مجلة الرسالة/العدد 419/للحق والتاريخ
مجلة الرسالة/العدد 419/للحق والتاريخ
2 - عبد القادر حمزة باشا
وما ذكره عنه الذاكرون في حفلة التأبين
((قومية) بحثه وراء (الحقيقة) في التاريخ المصري القديم. .)
للأستاذ محمد السوادي
احتفل أهل الرأي وذوو المكانة وأبناء الفكر في عاصمة مصر بتأبين الفقيد من أيام، فرددت جنبات القاعة الثقافية التذكارية في الجامعة الأمريكية مواهب الراحل ومناقبه، جرت نثراُ على ألسنة هيكل ومنصور فهمي وأباظة وآخرين، وجرت شعراً على ألسنة العقاد ومطران ومحرم وآخرين
ومن الرابع عشر من هذا الشهر تحتفل أسرة الفقيد بإحياء ليلة الأربعين، فيذكر الذاكرون أن أربعين يوماً مرت على آخر عهد لمصر بابنها (الممتاز) الذي وقف عليها ما أوتي من جهود، وسخر في سبيلها ما آتاه الله من فضل وفن ومميزات رقت به إلى مستوى فريد ومقام ملحوظ وأحب بدوري أن أختار هاتين الملائمتين - التأبين والأربعين - لأثير ناحية من أدب الفقيد تمشي وما ذكره الذاكرون من الشعراء والناثرين، فقد ذكروا الخدمات التي أداها عبد القادر حمزة التي أحبها فعاش لها، مصر الحديثة في جهاده السياسي والصحفي والأدبي، ومصر القديمة التي بعثها بعثاً رائعاً في كتابه (على هامش التاريخ المصري القديم). هذه الناحية التي احب اليوم أن أغزوها أو أجلوها هي (قومية البحث عند عبد القادر حمزة وراء الحقيقة في التاريخ المصري القديم)
وأحب أيضاً أن أسجل أسفي على فقر مصر الحديثة من ناحية المؤسسات العلمية التي تفزع إليها الأمم النهضة لقدر القيم العلمية لجهود الأفراد قدرها الحق؛ ولو أن مصر كانت مثرية في هذه الناحية ثراء الأمريكيين والأوربيين، لهبت هذه المؤسسات إثر وفاة العظيم تتناول مخلفاته بالبحث ولرأينا الجمعيات التاريخية تتوفر على الجانب التاريخي منها فتجلوه. المحاضرون من أعضاء المؤسسة بمحاضراتهم، والباحثون بالكتب التي يصدرونها بسطاً لهذه الجهود وتأييداً أو تفنيداً، أما وقصارى جهدنا أن يجتمع بعض الناهضين - واجتماعهم مشكور لهم ومحمود - لتأبين العظيم الراحل، فقصور من ناحية النهضة العلمية خاصة والفكرية عامة يثير الأسف، ويبيح للناقد أن يلقي المسؤولية على الدولة ورجال الفكر أنفسهم
وهذه الناحية التي وقع عليها اختياري لتكون موضوع مقالي، هي الناحية التي كنت أود لو كانت من نصيب أساتذة النقد والتاريخ في إحدى المؤسسات العلمية، لأنها ناحية لها من الجلال والقيم ما ينوء به كاهلي وتنوء به جهودي
ولكني سأحاول:
و (القومية) في البحث، نقص من ناحية وكمال من ناحية: نقص من ناحية (الحقيقة) العلمية والتاريخية، لأنها - أي القومية - لون من ألوان التعصب يجافي أهداف الباحث وراء (الحقيقة) في ذاتها ولذاتها، وكمال من ناحية (الوطنية) التي تطالبنا بتغليب الصالح الوطني في الغاية والشعور العاطفي في التحليل على إدراك هذه الغاية
وإذن (القومية) ليست لها قيمة ثابتة، وإنما تختلف قيمتها باختلاف وجهة النظر إليها
