مجلة الرسالة/العدد 42/الموسيقى عند العرب
مجلة الرسالة/العدد 42/الموسيقى عند العرب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
مقدمة
قد يعجب البعض وقد يؤدي هذا العجب إلى القول: ما علاقة صاحب هذا المقال بالموسيقى؟ وهل هذا الفن يقع في دائرة اختصاصه حتى يتمكن من الكتابة فيه؟ وما هي الفائدة التي ستعود على القراء إذا عرفوا أن للعرب أو للمسلمين فضلا فيه؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بتراث السلف الذين مضوا بخيرهم وشرهم؟ أما آن الأوان للاهتمام والانعكاف على شيء جديد حاضراً لنفع ممتع؟ أجوبتي على هذه الأسئلة ستكون بالجملة! فإجابة على السؤالين الأولين أقول إن الموسيقى هي من بحوث الصوت، والصوت فرع من فروع علم الطبيعة، وعلم الطبيعة هذا في العلوم التي نشتغل بها ونهتم بماضيها وحاضرها، بتطورها ونموها. وأما الجواب على الأسئلة الباقية فيمكن أن يتخلص في أن الأمة التي تريد أن تصل إلى ما تصبو إليه من تقدم وسؤدد يجب أن تهتم بماضيها، وأن تربطه بحاضرها، وان تأخذ من الحضارة الحالية ما فيها من عناصر صالحة وبالقدر الذي يتلاءم ونفسيتها وتقاليدها بحيث لا يضيع شيء من مميزاتها، وان تضيف هذا إلى ما في حضارتها من عناصر خالدة، بذلك تستطيع أن تخرج حضارة جديدة تمد سلسلة التاريخ الفكري للعالم، وبذلك تكون قد قامت بواجبها نحو تاريخها وتراثها ونحو المدنية والبشرية
نبذة في أطوار الموسيقى
الموسيقى من الفنون الجميلة ومن أهم العوامل التي تترجم عن نفسية الأمة وطبائعها، وهذا الفن طبيعي في البشر، فالإنسان يرغب في الموسيقى يطرب منها وترتاحنفسه لها، وهي لغة العواطف، وقد تكون هي الوحيدة من بين الفنون التي يطرب لها الحيوان. هذا الميل الغريزي في الإنسان دفعه إلى الاعتناء بها فاهتم لها المصريون من قديم الزمن وبلغوا فيها شأواً بعيداً، وأبدع فيها اليونانيون وأحلوها محلها من الاعتناء والاهتمام، وكذلك الرومان فانهم اعتنوا بها فأخذوها عن اليونان وزادوا عليها؛ وفي الشرق اهتم لها الصينيون واليابانيون وبرعوا فيها واخترعوا آلات كثيرة من ذوات الأوتار، وظهر منهم من انت الموسيقى الأوروبية، هذا في الشرق الأقصى، أما الفرس فاحتقروها في بادئ الأمر وترفع أعيانهم عن تعاطيها، ولكن لم يلبث هذا الاحتقار وهذا الترفع أن حل محلها العناية والاعتبار، فألفوا أنغاماً بديعة التوقيع واخذ عنهم العرب كثيراً، يدلنا على ذلك تسمية الألحان العربية بأسماء فارسية كما أخذوا أيضاً عن البيزنطيين، وهؤلاء (البيزنطيون) وأهل فارس بدورهم أخذوا عن الموسيقى العربية. ولم يكتف العرب بذلك بل ترجموا كتب الموسيقى لليونان والهند ودرسوها، وبعد أن نقحوها هي وغيرها زادوا عليها، فألفوا في ذلك المؤلفات القيمة، وجمعوا بين ألحانهم والحان اليونان والفرس والهنود، واستنبطوا ألحاناً جديدة لم تكن معروفة فضلا عما اخترعوه من الآلات. ولا يظنن القارئ أن في وسعي أن اسرد تفصيلا تاريخ الموسيقى العربية والأدوار التي مرت عليها فهذا ما لا طاقة لي به، وسأعمل جهدي في هذا المقال أن أعطي فكرة بسيطة عن الموسيقى العربية من حيث قواعد أنغامها وترتيب ألحانها ومن حيث وزنها الموسيقي وآلاتها القديمة والكتب المؤلفة فيها. . .
