مجلة الرسالة/العدد 417/جيل وجيل
مجلة الرسالة/العدد 417/جيل وجيل
للأستاذ محمود البشبيشي
- 2 -
(كان هذا المقال قد فقد بيننا وبين البريد فنشرنا الثالث قبله؛
فلما وجدناه نشرناه وسننشر المقال الرابع بعده)
التأمل فن الفنون - فلسفة التأمل - هل يكون الحب رائد
ضلال؟ - صلة الروح بين سائر الأشياء - الرذائل تضعف
التأمل، والمغالاة في الفضائل تفسده - مسلك الشكوى وبكاء
الآمال في أدب الشباب - غلبة الغزل في شعرهم وهل من
المستطاع توازنها مع سائر الأغراض؟.
. . . ومن الأفكار أفكار تنفخ في الألفاظ أرواحاً، فتخلقها آراء حية، لا تعترف بقيود الفناء، لأنها من جوهر الروح، ولا يعتريها الضعف في التعبير عن وجودها، لأن كل كلمة فيها قوة روحية، ومن هذه الأفكار والآراء ما دار بيني وبين ولدنا الأديب (حسين) في المقال السابق، حيث انتهينا إلى أن التأمل أساس الحياة تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، وإن قوة الأجيال بقوة الروح والفكر فيها، وقادنا الحديث إلى أدب الآباء وأدب الأبناء. بدأنا بشيء من الفلسفة، وخلصنا من أوعارها وأوعاثها إلى رياض الأدب، وسنبدأ اليوم كما بدأنا، وسننتهي كما انتهينا. . .!
- أنا معك يا بني في أن التأمل أساس الحياة، ولا يسعني إلا أن أدعو القوم إلى سبيله الصحيح، وأهيب بهم أن تأملوا في الحياة وأحوالها، تبسم لكم زهورها، وتتساقط تحت أقدامكم ثمراتها، وتسمعوا أنشودة السعادة والنصر في بسمة الصبح وجلوة المساء! ويحس كل فرد نعمتها فيعمل على زيادتها وتعمل هي أيضاً، لأن الحياة ككل شيء تعطي بمقدار ما تأخذ! وحقيق بالعاقل أن يتأمل مشكلاته ويقلبها على رأى يعقد عليه القلب، ويسن عليه الأمر، فلا يرمي إلا عن قوس عقيدة راسخة، والرجل الصادق في تأمله من كان الإيمان أعلق بقلبه من الشك، والطفرة آثر عنده من التردد، والحقيقة أشهى إليه من الظواهر الكواذب، والمغالبة في سبيل الحق آنس له من الاستكانة في أرض الهجود!
- هذا حق يا ولدي، فإن التأمل فن للفنون، تترعرع في ظلاله كل فنون الحياة من سرور وحزن وحب وتقدير، وهل يجيء السرور إلا بعد الشعور باللذة والنشوة التي يكتشفها الإحساس بعد قليل من التأمل في نتائج العمل الذي نشعر نحوه بالسرور؟ وفن الحزن أيضاً. فنحن لا نشعر بالحزن والألم من شيء إلا بعد التأمل في مداه وسبر غوره وما يخلفه من أثر، ثم ما هو أكثر من ذلك. فنحن قد نستمر في الحزن ونسايره ولو ذهب المؤثر، لأننا نتأمل ونطيل التأمل؛ وفن التقدير والاعتراف بالفضل، لا شك أن التأمل أساسهما إذ كيف نحكم على شيء بالجودة إذا لم نتأمله! وفن الحب، وهل هناك حب لم يلهبه التأمل؟ إن الإنسان في حبه يتأمل بكل حواسه، بعينه وشعوره وقلبه
- قد بينت يا بني خطر التأمل، فهل نسيت أن التأمل كأساس للحياة بتأثر بالميول والعواطف كالحب والكراهية والطمع والغيرة، تلك العواطف العمياء الضاربة في الضلال
- ماذا أسمع؟ كيف يكون الحب رائد ضلال؟ كيف يكون أيها الوالد الكريم، وهو العاطفة الروحية السماوية التي تربط الإنسان بخالقه، والتي تولد مع الوليد فيميل إلى والده وأقاربه بطبيعة الحب الروحي فيه، والتي نلمسها في الحيوان قوية واضحة، وهو الذي لا يدرك ولا يفكر تفكيراً يصح أن ينطبق عليه حقيقة التفكير بكل معانيه. وكيف تكون الروح عمياء! إننا إذا نظرنا إلى حيوانين من فصيلتين مختلفتين، ورأينا
كان على يوسف يدعو لرأي سياسي؛ وكذلك كان عبد القادر حمزة، فعمدا كلاهما إلى أن يصلا إلى قلوب الجماهير في يُسر لا تكلف فيه، فتوخيا سهولة العبارة، وجانبا النابي من الألفاظ، والمستصعب من التراكيب، كما جانبا الزخرف والتعمل والتفصح، فجاء الأسلوبان من السهل الممتنع حقاً.
