انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 415/نيابة بعض حروف الجر عن بعض

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 415/نيابة بعض حروف الجر عن بعض

مجلة الرسالة - العدد 415
نيابة بعض حروف الجر عن بعض
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1941



للأستاذ الكبير (ا. ع)

كان لكلمة الشاعر الكبير الأستاذ محمد محمد عبد الغني حسن (بالعدد 409 من الرسالة) أثر بالغ في نفسي، لأدبها الجم، وإنصافها للحق

ولقد حمدت هذه الكلمة التعقيبية على أن أتاحت لي موضوعاً تمنيت أن أكتب فيه، موضوعاً كثرت فيه وقفاتي في مجالس التعليم، لما كنت أرى من إهماله وسوء فهمه وتشويه الغرض منه

هذا الموضوع هو (نيابة بعض حروف الجر عن بعض).

قال الأستاذ:

(أما قول الأستاذ الفاضل: أن الفعل (تفيأ) يتعدّى بالباء، أو بنفسه كما صنع أبو تمام، ولا يتعدّى باللام، كما جاء في قصيدة (ميلاد نبيَّ)، فهو قول نقبله على العين والرأس ولكني أضيف إليه أن تعدية هذا الفعل باللام ليست خطأ؛ فحروف الجر ينوب بعضها عن البعض.)

هكذا أطلق الأستاذ هذا الحكم من كل قيد، فيتوهم من هذا الإطلاق أن كل حرف من حروف الجر يجوز أن ينوب عن أي حرف آخر منها. وهو ما لم يقل به أحد من النحويين القدماء أو المحدثين. ولا يمكن أن يعتقده الأستاذ أو يقول به. وإنما هي عبارة شاعت على الألسنة، وتناقلها الناس منذ بعيد من غير تأمل أو بحث

فلهذا أردت أن أوضح المقام بعض التوضيح، وأن أكشف عن أسسه العامة وقواعده. ولستُ أدعي أني أُضيف إليه جديداً؛ فقد بسطه العلماء بسطاً، وأفاضوا فيه إفاضة ليس وراءها من مزيد، وإن كانوا قد أثاروا في خلافهم ومناقشاتهم عجاجاً استبهم وراءه بعض الحقائق أو أشكل

لما تدارس العلماء كتاب الله والشعر القديم، منذ فجر النهضة العلمية الإسلامية، فطنوا لأن بعض الأفعال والمشتقات التي تتعدى ببعض حروف الجر، تؤدي معنى غير معناها الوضعي فعكفوا على تعليل ذلك، انقسموا جماعات وأشهرهم البصريون والكوفيون فالبصريون يقولونَ: (1) إما يتضمن العامل معنى عامل آخر يتعدى بذلك الحرف، كم قوله تعالى: (وأحسن بي إذ أخرجني من السجن). فالفعل (أحسن) لا يتعدى بالباء، فضَّمن معنى (لطف)؛ (2) وإما بأن الحرف الذي تعّدى به العامل قد استعير لمعنى الحرف الذي كان ينبغي أن يتعدى به - استعارة تبعية - وذلك كقول طرفة:

وإن يلتق الحي الجميع تُلاقني ... إلى ذروة البيت الكريم المصَّمد

فقد استعيرت (إلى) لمعنى (في)، إذ أن (تلاقني) لا يتعدى بالي؛ (3) وإما بالشذوذ، إن لم يأت التضمين في العامل بشروطه أو الاستعارة في الحرف بشروطها. فليرجع القارئ إلى هذه الشروط في كتب البلاغة إن شاء

فأنت قد رأيت أنه لا نيابة لحرف أنه عن حرف عند البصريين، فليس للحرف معنى وضعي عندهم إلا معنى واحد

وللتضمين قياسي على المختار من أقوال العلماء وعلى ما قرره (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) - وكذا الاستعارة في الحرف. فلنا إذا أن نترخص فيهما، وأن نراعي منهما في كلامنا من نظم أو نثر ما نشاء

