مجلة الرسالة/العدد 416/الإسلام والعلاقات الدولية
مجلة الرسالة/العدد 416/الإسلام والعلاقات الدولية
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
(تتمة)
(جـ) - وسائل إنهاء الحرب
إن الإسلام شديد الحرص على تحقيق السلم والطمأنينة للعالم فهو يطلب إلى المسلمين أن يدخلوا في السلم كافة ولا يتبعوا خطوات الشيطان؛ ويقول لرسوله الكريم: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)
(ا) وهو يصل إلى ذلك من طريق المفاوضات كما هي العادة الطبيعية فيتقبل فيه وساطة الرسل وسفارة السفراء من غير أن يتكلف لذلك رسوماً خاصة تؤدي إلى التعقيد أو تثير الإشكال.
(ب) ولا تختص المعاهدات في نظر الإسلام بإنهاء حالة الحرب. ولكنه يقرر أنواعاً من المعاهدات على حسب ما تقضي به الظروف التي يترك للمسلمين تقديرها والعمل بما توحي به في حالتي السلم والحرب
1 - فهو ينشئ المعاهدات إبقاء على حالة السلم الأصلي وحفظاً له من أن يخدش
ومن ذلك ما عاهد عليه النبي ﷺ أهل الكتاب لأول عهده بالمدينة وقد كانت هذه المعاهدة أول حجر في بناء الدولة الإسلامية، كما كانت أول علاقة سياسية ينشئها الإسلام ويعترف فيها بحرية العقيدة وحرية الرأي، ويحفظ بها على المسلمين أمنهم وسلامتهم وحرمة حياتهم ومدينتهم
2 - وينشئ المعاهدات للتحالف الحربي بينه وبين غير المسلمين، ويرشد إلى هذا النوع من المعاهدات قول النبي ﷺ: (ستصالحون الروم صلحاً تغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم). وقد وقع للمسلمين كثير من هذا النوع من المعاهدات في ذكرياتهم الماضية، وقد حارب النبي ﷺ قريشاً وفاء بعهد خزاعة الذي حصل يوم الحديبية.
3 - وينشئ المعاهدات لإنهاء الحرب إنهاء مؤقتاً، وهي المعروفة باسم الهدنة أو الموادعة، وذلك كما حصل في معاهدة الحديبية ولإنهائها إنهاء دائماً، وذلك كما حصل مع أهل نجران على أن يكونوا تحت حماية المسلمين في مقابلة ارتضوها
4 - وهناك نوع آخر من المعاهدات يترك فيه للدولة المعاهدة استقلالها الداخلي تحت ظل من السيادة كما فعل معاوية رضي الله عنه في عهده للأرمن. فقد ترك لهم حريتهم في بلادهم وأن يعينوا أمراءهم وقضاتهم ورؤساءهم، ويحتفظوا بتقاليدهم الدينية والعسكرية
(جـ) والإسلام يترك للمسلمين تقدير المصلحة في كل نوع من هذه المعاهدات ولا يقيدهم في ذلك بشيء إلا بشرط واحد: هو ألا تمس المعاهدة قانونه الأساسي ولا تتعارض مع شريعته العامة.
