودي هذا الحديث بقوله (ومعناه انه قتل فيه من أكابرهم من كان لا يؤمن أن يتكبر، ويأنف أن يدخل في الإسلام) إلى أن يقول (وقد كان بقي معهم من هذا النمط عبد الله بن أبي بن سلول. . . وكذلك أبو عامر الراهب. . . فشقيا بشرفهما)
ورأى أهل يثرب غداة يوم بعاث أن الحرب مهلكة النفوس متلفة الأموال، وأنها يشقى بها الغالب والمغلوب جميعاً، وأنه أولى بهم أن يقيموا بيثرب حكومة تزع القوى وتأخذ بناصر الضعيف. وكان عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي قد رأى غدر قومه في الحرب فلم يخض غمارها معهم وامتنع من قتل من كان بيده من غلمان يهود، ولذلك اتجهت إليه أنظار القوم وهموا أن يملكوه على يثرب، وأقبلوا ينظمون له الخرز، وكان ذلك شارة الملك عندهم. ولكن يظهر أنه لم تكن هناك رغبة صادقة في تمليكه. أما الأوس فكانت تكره أن يصير الأمر إلى خزرجي مهما تكن فضائله، وأما الخزرج فقد كبر على كثير من أحيائها أن تولي رجلاً وسمها بالغدر وخذلها عند الحرب، فكان بذلك مسؤولاً إلى حد ما عن هزيمتها. وأما اليهود فلا شك في أنها كانت تستنكف أن يلي أمرها مشرك ولو كان ابن أبي نفسه.
فلما لقي حجاج الأوس والخزرج الرسول بموسم الحج وأطلعوا على سيرته وحالته وجدوا فيه ضالتهم المنشودة. فهو وحده الرجل الذي تستقيم على يده حالهم المختلة، وتجتمع على حكومته آراؤهم المختلفة، هو نبي عربي يتنزل عليه الوحي من السماء، وبذلك يحتجون به على اليهود. نعم إنه من الناحية السياسية يعتبر أجنبياً عن يثرب، ولكن حكومته لن تكون أجنبية. أليس الأنصار هم الذين سيكونون عدته ومادته؟ فأي حكومة ليثرب يمكن أن تفضل هذه الحكومة؟ إذن فليعدلوا عن تمليك ابن أبي، وليبايعوا محمداً، وليكن ذلك في غيبة ابن أبي وليكتموا ذلك الأمر عنه كتمان النبي إياه عن قريش.
تلك كانت الحال المعنوية للأنصار عندما بايعوا النبي بيعاتهم الثلاث بمكة. قال بن اسحق عند كلامه على العقبة الأولى (. . . وقالوا له (للنبي) إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فان يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ راجعين إلى بلادهم) وروي ابن إسحاق أيضاً عند كلامه على بيعة العقبة الكبرى (. . . فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال فتبسم رسول الله ﷺ. ثم قال بل الدم الدم! والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم). فالمسألة من ناحية الأنصار لا تعدو أن تكون حلفاً سياسياً قوامه الفكرة الدينية. أما من ناحية الرسول فلم تكن كذلك. فالرسول إنما كان يريد إذ ذاك بلداً يأمن فيه على دعوته وأصحابه، وقوماً يحمون ظهره حتى يبلغ رسالته. وقد أصبح ذلك مكفولاً له بالبيعة الأخير، وإذن فلم يبقى إلا الرحيل من مكة إلى المدينة
ورأى الرسول اغتنام الوقت فأذن لأصحابه في الخروج إلى يثرب في أواخر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة للنبوة. فجعلت جماعاتهم عندما استهل المحرم تخرج من مكة أرسالاً وتنزل على الأنصار في دورهم. فخرج في نحو شهرين زهاء المائتين. وقد أقفرت دور برمتها بسبب الهجرة. من ذلك دور بني مظعون وبني جحش وبني البكير. قال ابن هشام (فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام ابن المغيرة. . . وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة ابن ربيعة تخفق أبوابها يباباً ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال:
وكل دار وان طالت سلامتها ... يوماً ستدركها النكباء والحوب
ثم قال هذا عمل ابن أخي هذا، فرق جماعتنا وشتت أمرنا وقطع بيننا) ولم يبق بمكة من المسلمين إلا النبي وأبو بكر وعلي وإلا من كان مفتوناً أو محبوساً أو مريضاً أو ضعيفاً عن الخروج.
