مجلة الرسالة/العدد 42/العام الهجري
مجلة الرسالة/العدد 42/العام الهجري
1353
منذ أسبوع قلب الدهر المسجل صفحة ثلاث وخمسين وثلثمائة وألف من تاريخنا المجيد المشرق. قلبها هذه المرة وهو حافل حاشد يرصد فلك الإسلام، ويرقب حركة العرب، ويجمع الأُهبة لتسجيل ما يتوقع من أحداث الأمة المبعوثة، والبطولة الموروثة، والعروبة الناهضة!
وكان منذ تفجرت في وجوهنا الأهوال، واغبرت في عيوننا الآمال، وأخلد إلى الجِمام سلطاننا الجاهد، يقلب الصفحة بعد الصفحة، فلا يجد ما يسجل غير أنَّات العاني، ونشجات الباكي، وخلجات الجناح المهيض، حتى أوشكت حياتنا الخالفة أن تكون لَحّقا من البؤس والهُون لكتاب آبائنا الجليل المحكم! ولكن الأمة العربية التي تمتد جذورها في أعماق الأزل لابد من ربيعها وإن طال الخريف!
فالحياة المتجمعة في الأصل الثابت أخذت تشيع في الجذع وتنتشر في الفروع، والظلال الحاسرة في العهد الجديب جعلت تمتد إلى القفر وتنبسط في الربوع، وأشبال الفاتحين الذين غيروا وجه الأرض، وحرروا موازين العدل، قد هبوا ينفضون عن المعدن الكريم غبار الزمن، ويمسحون عن الجوهر الحر عبث العوادي، ويعودون إلى مكانهم من رأس القيادة وصدر العالم!
ففي مصر تضطرب الحياة الجديدة في البراعم النابتة، وتضطرب نوازي الكمال في النفوس الهامدة، ويفيض نبل الإحساس في صدور الناس فيكفكفه وا أسفاه طغيان الغاضب، وتكدره وا حسرتاه بقايا العهد الذليل!
وفي فلسطين تدافع العروبة جراد أوربا المحاق، وتصارع الاستعمار المسلح الخاتل، وتطلب عز الحياة بعز الممات وشرف التضحية.
وفي سورية يقظة عاملة فطنة، تداور خصمها بالصبر، وتواثب جشعه بالحزام، وتقابل نفعه بالجذر، وتصارح هوجه بالنخوة. وتتجهز للمستقبل الباسم القريب بجهازه
وفي العراق (أمة تنشئ الحياة، وتبني الملك، وتلحق الزمن) وتصل ما انقطع بين ماضٍ ضخم وحاضرٍ نزوع، وتنبض بالحيوية العربية المتجددة نبضان القلب الفتي الطموح وفي الجزيرة موطن الأسرار ومهبط الوحي ومشرق الدين ومنبت العبقرية تخطر العروبة في مطارف العز بين سرير الإمام وعرش المَلِك! وإذا نزت بين الأخوين نوازي الخلاف فذلك حفاظ ينتهي إلى السلم، تعود إلى السلامه، وإن في إصاختهما إلى دعوة الداعين إلى الصلح في أقطار العرب لدليلا على اتجاه الميول إلى الوحدة، وإصغاء القلب إلى الجماعة وفي الجزائر ومراكش قلوب تذوب من حرارة الظلم، ورءوس تدور من خَدَر السياسة، وشهداء في سبيل الوطن والدين يخطون لأبنائهم بدمائهم وصية المستقبل! وسائر المسلمين في تركية وإيران وأفغانستان والهند والصين وأندوسيا وروسيا ويوغوسلافيا يشعرون بالتطور الجديد، وينظرون إلى الأفق، ويتمنون أن يعود الإسلام كما بدأ مرفوع الراية، مجموع الرأي، مسموع الكلمة! والأمر في الجملة يدل على نور ينبثق من جديد في أمة محمد، وروح ينبعث في مملكة الرشيد، وشعور يتألف من هذه الروح وذلك النور فيجمع قلوب الاخوة المتفرقين على هوى واحد!
حسبُنا مطلع العام الهجري موقظا للشعور وحافز للهمم وهادياً إلى شرف الغاية. يستقبله المسلم الذاكر فتعاوده ذكريان تجددان دينه وتثبتان يقينه وتقومان خلقة: ذكرى هجرة الرسول في سبيل الدين، وذكرى مقتل الحسين في سبيل الحق! فأما هجرة الرسول فقصيدة من قصائد البطولة القدسية لا يفتر عن إنشادها الدهر! استمدت وعيها من روح الله، ونسجها من خلق الرسول، وسيرها من صدق العرب! واستقرت في مجامع الأجيال مثلا مضروبا لقواد الإنسانية، يلهمهم الصبر على مكاره الرأي، والاستمساك في مزالق الفتنه، والاستبسال في مواقف المحنة، والاستشهاد في سبيل المبداء، والاعتقاد الصادق بفوز الفكرة
بلَّغ الرسول ما أنزل إليه من ربه وقد تألبت عليه جهالة العصبية، وحماقة الشرك، وسفاهة الحسد، وعداوة المنافسة، وحرمان الفقر، وخذلان القلة، فما استكان ولا وهن؛ ثم نبْت ففار مكة على الغراس الإلهي فهاجر به تحت عين الله إلى طيبة!
وهنالك؛ الصبر والصدق والأيمان والرجولة، أثمر غرس الدعوة، وتم نور الله، وأصبحت القلة ملة، وصارت كل قرية من القرى الثلاث قارَّة
وأما مقتل الحسين فلا يزال صكاً دامياً في سجل التأريخ، يثبت أن العربي الحر لا تلهية عن نداء الواجب زهرة الحياة، ولا ترده عن طلب الحق كشرة الموت.
فإذا انتفع العرب والمسلمون بهاتين الذكريين، وجعلوهما كما هما في رأس العام رمزين على الجهاد الواصب في سبيل العقيدة، والاستشهاد المروع في سبيل الحق، عاد أمرهم يجري مع الشمس، ويسري مع الروج؟ ويتغلب أخيراً مع الحق!
احمد حسن الزيات