و (الحقيقة) نفسها لها ميزاتها ولها مساوئها، أما الميزات تنحصر في القداسة التي تحوط الباحث، وفي الجمال الذي يحيط اللثام عنه يوم يدرك هذه (الحقيقة)، وفي الجلال الذي يشعر به يوم يرى نفسه وقد تجرد من كل تأثر شخصي أو عائلي أو قومي فأخذ مكانه فوق المستوى العادي وتطلعت الإنسانية المشوقة إلى الحقائق إلى حيث يقيم هذا الباحث داخل برجه العاجي. وأما مساوئ هذه الحقيقة فتنحصر في مرارتها وأثر هذه المرارة في الجماعة التي ينتمي إليها الباحث، وضرر هذه المرارة بالوطن أو بالأفراد أو الباحث نفسه. وحسبك أن تتصور نفسك الآن وقد جابهت أمتك حكومة وشعباً بالحقائق العارية فنشرت كتاباً ضمنته نقائصهم أفراداً وجماعة كما تعرفها أنت وكما أعرفها أنا، ثم تتصور نفسك وقد استاقك الجند إلى المحقق وزج بك المحقق في السجن، واستنكر تصرفك الرأي العام، واتهمك بالمروق من دين الوطنية كل وطني
من هذا ترى أن (القومية) نقص من بعض النواحي، و (الحقيقة) نفسها مريرة ولا أقول (نقص) من بعض النواحي، فإذا وجد الرجل إلي يجد في البحث وراء (الحقيقة) خالصة ليربح جلالها وليبرز جمالها وليساهم بهذا الجهد في الترقي الإنساني، ثم استطاع هذا الرجل أن يخرج بنتيجة (نظيفة سليمة) من الناحية العلمية ومؤدية إلى خدمة بلاده، ثم تبين أن (القومية) هي التي دفعت به من البداية إلى هذا ابحث الذي التزم فيه جادة الحق وصادق النهج، فمن حقه على بلاده أولاً وعلى الإنسانية ثانياً أن يأخذ مكانه بين الخالدين
وأنا مؤمن بأن عبد القادر حمزة كان (هذا الرجل). . . في كتابه الأخير
ويحضرني الآن لإيضاح الفكرة مثل أضربه لها من (القومية) في (الفلسفة الوطنية الاشتراكية) في (ألمانيا النازية) فقد وضع (روزنبرج) وغيره من فلاسفة العنصرية الآرية مجلدات ضخمة سخروا فيها العلم لإثبات أن الجنس الآري سيد هذه الدنيا، وأعداد (الرسالة) الفائتة تتضمن بحوثاً طلية في فلسفة هذه (الوطنية الاشتراكية) وكلها توهم بأن أصحابها إنما يبحثون وراء (الحقيقة) فهل يمكن القول بأن هذه البحوث من النوع الذي نعنيه بـ (قومية البحث وراء الحقيقة)؟
كلا. . . إنما حشد هؤلاء الفلاسفة (معلوماتهم) وجندوا (مواهبهم) لإخفاء وجه (الحقيقة) لا لاجتلائه، ولتسخير هذه (المواهب والمعلومات) في إلباس الباطل ثوب الحق، وفي استخدام الحد الثاني من سلاح المنطق، وفي ارتداء أزياء الفلاسفة وهم في حقيقتهم دعاة سياسيون، ولتضليل (الفكر) بإقناع (المفكرين) بصواب ما تذهب إليه (العنصرية الآرية)
هؤلاء هم أعداء (الحقيقة) وأعداء المعنى الذي نعنيه ونحن نقصد إلى أصدقاء (الحقيقة) ونرمي إلى التدليل على أن (عبد القادر حمزة) المصري أحد هؤلاء الأصدقاء
نريد أن ندلل الآن على ثلاثة أمور:
أولها: أن عبد القادر حمزة إنما أتجه إلى دراسة (التاريخ المصري القديم) بحثاً وراء (الحقيقة) في ذاتها ولذاتها كما اتجه (أبناء هذه الحقيقة) في مختلف العصور
ثانيهما: إن هذه الدراسة ملأنه - كمصري - زهوا بمصريته فكان هذا الشعور منه إيذاناً بالقومية التي حالفته في بحثه
ثالثها: أن عبد القادر حمزة (مؤلف كتاب على هامش التاريخ المصري القديم) قرن بين الحقيقة والقومية فجمع بينهما جمعاً عادلاً ولم يغلب القومية على الحقيقة وإنما وجد في إبراز هذه الحقيقة إثباتاً لهذه القومية ففعل