الأنغام والألحان والوزن الموسيقي
إن كلمة موسيقى مأخوذة عن اليونانية، ومعناها تأليف الألحان، والموسيقى (علم يعلم به النغم والإيقاع وأحوالها وكيفية تأليف اللحون وإيجاد الآلات الموسيقية)
إن الأصوات الموسيقية درجات أو أبراج متتابعة، الواحدة فوق الأخرى إلى عدد غير متناه، والأبراج الأصلية عند العرب تبتدئ بالياكاه، فعشيران، فعراق، فرست، فدوكاه، فسيكار، فجهاركاه، ويقال لها ديوان، وفوق هذا الديوان ديوان آخر له أبراج النوى؛ فالحسيني، فالاوج، فالماهور، فالمحير، فالبزرق، فالماهوران، وما ارتفع عن ذلك فهو جواب لما يقابله في الديوان الذي تحته وهكذا. وبين هذه الأبراج فسحات يختلف بعضها عن بعض في الكبر؛ وقد قسمها العرب إلى كبيرة، وتتألف من أربعة أرباع، وصغيرة مؤلفة من ثلاثة أرباع، ويحتوي الديوان على أربعة وعشرين ربعاً، وتختلف الألحان، العربية واختلافها يرجع لأسباب، منها طبقة النغم واختلاف الإيقاع وتعويض الأبراج وتضعيف الألحان، وبعض هذه يحتاج إلى قليل من الشرح، فطبقة النغم هي الانتقال في سلم برج من الأبراج صعوداً ونزولا مع حفظ المساحات التي يتغير النغم بتغيرها، وتعويض الأبراج هي تعويض بالأبراج بارباع، وتضعيف الألحان هو الإيقاع على برج يكون جواباً لما تحته، والصعود والنزول على سلمه بحيث يبقى الجواب طبقة للنغم، ولهذا يتضاعف الصوت. وكان للعرب عشرة أنغام يبتدئ كل منها على برج من أبراج الديوان فتفرع منه أنغام فرعية، هذا من جهة الأنغام والالحان، وأما من جهة الوزن الموسيقي فاكتفي بالقطعة الآتية، وقد أخذتها من المجلد التاسع عشر من مجلة المقتطف. (الوزن الموسيقي هو مجموع ضربات منفصلات بعضها عن بعض بأوقات محدودة في القياس، وطبقا للنسبة والمكان فيمكن الإنسان أن يوقع مقطعين بسيطين بضربتين فقط، لكن الوقت يختلف بين أجزائها فمرادفة المقاطع تكون إما متساوية أو غير متساوية، فالمتساوية هي مراجعة الضربات بطريقة لا نشعر بها مراجعة الأوتار بشرط أن يطول الوقت عند نهاية كل مجموع من الضربات أكثر من غيره، فلو حدث اختلاف بين المجموعات ولو بضربة واحدة شذ القياس وفسدت المساواة، ومجموع الضربات المتساوية الأوقات يسمى الوزن المجموع، وغير المتساوية المقسوم. وإذا قصر الوقت بين الضربات المتساوية حتى لا يمكن قسمتها بعد ذلك يسميها الفارابي (الهزج السريع)، وإذا تضاعف الوقت بين الضربات يسميه (الهزج الخفيف)، أو كانثلاثة أضعاف (فالهزج الثقيل الخفيف) وهو يقابل الوتد المجموع، أو أربعة أضعاف، (فالهزج الثقيل) وما زاد على ذلك من الأوقات فنضع له الأسماء التي نختارها بشرط أن تختص بالوزن المجموع. وهذا كله يقابل تقسيم الأوقات في الموسيقى الإفرنجية. . .)
