انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 415/الإسلام والعلاقات الدولية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 415/الإسلام والعلاقات الدولية

مجلة الرسالة - العدد 415
الإسلام والعلاقات الدولية
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1941



للأستاذ الشيخ محمود شلتوت

وكيل كلية الشريعة

- 2 -

(1) النظام الذي يسبق الحرب

يقرر الإسلام أنه لا يصح بدء الحرب إلا بعد أن تتحقق روح العداء للمسلمين، وأنه يجب على المسلمين إذا تحققوا من ذلك أن يبلغوهم الدعوة

وشبيه بهذا ما يسمى في العرف الدولي الحاضر بالإنذار النهائي.

وفي ذلك يقول النبي لأحد قواده: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث)

وقد قال الفقهاء: (إننا بهذه الدعوة نعلمهم أننا لا نقاتلهم على اخذ أموالهم وسبي عيالهم، فربما يجيبون إلى المقصود من غير قتال، وقتالهم قبل الدعوة إثم يستوجب غضب الله

(ب) النظام الذي يكون في أثناء الحرب

لا يريد الإسلام من الحرب تنكيلاً ولا تخريباً، ولا يرضى للناس أن ينسوا فيها واجب الإنسانية من الرفق والرحمة ورعاية العدل والخوف من الله

وإنه ليأخذ المسلمين في أثناء الحرب بآداب لو رعتها الأمم لخففت من ويلات البشرية وضمدت من جراحها

وقد يكون من الملائم لنا في هذه الظروف التي جنّ فيها جنون العالم، وانفتحت فيها على الناس أبواب من الجحيم الذي صنعه الناس لأنفسهم، وأنفقوا فيه جهودهم وأموالهم وأفلاذ أكبادهم؛ قد يكون من الملائم أن نذكر شيئاً من تلك الآداب الإسلامية للحرب، ليعلم الناس أن هذا الدين دين الرحمة والرفق والعدل والصلاح:

1 - فالإسلام لا يجيز قتل المرأة ولا الصبي ولا الشيخ الفاني ولا المقعد ولا الأعمى ولا المعتوه؛ ولا يجيز قتل أصحاب الصوامع ولا الزراع ولا الصناع الذين لا يقاتلون

2 - ولا يجيز المثلة ولا التحريق ولا قطع الأشجار ولا هدم البنيان إلا إذا بدأ بذلك نزولاً على مبدأ المعاملة بالمثل (وجزاء سيئة سيئة مثلها)

3 - ولا يجوز الإجهاز على الجرحى ولا التحريق بالنار

وفي وصايا لأحد قواده: (لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا كبيراً هرماً، ولا تقطع شجراً مثمراً، ولا تخرب عامراً، ولا تعقرن شاة إلا لمأكله، ولا تفرقن نخلاً ولا تحرقه (وإن النار لا يعذب بها إلا الله)

ومن المأثور عنه أنه قال: (لا تقتلوا الذرية في الحرب. فقالوا: يا رسول الله: أليسوا أولاد المشركين؟ فقال: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟)

4 - ويقرر الإسلام - تمشياً مع مبدئه من محاربة غير المحاربين من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة والمدنيين - أنه لا يجوز تجويع الأمة المحاربة ولا منع المواد الضرورية للحياة عنها، وإن كان يبيح ذلك بالنسبة للجيش المحارب

5 - ومن نظم الإسلام في أثناء الحرب الدالة على السماحة انه يبيح لأفراد وجماعات من الدولة أن تتصل بالمسلمين وتدخل في ديارهم، وتقيم فيها بعض الزمن وتزاول بها أنواعاً من المعاملات التجارية وغيرها في عصمة شيء يعرف في التشريح الإسلامي باسم الأمان

ويقرر به عصمة المستأمنين، ويوجب على المسلمين حمايتهم في أنفسهم وفي أموالهم ما داموا في ديار الإسلام. بل يذهب في التسهيل عليهم إلى حد بعيد: ذلك أنه يمنحهم أنواعاً من الامتيازات، ويعفيهم من بعض ما ينفذه على المسلمين من أحكام، ولا يؤاخذهم إلا على الجرائم التي تهدد أمن الدولة وسلامتها، أو يكون فيها اعتداء على المسلمين ومن في حكمهم