هذه هي الأمور الثلاثة التي أريد أن ادلل على صحتها لأخرج منها بنتيجة تعزز موضوع هذا البحث
ولأعد بالقاري إلى الكلمة التي قدم بها الفقيد للجزء الأول من كتابه لنستمع إليه وهو يقص علينا بداية شغفه بدراسة التاريخ المصري القديم فنرى أنه زار الأقصر في سنة 1924 ليشاهد قبر الملك (توت عنخ آمون) فزار قبور وادي الملوك والملكات والدير البحري ومعبد الكرنك ووقع في يده كتاب (طيبه للأستاذ كابار مدير معهد الآثار المصرية في بروكسل فقرأه فخيل إليه أن الآثار التي مر بها مرور الطير أخذت تتجسم وأن الحياة أخذت تدب فيها فحفزها إلى زيارة الأقصر مرة أخرى زيارة مشوق إلى الحقيقة وأصبح (يهمه أن يدرس ما فيها من الآثار وعدت من هذه الزيارة وقد ازددت شغفاً بمصر القديمة فأحسست رغبة قوية في زيارة المتحف المصري، مع أنني كنت قد زرته من قبل مرتين فجعلت أزوره من جديد زيارات كان لها في نفسي معنى جديد)
هكذا كانت البداية، بداية رجل شغفته آثار مصر القديمة حباً فرغب في دراستها، والبحث عن وجه (الحقيقة) فيها فمتى إذن انتقل به البحث إلى (القومية)، أو متى تسلطت على دراساته (قومية البحث)؟
يجيبك هو على هذا السؤال فيقول:
(وتكررت زيارتي للآثار وانكببت على المؤلفات التي وصفها علماء المصرولوجيا، فكنت كلما أوغلت فيها شعرت كأن مصر تكبر في عيني وكأني بذلك زهواً)
من هنا بدأت بذور القومية تنمو في نفس الرجل، ولكن هذا النمو في (البذور) يحتاج إلى كثير من (الماء) و (السماد) ليستقيم العمود ويبسق فارعاً في الفضاء. . . فما كان ماؤه وما كان سماده؟ كان لابد للرجل من (الغضب) ليكون (تعصب) ولتكون (حماسة) وليكون (إصرار) على إبراز فضائل مصر. . . وقد (غضب) الرجل الذي لا يغضب غضباً ظاهراً، واستبنا منه هذا الغضب من خلال قوله:
(وأخذتني الدهشة من أننا ونحن أبناء مصر هذه لا نعرف عنها هذا الذي يعرفه الأجانب، ولا نعجب بها هذا الإعجاب الذي يبذله لها الأجانب، ولا نغرم بمجدها وتقصى خفاياه هذا الإغرام الذي يقبل عليه ويرتاح له الأجانب)
من العبارات السابقة وضحت القومية؛ ولكن العبارة الأخيرة توضح حالة الاقتران بين (القومية) و (الحقيقة) أو مطالع هذا الاقتران، لأنه لم يقل أنه عجب - أو غضب - فحسب، ولكنه اعتزم البحث وراء هذا المجد و (تقصى خفاياه) والتقصي - علمياً - هو لباب البحث وراء (الحقيقة)
وبدأ الرجال يقرأ مختلف المؤلفات مرات ومرات، فكان يفهم في المرة الثانية ما يبهم عليه في الأولى، وينفذ في الثالثة إلى ما يغيب عنه في الثانية. وانقضت سنوات حتى اختمرت الدراسات في ذهن هذا (الباحث المنطقي المرتب)، وبدأت (النتائج) تطل من (المقدمات) على الصور الني انحاز بها ذهنه في استخلاص الحقائق. . . هذه الصور التي رددتها إلى عناصرها في بحث لي نشرته (الثقافة) الغراء
وبدأ الرجل تجربته الأولى بنشر فصول في (البلاغ) في سنة 1934، وتجربته الثانية بنشر فصول أخرى في سنة 1938 وأخيراً رأى أن يخرج كتابه الأخير