العرب عمليون
وقد طبق العرب مبادئ علم الطبيعة على الموسيقى، وكانوا دائماً في نظرياتهم الموسيقية عمليين، فلا يقبلون نظرية إلا بعد التثبت منها عملياً، ويعترف فارمر أن علماء العرب لم يأخذوا بآراء الذين سبقوهم (حتى ولو كان نجم السابقين مضيئاً وعالياً) إلا بعد أن يتثبتوا منها عملياً، والمعترف به عند علماء الفرنجة أن ابن سينا والفارابي وغيرهما من علماء المسلمين زادوا على الموسيقى اليونانية وادخلوا عليها تحسينات جمة، وان كتاب الفارابي لا يقل عن (إن لم يفق)، الكتب اليونانية الموسيقية. وثبت أن العرب أجادوا في بحوث التموجات الكرية للصوت. وفوق ذلك فقد زاد زرياب، وتراً خامساً بالأندلس وكان للعود أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع فزاد عليها وتراً خامساً أحمر متوسطا، ولون الأوتار وطبقها على الطبائع وهو الذي اخترع مصراب العود من قوادم النسر فكانوا قبله يضربون بالخشب.
الآلات الموسيقية
لا نستطيع أن نسرد كل الآلات الموسيقية التي كانت معروفة عند العرب، ولهذا نذكر أهمها، ولكن قبل ذلك نود أن نلفت النظر إلى أن العرب اعتنوا بصناعة آلات الموسيقى، وكانوا ينظرون لهذه الصناعة نظرهم إلى الفن الجميل، وقد كتبت عدة رسائل في ذلك واشتهرت مدينة أشبيلية بها. وقد جمع المسلمون آلات غناء كثير من الأمم كالفرس والأنباط والروم والهند واستخرجوا من ذلك آلات تلائم أذواقهم وميولهم، أضف إلى ذلك ما أضافوه واخترعوه من شتى الآلات، فمن الآلات التي كانت معروفة عندهم: الارغانون، والبزق، والطبلة، والدف، والشلياق، والقيثارة، والطنبور والعنق والرباب والمعزفة والشهروذ (وقد اخترع الأخيرة حكيم بن أحوص السفدي ببغداد) والعود، وله خمسة أوتار أعلاها البم والثاني المثلث والثالث المثنى والرابع الزير والخامس الحد، وتترتب هذه الأوتار بصورة مخصوصة بحيث يعادل كل وتر ثلاثة أرباع ما فوقه، والمسافة التي بينهما تعدل ربعاً، ويقال أن الفارابي اخترع الآلة المعروفة بالقانون، فهو أول من ركبها هذا التركيب، ولا تزال عليه إلى الآن، وهو الذي اصطنع آلة مؤلفة من عيدان يركبها ويضرب عليها وتختلف أنغامها باختلاف تركيبها، يحكى انه كان مرة في مجلس سيف الدولة فسأله هل تحسن صنعة الغناء؟ فقال نعم (ثم اخرج من وسطه خريطة ففتحها واخرج منها عيداناً وركبها ثم لعب بها فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر ثم ضرب عليها فبكى كل من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وضرب عليها ضرباً آخر فنام كل من كان في المجلس حتى البواب فتركهم نياماً وخرج. . .). واصطنع الزلام آلة موسيقية من الخشب تعرف بالناي أو المزمر الزلامي، وأدخل زلزل عود الشبوط كما ادخل الحكم الثاني تحسيناً على تركيب البوق
