مجلة الرسالة/العدد 414/في اختلاط الجنسين
مجلة الرسالة/العدد 414/في اختلاط الجنسين
للأستاذ محمود محمد بسيوني
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولما كان ما نراه اليوم من فساد ناتجاً عن سوء فهم الناس لمعنى الاختلاط فلندرس إذن الاختلاط ولنفهمه بمعناه الحقيقي. الإنسان مدني بطبعه، أي أنه لا يمكن أن يعيش منعزلاً؛ فلا بد من التعاون الحقيقي بين أفراد الإنسان بوجه عام. فإن اختلاف القوى البدنية والعقلية يحتم احتياج كل إنسان إلى الآخر لإكمال ما به من نقص، ولكي يتعاون الجميع على الحياة في أمن وهدوء. والحياة كثيرة الشعب متعددة الفروع بحيث أن كل فرد لا بد أن يقوم بعمله كاملاً من ناحية اختصاصه. ومن هذا نرى أن الرجل لازم للمرأة، وأن المرأة لازمة للرجل، أي أن الاتصال بين الرجل والمرأة لازم لا لحفظ النوع فقط؛ وإنما كذلك للتعاون على شؤون الحياة، أو بمعنى آخر نستطيع أن نقوله أن الاختلاط أمر لا بد منه، ولكن متى يكون هذا الاختلاط وما حدوده؟
الاختلاط ممكن في الحدود الطبيعية أي حيث تتطلبه شؤون الحياة. وهو لا يكون حينئذ خطراً لانصراف الفكر إلى المهام الجدية التي تطلبها الاختلاط، ولانعدام الجو الذي يولد التفكير السيئ. فالرجل الذي يذهب ليشتري شيئاً تحسن المرأة صنعته أو تجارته، لا يتوفر لديه ما يبعث على التفكير السيء؛ والمريض في المستشفى محتاج إلى رقة المرأة وحنانها، فلا ضرر من اتصال الرجل بالمرأة في مثل هذه الحالة، حيث لا مجال للتفكير السيئ. والرجل الذي يتلقى فناً خاصاً تحذقه امرأة لا بأس عليه من اختلاطه بها كذلك. وكل هذا هو ما نقصده به الاختلاط الطبيعي الذي تتطلبه شؤون الحياة وتوزيع العمل بين الرجل والمرأة كما فهمته تلك المرأة القروية على حقيقته. فهي تخالط الرجل في الحقل إذا دعت إلى ذلك الشؤون الزراعية، كما تخالطه في السوق إذا دعت إلى ذلك حاجة البيع والشراء. ولكن هؤلاء الذين تختلط بهم في الحقل وفي السوق تحتجب عنهم في المنزل لأنها في هذه الحالة لا تجد مبرراً طبيعياً لاختلاطها بالرجال، وعلى ذلك نستطيع أن نقرر في غير تحرج أن تلك القروية قد أدركت بفطرتها السليمة وظيفتها الحقيقية أكثر مما فهمتها تلك الفتاة الحضرية التي تدعي العلم والفلسفة على أن هناك مجالات أخرى قد يبدو فيها الاختلاط أمراً ضرورياً كالحفلات الخاصة وما شابهها. وخير الأمور في مثل هذه الأحوال هو أن يقتصر الاختلاط على الأهل والأقارب والأصهار ومن إليهم ممن توجد بينهم صلة قوية وثقة تامة؛ فحينئذ أظن أن خطر الاختلاط يبتعد كثيراً ويكاد ينعدم، وبخاصة إذا روعي الواجب حيال هذا الاختلاط من احتشام المرأة ومراعاتها له في حدود الوقار والحياء. وإني لا أفهم مطلقاً أي معنى لأن يدعو إنسان في بيته رجالاً ونساءً لا يعرف بعضهم بعضاً ويزعم لنفسه بأنه يقدم التعارف بينهم. فهذا النوع من الاختلاط هو الذي لا نقره مطلقاً. فمنه تقع الحوادث والكوارث. فإن المرأة بطبيعتها ضعيفة سريعة الانقياد؛ ثم إنه من الممكن أن يندس بين الرجال من ليس منهم من الجهة الخلقية الجديرة بالرجولة. فكثيراً ما تلقى وحوشاً إنسانية في زي الرجال. وفي وجود هؤلاء خطر شديد. فقد تلتقي المرأة برجل تتوسم فيه محاسن خاصة وفضائل ظاهرية قد تميزه على زوجها إن كانت متزوجة، أو توهمها بأن فيه المثل الذي تنشده إن لم تكن متزوجة، فإذا بها تنقاد له وتقع في شركه وتتمادى في علاقتها به؛ ثم تنكشف الحقيقة فجأة وتقع الكارثة كما هو معروف.