وأحست قريش الخطر الذي أصبح يتهددها من جراء تلك الهجرة وذلك الحلف الذي عقده محمد مع أهل يثرب. فاجتمع ماؤها في دار ندوتها ليقلب الأمر على وجوهه ويصدر فيه رأياً حاسماً. وهنا افترقت بها الآراء وتشعبت المذاهب، فمنهم من رأى أن ينفى من البلد، ومنهم من رأى قتله. والظاهر أن الرأي الأخير هو الذي اجتمعوا عليه آخر الأمر. وإلى هذه القصة كلها يشير القرآن بقوله (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) ثم رأوا أن يقتلوه بحيث تمتنع على عشيرته المطالبة بدمه فأمروا فتياناً من بطون قريش أن يضربوه ضربة رجل واحد وبذلك يتفرق دمه في القبائل ويرضى بنو هاشم بديته.
ولكن رسول الله كان قد نذر بذلك فأسرع إلى الخروج خفية من داره إلى دار صديقه أبي بكر وكان قد أعد عدة السفر إلى المدينة، دليلاً وظهراً وخادماً وزاداً. وخرج الرسول وابو بكر إلى غار بجبل ثور بقيا به ثلاثة أيام اهتاجت فيها قريش اهتياجاً شديداً وجعلت لمن يأتي بالنبي حياً أو ميتاً جعلاً سنياً. والى حادث الغار يشير القرآن بقوله (إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه، لا تحزن، إن الله معنا فانزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز ذو انتقام).
توصف الأرض التي بين مكة والمدينة بأنها حزنة وعرة موحشة، ليس بها ما يرفه عن المسافر في بلاد العرب من ماء أو خضرة ثم هي يشقها طريقان: إحداهما شرقية محاذية لنجد ويجاوز طولها الثلاثمائة ميل بقليل، والأخرى غربية محاذية لساحل البحر الأحمر ويقرب طولها من مائتين وخمسين ميلا. وقد آثر الدليل الذي اتخذه أبو بكر هادياً له وللرسول أثناء السفر سلوك الطريق البحرية. غير انه كان ينحرف يمنة، ويسرة تضليلاً لمن عسى أن ترسله قريش في أثرهم. فخرج بالجماعة من جبل ثور اسفل مكة فبلغ عسفان وهنا أدرك الجماعة سراقة بن مالك طامعاً في قتل الرسول وأخذ جعل قريش، ولكنه وجد نفسه أمام أربعة أشداء فكان قصاراه أن نجا بنفسه بعد أن أعطى الرسول وأصحابه موثقاً ألاّ يدل عليهم. ثم سار الدليل بهم إلى أمج فقديد، فلما قارب بدراً مال بهم يمنة إلى العرج، ثم هبط وادي العقيق الذي يؤدي إلى المدينة. ولكن النبي أمر بأن يكون المسير أولاً إلى قباء قرية بني عمر بن عوف. فبلغها ظهر يوم الاثنين 12 ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة وذلك بعد مسير ثمانية أيام. وأقام النبي ثلاثة أيام بقباء وثق فيها من حسن استقباله بالمدينة. فما كان يوم الجمعة خرج من قباء إلى المدينة يحف به ملأ بني النجار. وقد لحقه بقباء علي بن أبي طالب بعد أن أدى عن الرسول ما كان للناس عنده من الودائع. ولما اطمأن الرسول بالمدينة انفذ إلى مكة من حمل إليه أهل بيته.
ليس يسيراً على المؤرخ أن يصور مقدار المشقة التي لحقت المهاجرين الأولين من جراء هجرتهم من وطنهم إلى بلد ناء ومعشر غرباء. لقد كان أول مظهر لهذه المشقة أن تأثروا بجو المدينة الوخم لأول قدومهم فاعتلت صحتهم وأصابتهم الحمى وعراهم داء الحنين إلى وطنهم القديم، حتى لقد كان بعضهم يهذي بذلك إذا أخذه دوار الحمى. البلاذري بإسناده عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت (لما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة مرض المسلمون بها فكان ممن اشتد به مرضه أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة. فكان أبو بكر يقول في مرضه:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي أذخر وجليل!
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل!
وكان عامر بن فهيرة يقول:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمى جلده بروقه
قال فأخبر النبي ﷺ بذلك، فقال: اللهم طيب لها المدينة كما طيبت لنا مكة، وبارك لنا في مدها وصاعها).