على أن الرجلين نبتا في عصرين مختلفين كل الاختلاف: فلم تكن الكتابة - كما أشرنا آنفاً - قد نهضت بعد في عصر علي يوسف، بل كانت تحبو إلى النهوض. فليس غريباً إذاً ألا تخلو مقالاته - على ما فيها من حياة وقوة - من زلاًت لغوية وتركيبية، وأن يتداخلها أحياناً شيء من ضعف التأليف، نلحظه دائماً في كتابات ذلك العصر.
ولا كذلك عبد القادر حمزة: فقد نشأ في بيئة غير تلك، وعصر نُبهت فيه العربية، ونضجت الأقلام، حتى إن مصر لتُباهي فيه بكتاب هم بلا شك من مفاخر العربية.
هذه إلمامة عامة مجملة. وتفصيلها يقتضي بحثاً طويلاً، ودراسة مسهبة لهؤلاء الرجال وأزمانهم وثقافتهم، ثم كتاباتهم، وكيف كانت أولاً، وكيف تطورت، وعوامل كل أولئك ونتاجه. ولا شك أن تاريخ الأدب الحديث سيقول في ذلك كله قوله الفصل.
(ا. ع)
إلى الأستاذ محمود شلتوت
ورد في مقالكم القيم (الإسلام والعلاقات الدولية) العدد 415 من الرسالة الغراء عن أسرى الحرب في الإسلام ما يلي: وخير الإمام بين إطلاقهم من غير مقابل وفدائهم على حسب ما يرى من المصلحة. وقد منَّ ﷺ وفادى بالمال وبتعليم الأسارى أبناء المسلمين الكتابة. أما استرقاقه ﷺ أو إباحته للاسترقاق فقد كان مجاراة لحالة اجتماعية سائدة في الأمم إذ ذاك ولم يكن على وجه التشريع العام، وإنما التشريع العام في ذلك قوله تعالى: (فإما مَنَّا بعد وإما فداء)
فهل لنا يا سيدي الأستاذ أن نفهم من ذلك أن الرق في الإسلام من قبيل الأحكام التي تزول بزوال أسبابها ومقتضياتها كتركه ﷺ صلاة التراويح بالناس معللاً هذا الترك بقوله: إني خشيت أن تفرض عليكم. حتى إذا ما أكملت الشريعة وفصلت الأحكام وانتقل النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى وزالت خشية فرضيتها جمع عمر بن الخطاب الناس عليها وقال: نعم البدعة هذه؟
وكذلك ما ذهب إليه كثير من فقهاء السلف والخلف من إسقاط المؤلفة قلوبهم من سهم الزكاة مع أن الآية بظاهرها قد جعلت لهم نصيباً مفروضاً منها؛ قال تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) الآية 60 من سورة التوبة، وقالوا إن إعطاءهم هذا السهم إنما كان في عهد رسول الله ﷺ والإسلام إذ ذاك في قلة وضعف. وقد زال ذلك بظهور الإسلام وإعزازه واستغنائه عن تأليف القلوب لدخولها فيه أو كف أذيتها عنه. ولهذا فإن الخلفاء الراشدين لم يعطوهم شيئاً. وقال عمر إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وقد اشتد في رده للأقرع ابن حابس المجاشي وعيينة بن حصن الفزازي في خلافة الصديق رضي الله عنه وقال لهما: اذهبا واجهدا جهدكما، لأرعى الله لكما إن رعيتما. لقد تألفكما رسول الله والإسلام قليل