وأما الكوفيون فيقولون: إن بعض حروف الجر ينوب عن بعض بطريق الوضع: أي إن الحرف موضوع لأكثر من معنى واحد، فهو مشترك وضعاً بين جميع ما ورد له من المعاني؛ فبعضها يكثر استعماله، وبعضها يقل. . فيوهم وضع ذي المعنى القليل الاستعمال موضع الكثير أن هناك معنيين اشتمل عليهما العامل: فلا تجوز عندهم في الحرف. وإنما هي نيابة محضة

وهاك مثالاً موضحاً: فقد عدّ ابن هشام للباء أربعة عشر معنى، منها الاستعلاء، قال: (نحو: (منْ إن تأمَنْه بِقنطار)، بدليل: (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل.))

فالعرب - على رأي الكوفيين - قد وضعوا (على) والباء لمعنى الاستعلاء. غير أنه في (على) أكثر دوراناً منه في الباء.

فاعتبرت (على) أصلاً في هذا المعنى، واعتبرت الباء نائبة عنها، وإن كانت أصيلة فيه. فتأمنه بقنطار، أي عليه.

ولكن من يتتبع الكتب التي توسعت في الكلام على (نيابة بعض حروف الجر عن بعض)، - ولا سيما المغني - يجد فيها عراكاً عنيفاً حول الشواهد التي جئ بها لذلك؛ فهو بين آخذ ورد، وجذب ودفع. فهذا يسلم بنيابة الحرف في مثال، وهذا يتأوله فيخرجه عنها بضروب من الحجاج والفلسفة النحوية. فسقطت بذلك في هذا المعترك طائفة ليست بالقليلة من الشواهد، كانت - لو أنها ظلت سالمة - تكون قوة لقياسية هذا الباب.

ولو أني أنشأت أضرب الأمثلة لذلك من هذه الكتب، لخرجت عما أنا بسبيله. ومن طريف مما يقال هنا أن سيبويه لم يعترف للباء إلا بمعنى واحد هو الإلصاق، وخرَّج عليه كل ما عدَّدوه من المعاني. وقال ابن عصفور: لو صحْ مجيء (إلى) بمعنى (في) لجاز: زيد إلى الكوفة

فأنت ترى كيف ضاقت بذلك دائرة النيابة في حروف الجر حتى كانت من النوادر. وقد عبر ابن هشام عن هذا المعنى في (مغني اللبيب)، في باب (التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين، والصواب خلافها). قال: (منها) قولهم: ينوب بعض حروف الجر عن بعض؛ وهذا أيضاً مما يتداولونه ويستدلون به. وتصحيحه بإدخال (قد) على قولهم: (ينوب). وحينئذ فيتعذر استدلالهم به؛ إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك، يقال لهم فيه: لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة. ولو صح قولهم لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت إلى القلم

فنيابة حرف من حروف الجر عن آخر عند الكوفيين ليست معبدة السبل، كما قد يُظَنَّ بادئ الرأي فإنه؛ يجب لقياسيتها ألا تَنْبو عن الذوق العربي وأساليبه في التعبير، وأن يكون الحرف النائب قد جاء بمعنى الحرف المنوب عنه وضعاً كما قد فهمت مما مر بك.

والآن فلنعد إلى بيت الأستاذ الذي كان مبعث هذا النقاش وقد رأيت أنه أجاب عن اعتراض على تعدية (يتفيئوا) باللام بأنه ليس خطأ. . . الخ. ويظهر انه اعتبر اللام نائبة عن الباء ولم أر فيما لديَّ من المراجع أن اللام تنوب عن الباء ولكنهم قالوا بنيابتها عن (في) كما في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)، وكقوله: (لا يجلبها لوقتها إلا هو) وكما في قولهم: (مضى لسبيله)

فعلى اعتبار أن اللام في البيت نائب عن (في) لم يخطئ الأستاذ في تعبيره مهتدياً بسليقته السليمة، وإن لم يَقصد هذه النيابة عند إنشاء البيت

هذا ما أمكن إيجازه من هذا الموضوع الذي ارجوا أن أكون قد وفقت للكشف عن وجه الصواب فيه

(ا. ع)