لقد قلنا إن الاختلاط ممكن في الحدود التي تستلزمها الطبيعة ولا تتنافى في شيء مع الدين والأخلاق، وهي حدود لا تعوق الحرية ولا تؤثر على التقدم والرقي؛ إنما هي حدود تكفي لأن يعيش الإنسان هادئاً مطمئناً سالكاً الطريق الذي خلق له. أما الاختلاط على الصورة الحاضرة فهو خطأ كل الخطأ، وإنما هو تقليد أعمى لا يجوز الأخذ به بتاتاً. وقد قال الفيلسوف إن لكل بلاد جوها وعاداتها وتقاليدها وموقعها الجغرافي مما يخلق لها ظروفاً خاصة قد لا تتناسب مع ظروف البلد الآخر. وهذه النظرية الصحيحة إذا طبقت في موضوعنا هذا نستطيع أن نصل بوساطتها إلى أن الاختلاط وإن أمكن توسيع نطاقه في أوربا (على أن أوربا هي الأخرى قد نالها منه ما نالها من شر وضر) قد يكون مقبولا إلى حد ما، لأن جو البلاد وطبيعة أهلها الباردة؛ ثم عاداتها وتقاليدها قد تجيز الاختلاط دون ضرر كبير. أما في الشرق حيث الجو حار وطبيعة السكان حارة أيضاً، سريعة التأثر والثوران، وحيث تقاليد الناس المتوارثة لا تجيز هذا الاختلاط؛ فإنه من الخطر حقاً أن ننقل اختلاط أوربا إلى مصر، فسيبقى الغرب غرباً وسيبقى الشرق شرقاً إلى نهاية الحياة أما ما يقول به البعض من أن المرأة إذا كانت شريفة بطبعها واثقة بنفسها، موثوقاً بها، فهي تستطيع أن تبقى طاهرة مطهرة، حصينة محصنة، تحت أي ظرف أو ضد أي ظرف من ظروف الإغراء والسقوط، فهذا شيء من الصعب التسليم به، فمن الخطأ أن توفر لإنسان أسباب الشر وتغريه بها وتحببه إليها مع علمك بأنه ضعيف أمام سطوة الشيطان، ثم تزعم أنه يستطيع التغلب عليها؛ وقد قالت حكمة القدماء أن الوقاية خير من العلاج
وقد قال البعض أيضاً أن العلم والثقافة يقيان المرأة شر السقوط. ولكنا لا نستطيع أيضاً أن نسلم بهذا؛ فإننا قد رأينا المتعلمين والمتعلمات هم الذين يبدءون بفكرة الاختلاط ويسرفون في الحرية التي يهيئها لهم علمهم وثقافتهم فيغرون بذلك طائفة أخرى أكثر منهم عدداً وأقوى منهم أثراً، ولكنها أقل علماً وفهماً. هؤلاء هم أنصار المتعلمين والمتعلمات الذين لا يقدرون الأمور كما يجب أن تقدر، ولا يفهمون الحرية كما يجب أن تفهم، فيعتقدون أن الأمر عبث ولهو لا أكثر ولا أقل، فيندفعون وراء عقولهم الضعيفة وقلوبهم المستسلمة ويصبحون الخطر الأعظم. أما المتعلمون الذين ينفعهم علمهم ويقيهم شر السوء فهم الذين بلغوا من العلم شأواً بعيداً. أما الذين لم يصيبوا منه مثل هذا القدر فإنه يتسرب إلى اعتقادهم أن العلم يعطيهم شيئاً من الحرية وشيئاً من التفكير في الأمور من نواحيها السهلة الضعيفة فيتناسون ما فيها من قيود شديدة، وبهذا يصبحون مستهترين إلى حد ما. فخير إذا أن نترك الأفكار الصالحة تسيطر على العقول والنفوس على شكل تقاليد وعادات تتوارثها الأجيال، فلا تجرؤ على مهاجمتها. وخير للمرأة إذن ألا تسرف في الاستنتاجات من الفلسفة والعلم، وإنما يجب أن يكون علمها في الشؤون التي خلقت لها وهي فنون البيت وشؤون الأسرة، وأن تكتفي فيما عدا ذلك بما تشير به تعاليم الدين وتقاليد البلاد. فليتجنب الجميع منابع الشر، وليبتعدوا عن مسبباته درءاً للخطر، وبخاصة أنه ليس هناك ما يستوجب الاقتراب منه