والأصل في ذلك قول النبي ﷺ: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وشبيه بهذا ما تقوله الدول من أن المعاهدات التي لا تتفق مع الدستور باطله
ولا يستخدم الإسلام ذلك الشرط لمصلحة المسلمين فقط. وإنما يطبقه لمصلحة أهل العهد أنفسهم، ومن هنا يقول الفقهاء: (لو طلب ملك عهد الذمة على أن يترك وما يحكم به أهل مملكته من القتل والظلم والفساد، فلا يصح في الإسلام أن يجاب إلى ذلك، لأن التقرير على الظلم مع قدرة المنع منه حرام)
(د) والإسلام يبيح للمسلمين عند الضرورة أن ينزلوا عن بعض حقوقهم، أو يصالحوا غيرهم على أن يبذلوا له مالاً طلباً لخير يرونه فيما بعد، واتقاء لشر يخافونه على أنفسهم. ولنا في صلح الحديبية أوضح مثال على سماحة الإسلام ومرونته في سبيل الحصول على السلام
(هـ) ومما يتصل بمعاهدات الصلح تقرير الإسلام لمبدأ الجزية وليست الجزية - كما يتصورها بعض الناس - بدلاً عن إسلامهم أو عن دمائهم، وإنما هي علامة على خضوعهم، وكفهم عن الفتنة واعتراض سبيل الدعوة، ومعونة تهيئ لهم الاشتراك في مصالح الدولة، والارتفاق بما يرتفق به المسلمون. يقابلها من جانب المسلمين فوق ذلك حمايتهم من الاعتداء عليهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم
وقد جاء في كتاب الخراج للإمام أبي يوسف أن أبا عبيدة بعدما صالح أهل الشام وجبى منهم الجزية والخراج بلغه أن الروم قد جمعوا للمسلمين جموعاً لا قبل لهم بها. فكتب إلى أمراء المدن المصالحة: (أن ردوا على أهل الذمة ما جبيتم منهم من جزية وقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد شرطتم علينا أن نمنعكم؛ إنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن على الشرط وما كتب بيننا وبينكم إن نصرنا الله)
ولهذا لم ينس الإسلام فيها واجب المروءة والرحمة. فهو لا يجيز أن توضع على امرأة ولا صبي ولا ضعيف عاجز عن الكسب، ولا على الرهبان الذين لا يخالطون الناس
(و) هذا والإسلام يحتم على المسلمين أن تكون سياستهم في العهود على وجه عام مبنية على التراضي وحب السلام وإقرار الأمن والعدالة. وهو يمقت العهود التي يكون أساسها القهر والغلبة وتحكيم القوة ويمقت الخداع والخيانة في العهود. ويصف الناقضين للعهد بأنهم شر الدواب عند الله. ويأمر بالاشتداد على الخائنين الذين لا يرقبون إلاً ولا ذمة. ويوجب أن يكون نبذ العهد إذا جد ما يقتضيه على سواء بينه وبين الخصوم. بل يوجب تمكين العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته
وفي ذلك يقول الكمال بن الهمام، وهو بصدد قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين)
(إنه لا يكفي مجرد إعلانهم بل لابد من مضي مدة يتمكن فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته. ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شيء من أطرافهم قبل مضي تلك المدة)
ويجمل بنا في هذا المقام أن نسوق آية من الكتاب الكريم هي بحق دستور الإسلام في الوفاء بالعهود. قال تعالى:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة)
(ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) وقد بلغ من حرص الإسلام على الوفاء بالعهود أنه لم يبح للمسلمين أن ينصروا إخوانهم المقيمين في بلاد أعدائهم. الذين لم يهاجروا منها - على المعاهدين وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة الأنفال
والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)
هذه صورة مصغرة لأهم القواعد التي نظم بها الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم من الدول
معاملة الدولة الإسلامية لمن يعيش في بلادها من غير
المسلمين
كما نظم الإسلام العلاقات الدولية العامة على الأسس التي أوضحنا. وضع أساساً صالحاً لتنظيم معاملة غير المسلمين الذين يقيمون في بلاد الإسلام
يقوم ذلك الأساس على ما يأتي:
1 - اشتراكهم مع المسلمين في الحقوق والواجبات العامة
2 - تركهم وما يدينون من غير تحكم في عقائدهم ولا في كنائسهم ولا في رسومهم وطقوس عباداتهم ما دامت على وجه لا يفتن المسلمين في دينهم