كتب العرب في الموسيقى للعرب مؤلفات قيمة في الموسيقى بلغ بعضها الذروة، وكانت (ولا تزال) من المصادر المعتبرة جدا في تاريخ الموسيقى وتطورها، وقد يكون كتاب مروج الذهب للسعودي وكتاب الأغاني للأصفهاني من أكثر الكتب بحثا وكتابة في اشتغال المسلمين والعرب في الموسيقى، وفي أشهر موسيقييهم وما يتصل بهؤلاء من طريف الحوادث ولذيذ الأخبار. ويرجع أن الكندي أول من كتب في نظرية الموسيقى، وكتبه فيها هي: الرسالة الكبرى في التأليف، كتاب ترتيب الأنغام، كتاب المدخل إلى الموسيقى، رسالة في الإيقاع، رسالة في الأخبار عن صناعة الموسيقى. وكتب في ذلك أيضاً منصور ابن طلحة بن ظاهر والرازي وقسطا بن لوقا البعلبكي والسرخسي، وللأخير كتاب الموسيقى الكبير، وكتاب الموسيقى الصغير، وكتاب المدخل إلى علم الموسيقى، وللفارابي كتاب الإيقاعات، وكتاب أخر اسمه كتاب الموسيقى، وهو من أشهر الكتب، ويقول عنه سارطون (إنه أهم كتاب ظهر في الشرق يبحث في نظرية الموسيقى) ولثابت بن قرة رسالة في فن النغم، ولأبي الوفاء مختصر في فن الإيقاع، وأبدع ابن سيناء في الكتابة عن الموسيقى وله فيها مؤلفات منها: الفن الثامن من كتاب الشفاء وهو الموسيقى، وفيه ست مقالات ولكل منها فصول، والفن الثالث من الجملة الثالثة من كتاب الشفاء، وكتاب الموسيقى. وهذا الكتاب يدور على مواضيع الأصوات والأبعاد والأجناس والجموع والإيقاع والانتقال والصنج والشاهرورد والطنبور والمزمار ودسانين البربط وتأليف الألحان. وللشيخ شمس الدين الصيداوي كتاب في الموسيقى تستخرج منه الأنغام، اكثره شعر، وفيه كلام على بحور الشعر والأوزان ودوائر البحور، ولصفي الدين عبد المؤمن البغدادي كتاب الرسالة الشرفية في النسب والتأليفية، وهو مقسوم إلى مقالات وفصول. ولصفي الدين الأموي كتاب الأدوار في الموسيقى وينقسم إلى خمسة عشر فصلا، وفيه صورة عود وصورة آلة قائمة الزويا تسمى نزهة، واشتهر هذا الكتاب كثيراً وبقى قروناً كثيرة المعين الذي استقى منه المؤلفون في الموسيقى. ولمحمد بن محمد بن احمد الذهبي الجزيري ابن الصباح شرح على كتاب في علم الموسيقى ومعرفة الأنغام، وكذلك لأبن زيلا وابن الهيثم وأبي الصلت أمية، والنقاش والباهلي وأبي المجد وعلم الدين قيصر ونصير الدين الطوسي مؤلفات قيمة، بعضها عديم المثال. وظهر في الأندلس عدد لا يستهان به ممن كتبوا في الموسيقى وأجادوا في ذلك إجادة أوصلت هذا الفن إلى درجة عالية، فمن الذين اشتغلوا وكتبوا فيها: ابن فرناس والمجريطي والكرماني وأبو الفضل ومحمد بن الحداد وابن رشد وابن السبعين والرقواطي وغيرهم، وأنشأ صفي الدين عبد المؤمن الأموي مدرسة لتعليم الموسيقى وتخرج منها عدد غير قليل من العلماء الذين استطاعوا أن يتقدموا خطوات بعلم الموسيقى، اشتهر منهم شمس الدين بن مرحوم ومحمد بن عيسى ابن كرا، وهناك كتب عديدة لم يذكر فيها اسم مؤلفيها ككتاب الميزان وعلم الأدوار والأوزان وهو مبني على كتاب الأدوار المار ذكره ومقسوم إلى ستة أبواب في ماهية الموسيقى وماهية النغم المطلق والأوتار والمواجب ومعرفة الشدود والأوزان وأسماء الدساتين والإيقاع. وفي كتاب رسائل إخوان الصفا بحث في الموسيقى موجود في الرسالة الخامسة من القسم الرياضي، وهذه الرسالة مقسمة إلى أربعة عشر باباً وهي تبدأ بصفحة 132 وتنتهي بصفحة 180، ومن يرغب في الاطلاع على ما كتب في كل باب فليرجع إلى الكتاب المذكور ففيه تفصيل وكفاية، وإذا أردنا أن نعدد الذين نبغوا في فن الموسيقى وكتبوا فيه حتى القرن الرابع عشر للميلاد يطول بنا المطال وقد يخرج مقالنا هذا عن القصد.
نابلس
قدري حافظ طوقان