وإنما نحمل المرأة أكثر التبعة نظراً لأنها تعلم حق العلم أن مسعاها غير مسعى الرجل فهي سريعة التأثر كالزهرة اليانعة إذ لمستها الأيدي الكثيرة ذبلت وتناثرت أوراقها وديست بالأقدام، بينما حال الرجل ومسعاه قليل التأثر. فلو أن المرأة لم تقدم نفسها إلى الرجل ولم تسهل له سبيل الاتصال بها ولم تستمع إلى إغرائه وغوايته لما جرأ هو على الاستخفاف بها واستغلال مخالطتها بالسوء. على أن ذلك لا يبرئ الرجل من التبعة واللوم، فإن صفات الرجولة توجب عليه أن يكون قوياً شهماً مترفعاً عن أساليب الخداع والغش التي يتبعها لإيقاع المرأة في الشرك وهي الضعيفة أمام سلطانه. فكان الواجب أن يرد المرأة إلى سبيل الجد والهداية. فلو أنه استغل رجولته وشهامته في عدم الاندفاع في الاختلاط وفي عدم تشجيعه له، لانعدمت الأسباب التي نتج عنها الاختلاط السيئ ولما شكونا مما نشكو منه الآن
وكل ما نريده اليوم هو أن نستجيب إلى النداء العظيم الذي وجهه صاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك حيث حثنا على أن نتعاون جميعاً على تنظيم حياتنا الاجتماعية تنظيما جديداً يتناسب مع تقدمنا ومدنيتنا الحقيقية لا المزعومة. وأن نطهر تلك الحياة مما فيها من آثام وشرور قبل أن يستفحل أمرها ويستعصي استئصالها، فواجب كل فرد أن يضع في رأسه أنه مكلف أخلاقياً بأن يساهم في مكافحته للفساد والشر وفي هداية الناس إلى الطريق المستقيم وفي اظهارهم على ما في ذمتهم وما في تقاليدهم من معان سامية ومن تعاليم رفيعة تضمن لهم أمنهم وسعادتهم. فليقم كل منا بأكبر قسط يمكنه أداؤه في دائرته: في منزله أولاً وفي البيئة المحيطة به ثانياً. كذلك نستجيب إلى نداء الأستاذ الدكتور فندعو إلى تأليف جماعات تعمل متضامنة على مكافحة الأمراض الاجتماعية الناتجة عن الاختلاط. ونحن نتمنى أن تتسع هذه الخطوة بأن تساهم الصحافة بقسط أوفر، بأن تكتم أخبار الاجتماعات المختلطة الخاوية، وأخبار الحفلات التي تخلو من كل ما يهم المصلحة العامة وأن تمتنع عن ذكر كل ما يتنافى مع تعاليم الدين وتقاليد البلاد. لعل هذه العقوبة الأدبية ترد الغاوين عن غيهم والمستهترين عن استهتارهم، فلا يلقى مقلدوهم وأنصارهم أي تشجيع إلى أن تموت بالتدريج كل فكرة فاسدة حتى ينصلح حال المرأة ويحسن ظنها وفهمها لمبادئ قاسم أمين فتنفذ آراءه وتعاليمه كما كان يريدها وكما يريدها المصلحون والله أسأل أن يلهمنا التوفيق والسداد.
محمود محمود بسيوني