وقد تغيرت اليوم الأوضاع الاجتماعية للأمم وأصبح الرق السائد في الأمس يكاد أن يتواضع الناس اليوم على أنه إضرار وجريرة كبرى. فهل لنا يا سيدي الأستاذ في مجاراة هذه الحالة السائدة اليوم أن نمنع الرق في الشريعة الإسلامية كما منعنا سهم المؤلفة لزوال المقتضيات والأسباب؟
وتقبلوا فائق التحية والاحترام
محمد كامل الحمامي
نزيل القاهرة
تصحيح مثل
قرأ البلاغيون في بعض الكتب من ضمن الأمثال قول القائل: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) وهو قول كما ترى فاسد خاطىء، فأتعبوا أنفسكم في نقده وتشريحه، وإيراد التأويلات المختلفة لتصحيحه وتسويغه؛ فقال الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح) ما نصه: (وإذا علم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان - يعني المشبه والمشبه به - علم فساد جعله في القول القائل: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) كون القليل مصلحاً والكثير مفسداً، لأن القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما في الملح، وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه دون النحو، فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول مثلاً، فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه، وانتفى الفساد عنه، وصار منتفعا ًبه في فهم المراد منه، وإلا لم يحصل وكان فاسداً لا ينتفع به. فالوجه فيه هو كون الاستعمال مصلحاً والإهمال مفسداً لاشتراكهما في ذلك. . .)
والحق أنني لم أسترح إلى قبول هذا التوجيه الذي ذكره الخطيب لتصحيح المثل، وبقيت منه على علة؛ وبينما كنت أقرأ في كتاب (نفائس المجالس السلطانية) الذي نشره الدكتور عبد الوهاب عزام ضمن كتابه الأخير (مجالس السلطان الغوري)؛ إذا بي أقف على تحريف في المثل السابق، وأعلم أن صحته كما جاء في الصفحة الثامنة والستين من كتاب النفائس المذكور إذ وردت فيه هذه العبارة:
قال بعض الحكماء: الهزل في الكلام كالملح في الطعام!
ومن اليسير على القارئ أن يدرك جمال المعنى في قول ذلك الحكيم: (الهزل في الكلام كالملح في الطعام) فإن الكلام إذا خلا من الهزل المباح المحمول كان جافاً ثقيلاً، وكانت النفوس أسرع إلى النفور منه والعزوف عنه، وقد كان النبي صلوات الله عليه يمزح أحياناً؛ وإن كان لبلاغته وتمكنه وعصمته لا يقول في مزاحه إلا حقاً. وإذا زاد الهزل في الكلام كان ذلك أدعى إلى الإفحاش فيه، والخروج به إلى المجانة والهذر. ولعل مما يستأنس به لذلك قول الرسول الكريم: (كثرة الضحك تميت القلوب) وقوله ما معناه: (كثرة المزاح تسقط الهيبة). وبذلك يتضح أن التشبيه - بعد التصحيح السابق - قد استكمل شرائطه، وصار له من الجمال والدقة ما له.
فليُرح البلاغيون أنفسهم، وليستبدلوا كلمة (النحو) بكلمة (الهزل) فيستقيم لهم المثل، وفوق كل ذي علم عليم.
(البجلات)
أحمد الشرباصي