وقد توسع الإسلام في هذا الباب توسعاً عظيما: فجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان يسعى بذمتهم أدناهم، ولم يشترط في ذلك إلا ما يضمن على المسلمين سلامتهم كالتأكد من أنه ليس للمستأمنين قوة ولا متعة، ولا يبدو عليهم مظاهر الركون إلى الفتنة أو التجسس على المسلمين. وليس معنى هذا أن الإسلام ينسى حق الإمام المهيمن على شئون المسلمين، بل جعل له بمقتضى هيمنته العامة وتقديره لوجود المصلحة إبطال أي آمان لم يصادف محله، أو لم يستوف شروطه، كما له أن يقيد آمان الأفراد ويمنع إقدامهم عليه

والأصل في هذا المبدأ الذي فيه روح السماحة على نحو لا يعرف له مثال حتى في الأمم المتحضرة الآن قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه)

والإسلام يبيح بهذا الأمان تبادل التجارة بين المسلمين والمحاربين، وتبادل المنافع الأخرى والثقافة وسائر الأعمال

وهو لا يقيد المسلمين في ذلك إلا بان يحتاطوا لأنفسهم ودينهم ودولتهم، ولذلك يحرم عليهم أن يبيعوا السلاح والذخيرة والخيل والعتاد الحربي إلى أعدائهم

وهو في الوقت نفسه يهيئ بهذا الأمان فرصة للمستأمنين تمكنهم من تفهم حقيقة الإسلام وإدراك أغراضه عن كثب. ولقد كان للإسلام من ذلك وسيلة قوية لنشر دعوته وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية من غير حرب ولا قتال

ويقرر الفقهاء (انه يجيب على الإمام - إذا وقت للمستأمن مدة - إلا يجعل المدة قليلة كالشهر والشهرين، فإن في ذلك إلحاق العسر به خصوصاً إذا كان له معاملات يحتاج في اقتضائها إلى زمان طويل)

6 - ومن تقاليد الإسلام في أثناء الحرب رعاية الرسل الذين يقومون بالسفارة بينه وبين المحاربين وشدة الحرص على سلامتهم وتكريمهم والمحافظة عليهم حتى يعودوا إلى مأمنهم، ورفض الاحتفاظ بهم ولو خلعوا أنفسهم من قومهم، وفي سيرة النبي شواهد كثيرة على ذلك من أروعها ما يرويه أبو رافع إذ يقول:

بعثتني قريش إلى النبي فأتيته فوقع الإسلام في قلبي فرأيت إلا أعود إليهم. فقلت يا رسول الله: لا أرجع إليهم. فقال: إنني لا أخيس بالعهد ولا أحتبس البرد. ارجع إليهم، فأن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع إلينا

7 - ومن تشريع الإسلام في أثناء الحرب قاعدة معاملة الأسرى. أمر بالإحسان إليهم، وعدم مسهم بأذى، وقد قال رسول الله في الأسير: احسنوا إساره. وقال اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه

وقد حث القرآن الكريم على تكريم الأسرى عامة، وجعل ذلك من البر الذي هو علامة الإيمان فقال جل شأنه في التمدح بصفات المؤمنين:

(ويطعمون الطعام عل حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً) وخير الإمام بين إطلاقهم من غير مقابل، وفدائهم على حسب ما يرى من المصلحة. وقد من النبي وفادى بالمال وبتعليم الأسارى أبناء المسلمين الكتابة. أما استرقاقه أو إباحته للاسترقاق فقد كان مجاراة لحالة اجتماعية سائدة في الأمم إذ ذاك. ولم يكن على وجه التشريع العام. وإنما التشريع العام في ذلك هو قوله تعالى: (فإما مَنًّا بعدُ وإما فداء)

وأن في التشريع القرآني للأسرى على هذا النحو مع تصرف النبي ما يرشد إلى أن الإسلام يمنح الحاكم من الحقوق في ظروف خاصة ما يستطيع به علاج المشكلات الواقعة من غير أن يكون ذلك تشريعاً عاماً يسري حكمه على جميع الأزمان

8 - وكما شرع الإسلام معاملة الأسرى على أساس من الرأفة والرحمة شرّع للغنائم على أساس من العدل والمساواة فقرر حق تملكها لمن حازها من المتحاربين المسلمين وغيرهم في ذلك سواء

(البقية في العدد القادم)

محمود شلتوت