3 - جواز الرجوع بهم في مسائلهم الخاصة إلى حاكم منهم، وأن يحكم الحاكم المسلم بينهم بمقتضى ما يدينون به
4 - الإحسان إليهم في الروابط الاجتماعية العامة على حدود ما بين المسلمين بعضهم مع بعض
وقد جاءت عن النبي ﷺ وصايا كثيرة في حسن معاملتهم والتوصية بهم
موازنة
هذه هي القواعد التي ينظم بها الإسلام العلاقات الدولية عامة كانت أم خاصة
وضع أساسها القرآن وبينتها السنة. وشرحها عمل الرسول ﷺ وأصحابه من بعده. ثم تناولها التابعون وفقهاء المسلمين فأعملوا فيها الرأي والتخريج شأنهم في الشريعة كلها حتى اتسع نطاقها لتنظيم كل ما يجد من مظاهر العلاقات على وجه يحقق النفع العام والسلام الشامل
وضع الإسلام هذه القواعد وعرفها علماؤه وفقهاؤه في وقت كانت فيه دول الحضارة الغابرة تتعثر في عادات جافة لا تعرف للإنسانية حقاً ولا تقيم للعدالة والسلام وزناً. ثم تلتها دول الحضارة الناشئة فأخذت تخطو في آثار الحضارة الغابرة حتى أسس فقيه هولندي في القرن السابع عشر ما سماه القانون الدولي الحديث ووضعه على مبادئ القانون الطبيعي الذي يرفض القانونيون الآن الاعتماد عليه كقانون له احترام القوانين. ولقد حاول العالم أن يضمن السلام في عصرنا الحاضر بالرجوع إلى هيئات دولية محكمة ولكن المجازر البشرية الدائرة الآن في أقاليم الأرض تنطق بالفشل الذريع الذي أصاب العالم في الوصول إلى غايته
فأين هذا من قواعد الإسلام الصريحة العادلة. وأين لهم ضمان كضمان الإسلام إذ يجعل هذه القوانين أحكاماً تكليفية دينية لا يسع المسلمين بمقتضى تدينهم إلا أن يرعوها حق رعايتها ويعملوا على تنفيذها وتحقيقها سواء فيما يختص بهم أم بغيرهم. فهذا وذاك شرع الله الذي لا مناص من النزول عليه والعمل بمقتضاه من غير تفرقة بين مسلم وغير مسلم. ويقول فيه (ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم) (أن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وأن كثيراً من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)
اقتراح
يذكرني مؤتمر رابطة الإصلاح الاجتماعي في عرضه هذه الموضوعات على بساط البحث - بمؤتمر القانون الدولي المقارن الذي عقد في سنة 1937 بمدينة لاهاي وقد مثلت فيه الشريعة الإسلامية بموضوعين عظيمين: علاقة الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني. والمسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية
وقد ظفرت الشريعة في هذا المؤتمر الأوربي بقرارات أهمها: أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة وأنها صالحة لمجاراة التطور الحديث. وقد أوصى المؤتمرون هيئة المؤتمر بأن تعني في أدواره المقبلة أشد العناية بمسائل التشريع الإسلامي. وأن تدعو إلى الاشتراك في أعماله ودراساته أكبر عدد ممكن من أقطار المسلمين
وأني لأنتهز هذه الفرصة فأقترح على مؤتمر رابطة الإصلاح الاجتماعي المصري المسلم أن يعمل منذ الآن على إعداد العدة لإقامة مؤتمر عالمي تكون مهمته استخراج القواعد الشرعية التي تتخذ أساساً لتقنين شرعي - يظهر به جلال هذه الشريعة وحسن ضمانها لمصالح الناس مهما تقدمت حياتهم وتطورت حضارتهم.
هذا هو اقتراحي أتوجه به من هذا المنبر إلى جميع رجال الفكر في مصر والشرق - أتوجه به إلى ملوك الإسلام وفي مقدمتهم حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم الغيور على دينه الحريص على شريعته.
أتوجه به إلى علماء الشريعة وعلى رأسهم عالمان عظيمان من أفذاذ علماء الإسلام لهما تاريخ مشهود في التخريج الفقهي والتطور التشريعي الإسلامي: الأستاذ الأكبر والمفتي الأكبر
أتوجه به إلى رجال الحقوق ومن خرجت من رجال القانون الحريصين على خدمة شريعتهم وإعلاء شأنها بين القوانين الحديثة أتوجه به إلى هؤلاء جميعاً واحملهم إياه أمانة يسألون عنها أمام الأبناء والأحفاد ويسألون عنها أمام الله والرسول (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. . .)
محمود شلتوت