انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 414/حول مشكلة الزواج

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 414/حول مشكلة الزواج

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 06 - 1941


إلى السيدة (ليلى)

لم تَعْدِي الصواب يا سيدتي حين قلت في كتابك الرقيق المدْرَج في

مقالك البليغ: إن لكل من الشباب والشواب معايب ومطالب قد تعاونت

على خلق مشكلة الزواج؛ ولكن السبب المباشر والمصدر الأول هو

المادة

وتصديقاً لقولك أسوق إليك قصة سمعتها من بطلها الدكتور (م. ش). والدكتور (م. ش) يا سيدتي فتى سَوىً الخَلق كامل الثقافة، يملك البصر والسمع بروعة منظره وبراعة حديثه. نشأ في بيت من أوساط البيوت، ولكنه تعلم في أوربا، وتقدم في الوظيفة، فنحا منحى الأوربيين في العيش، وسَمتَ سمْت الأرستقراطيين في المظهر؛ فهو يلبس كما يلبسون، ويجلس حيث يجلسون، ويلح بالسرف على مرتبه الكافي حتى يضيق بشهواته فيتمزق عند منتصف الشهر، ثم يكون في النصف الآخر حميلة على والديه

حسبك يا سيدتي من وصفه هذا، فإني لأخشى أن يُكشَف فيُعرف؛ ومعرفته تجر إلى معرفة الفتاتين اللتين ضحى بهما لهواه؛ وإذا علمت أسرتاهما أنهما ذُكرتا في موضع العبرة، كان ذلك أشد على نفوسهما من ألم المصيبة:

قال الدكتور ذات مساء بلهجة المقترف المعترف النادم ونحن نتناقل الحديث عن جنسك الذي لا يفتُر عنه الحديث ولا يُمل: كنت مصروفاً عن الزواج لأني لم أجد في نفسي حاجة إليه ولا في رأيي فائدة منه. إن كان يطلب للمتعة الطبيعية فقد يسرتها المرأة الطليقة؛ وإن كان يطلب للراحة المنزلية فقد هيأتها الأسرة الشفيقة؛ وما دام الأنس بالمرأة والأسرة موفوراً، فعلام يُحتمل عنت الزوجة وهم الولد وتكاليف البيت؟ ولكن سَرفي وترفي وقلة مرتبي وضيق ثروة أبي، نبهتني إلى أن الزواج يطلب لأمر ثالث: هو الثروة. فرغبت إلى أمي أن تستعين بالأقارب والصواحب والخواطب على أن تجد لي (بغلة العشر)، فقلَّبن على عيني أشتاتاً من العبقريات الحسان يملكن كل شيء إلا ما أريده، حتى وصلتني إحدى الخاطبات بفتاة قالت إنها أكثر مما أطلب. ثم خلى أهلها بينها وبيني، فتلاقت عينانا، ث فكرانا، ثم قلبانا، فما أنكرت منها خلقاً، ولا ذممت لها صحبة: ملاحة شرقية تغترق البصر، وثقافة عصرية ترضي العقل، ورشاقة رياضية تملك النفس، وشهوة جامحة لعيش المترفين تصور لها بالألوان السحرية أي قصر ستسكن، وأي حلة ستلبس، وأي سيارة ستركب، وأي حفلة ستقيم، وأي أسرة ستدير؛ فرأيت في رغباتها وحياتها صورة رغباتي ونمط حياتي، كأنما خلقها الله رضاً لهواي وتحقيقاً لمناي وتماماً لنفسي. ثم توثقت بيننا على جلوات الربيع وخلواته عرى المحبة، فتساقينا كؤوس الهوى في كل حديقة وعلى كل نهر، وأخذنا نهدهد حبنا الوليد على أناشيد الأمل انتظاراً ليومنا الموعود وعيشنا المرتقب!

على أن وحدة الخلق وجُمعة الأمل وألفة الهوى لم تُنسني السؤال عن المحبوب الأول والمطلوب الأول وهو المال. ولشد ما كانت خيبتي حين تكشَّف لي غناها عن دَين فادح لا ضمان له، ورياء فاضح لا حيلة فيه. حينئذ تغير النظر وتبدل الرأي واختلف الغرض، وأصبحت الخطيبة الحبيبة كعشرات الأوانس اللائى عقدتُ بهن أسبابي، وأذقتهن ضلال نفسي وعبث شبابي. إذن فما معنى أن أجمع بين طمعي وطموحها، ثم لا أملك لي ولا لها تحقيق أمل ولا قضاء نَهْمة؟

مشيت معها مشي الشباب المعروف أعدُها وأمنّيها، والخواطب الموعودات يغشين الدور ويقتحمن الخدور باحثات عن الثراء الضخم في أي فتاة كانت؛ حتى اهتدين إلى ابنة المرحوم (م. باشا) وكان من الأغنياء المذكورين، فلا مساغ للشك في ثروته، ولا وجه للسؤال عن ملكه. وكان العجب أن تظل ابنته مغمورة حتى تكشف عنها الخاطبة، ولكن أعجب العجب أن يشترط أهلها عقد الزواج من غير رؤية، وتعجيل يوم الزفاف من غير مهلة. وكان لا يعنيني أن أسأل الخاطبة عن حِلية الخطيبة، فإنها إن تكن جميلة ظفرت بالحسْنيين، وإن تكن دميمة كان لها معي بحكم زواجها بيت، ولي مع غيرها بفضل ثروتها ألف بيت!

وفي الحق أني تمثلتها حين دخلت بها كومة عالية من اللحم والشحم أضفوا عليها أفواف الوشي وشفوف الحرير، وفي ذروة الكومة نتأ رأس كرأس أبي الهول طوقوا أسفله بالذهب، وتوجوا أعلاه باللؤلؤ. ولا تسل عن الذراعين والساقين فإنهن قوائم فيل أو أساطين هيكل! ولكنها على بدانتها - شهد الله - خفيفة الظل عذبة الروح. وحسبي منها ألا تكون هُولةً تُقذي العين وتؤذي النفس في الساعات القليلة التي ألمُّ بالبيت فيها

أطلقتْ يدي في ثروتها، على الرغم من معارضة أسرتها، فعشت عيش الأمراء السفهاء أنفق باليدين على خليلاتي ونداماي وهي تنظر وتغضي، وتسمع وتسكت، كأنما وازنت بين جمالهن وجمالها، وقارنت بين حالي وحالها، فلم يسعها غير الرضا بهذا النصيب. وكنت قد خدعت خطيبتي الأولى عن نفسها بقوة النقود والوعود فخضعت لي خضوع المنومَّة. ثم ركض بي في طريق الغواية فرس الهوى الجموح، وخلفت في غبار النسيان حليلة يذيبها فقدُ زوجها ومالها فتموت، وخليلةً يدلهها ضياع أملها وشرفها فتُجن!. . .

لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الأبصار. ما كان حديثاً يُفترى؛ ولكنه الواقع يا سيدتي يثبت لك أن المال إذا جُعل غاية الزواج كان شقاء لمن وجدته ولمن فقدته على السواء. فهل سمعت حديثاً كهذا الحديث، أو رأيت خبيثاً كهذا الخبيث؟؟

احمد حسن الزيات