وتتمثل هذه المشقة كذلك في الفاقة الشديدة التي صار إليها المهاجرون بسبب الهجرة. فقد خلف أكثرهم أمواله بمكة فعدت عليها قريش فاغتصبتها تشفياً من أصحابها. روى صاحب أخبار مكة (انه قيل للنبي ﷺ يوم الفتح (فتح مكة) ألا تنزل منزلك بالشعب؟ قال وهل ترك لنا عقيل منزلاً. قال وكان عقيل ابن أبي طالب قد باع منزل رسول الله ﷺ ومنازل أخوته من الرجال والنساء بمكة حين هاجروا ومنزل كل من هاجر من بني هاشم، فقيل لرسول الله ﷺ فأنزل في بعض بيوت مكة في غير منزلك. فأبى رسول الله ﷺ وقال لا أدخل البيوت، فلم يزل مضطرباً بالحجون وكان يأتي المسجد من الحجون) ويروي ابن هشام أن عبد الرحمن بن أبي بكر عدا على مال أبيه بمكة بعد هجرته، فلما كان يوم بدر خرج عبد الرحمن مع قريش لقتال المسلمين فناداه أبوه: أين مالي يا خبيث؟ فأجابه عبد الرحمن:
لم يبق غير شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب
ويروي ابن هشام كذلك (أن صهيباً حين أراد الهجرة قال له كفار قريش أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريدان تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك: فقال لهم صهيب. أرأيتم أن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم! قال فأني جعلت لكم مالي. قال فبلغ ذلك رسول الله (صلعم) فقال: ربح صهيب! ربح صهيب!) ويروي ابن اسحق أنه (لما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان ابن حرب فباعها من عمرو بن علقمة. . . . فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله (صلعم). فقال له رسول الله (صلعم) ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك اله بها داراً خيراً منها في الجنة؟ قال بلى! قال فذلك لك. فلما افتتح رسول الله (ص) مكة، كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله (صلعم). فقال الناس لأبي أحمد، يا أبا أحمد! إن رسول الله (صلعم) يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب في الله عز وجل، فأمسك عن كلام رسول الله (صلعم) فيها) ومما يدل على شدة فقر المهاجرين لأول عهدهم بالمدينة أن الرسول عند ما خرج بهم إلى وقعة بدر في السنة الثانية للهجرة دعا الله في رواية الواقدي فقال: (اللهم انهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعاله فأغنهم من فضلك)
من أجل تلك الفاقة كان المهاجرون في السنوات الأولى من الهجرة عالة على الأنصار. وذلك مظهر ثالث للحوق المشقة بهم - نعم إن الأنصار أكرموا وفادتهم كل الإكرام وواسوهم أتم المواساة، ولكن تلك الحال ليس من السهل على كرام النفوس احتمالها. يروي البلاذري أن النبي عندما أراد قسمة غنام بني النضير قال للأنصار: (ليست لإخوانكم من المهاجرين أموال، فأن شئتم قسمت هذه فيهم خاصة. فقالوا بل اقسم هذه فيهم واقسم لهم من أموالنا ما شئت. فنزلت (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فقال أبو بكر: جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقى الذي يلقون منا لملت
فذو المار موفور وكل معصب ... إلى حجرات أدفأت وأظلت
من أجل تلك المشقة التي نالت المهاجرين الأولين في سبيل الله اعتبر القرآن هجرتهم هجرة إلى الله ورسوله، ومن أجلها جعل أولئك المهاجرين أرفع طبقات المسلمين درجة وأجزلهم مثوبة، وفرض مثل هجرتهم على كل مسلم عند خوف الفتنة ولحوق الضيم، قال تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا. ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً).
أما بعد فلقد وفق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كل التوفيق عندما اتخذ هجرة الرسول من مكة إلى المدينة تاريخاً يحسب منه المسلمون سنيهم وأيامهم، ويؤرخون منه أحداثهم ووقائعهم. انه لا شك قد لحظ في الهجرة أنها بدء رسوخ الإسلام، ولكنا نلحظ فيها فوق ذلك أنها كانت مظهراً رائعاً لعناصر الحياة القوية النبيلة: حياة الألم والتضحية والإخلاص.
عبد الحميد العبادي