وهو لم يقل أنه أدى لتاريخ مصر القديم كل حقه، بل اعترف بأن هذا التاريخ بحر خضم ولم يسعه هذا الوصف إنشاء أو إسرافاً في الإنشاء كم ألفنا نحن الكتاب، بل عقب على الوصف بما يثبته فقال: (لأنه تاريخ أربعة آلاف سنة أو أكثر فليس يوفي حقه في كتاب ولا في كتب، وقد كتب فيه العلماء الأجانب بعد كشف اللغة المصرية في سنة 1822 م مئات من الكتب، وهم إلى اليوم كلما كتب واحد منهم وجد جديداً، وكلما ضربت فأسه في أديم مصر خرجت بجديد، فلا مناص من أن أكتفي في كتابي هذا بأطراف، وإذا أراد الله فسأتبع هذه الأطراف بأطراف وأطراف). ولكن الله لم يرد، فلا حول ولا قوة إلا بالله
وأدع الآن مهمة (التطبيق) إلى المقال الآتي إن شاء الله وأختم مقال اليوم بكلمة تثبت لك دافع الفقيد إلى الأخذ بالقومية في البحث بعد أن دفعته الآثار عن الحقيقة فيها
لاحظ الفقيد حقائق مريرة حفزته إلى البحث وراء الحقيقة أولاً وحملته على أن يقرن بينها وبين القومية أخيراً. . . ومن هذه الحقائق ما يأتي:
أولاً: لاحظ أن جميع المصريين يجهلون تاريخهم مع الأسف
ثانياً: أنهم لم يقرءوا منه وقت تحصيلهم العلم غير أشياء ضئيلة مبهمة
ثالثاً: أنهم لا يجدون بعد وقت التحصيل مؤلفات عربية في هذا التاريخ تجذبهم إليه
رابعاً: إنهم يعرفون عن اليابان في آسيا وكندا في أمريكا وعن إنجلترا أو عن فرنسا في ماضيها وحاضرها أكثر ما يعرفونه عن مصر (وبهذا تنقطع الصلة بين مصر القديمة ومصر الحديثة ويمتنع علينا أن نأخذ من أمسنا ليومنا وغدنا والإنسان الذي يعيش مقطوع الصلة بأمسه كالنبات ينمو ثم يموت، وكأنه لم يوجد)
خامساً: إن الناشئ في إنجلترا أو فرنسا أو في ألمانيا (ينشأ وتاريخ بلاده يسايره في كل سنة من سني تعليمه فلا يكاد يغادر مقاعد الدرس حتى تكون نفسه انطبعت بطابع ما في هذا التاريخ من عظمة وجمال. ومن هذا الانطباع يتولد حب خاص للوطن وتتولد رغبة في محاكاة أبطاله وينمو تبعاً لذلك الشعور بالقومية. . . الخ)
سادساً: إن الكتاب اليونانيين والرومانيين الذين زاروا مصر وكتبوا عنها في ما بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد شحنوا كتاباتهم بأشياء لم يفهموها فألبسوها لباس الغرابة والخرافة. مثلهم في ذلك كمثل الذين يزورون مصر الآن من الأجانب فيدعون عليها دعاوي لا وجود لها، وإن هذه الكتابات التي كتبها أمثال هيكاتي دي ميل وهيرودوت وسترابون وديودور الصقلي وكليمان الإسكندري وبلوتارك، كانت المرجع الوحيد لمعرفة مصر القديمة منذ ضاع سر اللغة المصرية إلى أن كشفه شامبوليون الشاب
وضع الفقيد أمامه هذه الملحوظات الست وخرج منها بأن (الحقيقة) ضائعة فيجب إيجادها، و (القومية) ضعيفة فيجب إنماؤها، أما (الحقيقة) فهي أن مدينة مصر لم تقم كما اعتقد المؤرخون الأجانب (على أساس من الخرافات والعقائد الفاسدة) بل قامت كما دلل هو (على أساس علمي وخلقي صحيح).
وإلى اللقاء حيث ندرس معاً (بالتطبيق) الطريق التي سلكها في البحث والنتائج التي خرج بها و (النظافة) العلمية التي حالفته في أثناء هذا البحث.
محمد السوادي