مجلة الرسالة/العدد 412/في (عين شمس)
مجلة الرسالة/العدد 412/في (عين شمس)
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
لم أعرف (عين شمس) قبل هذا اليوم؛ ولم يقدر لي أن تصافح عيناي هذه الجنبات الفساح، وتلك الأرض المنطلقة. وما أدري أين كان مني هذا الهدوء السمح، وهذه الطبيعة الضاحكة، وذاك الجمال المنثور هنا وهناك. . . لقد قنعت بنفسي فانطويت عليها، وزهدت في الناس فانصرفت عنهم، وقضيت في القاهرة سنوات فإذا أنا أعيش في هياكل الوحدة، ومعابد العزلة، وكهوف لانقطاع البعيد. . . وإذا أنا أحيا بهذه الأجواء التي أنشرها، وهذه الدُّنى التي أنثرها، وتلك الرؤى التي أهيم بها. . . وإذا أنا أنتزع قبس الحياة من أعماقي، وأمد زيته من دمي، وأعيش في عالمي الرحب، أطوف فيه، وأسكن إلى ظلاله الوارفات.
- 2 -
وفي القطار إلى (عين شمس) كانت تمر بي كل هذه الضواحي الفينانة، القائمة على برزخ الحياة، المستلقية على قدمي الصحراء، السابحة في بحر النور. . . فأعجب كيف غبت عنها كل هذا الأمد الطويل، وهذا المدى المتباعد. ولكني أثيب إلى نفسي فأذكر أن لي قلباً وقفته على ملاعب الصبا، ومسارح الطفولة، وجنات الغوطة؛ وأن في أعماقي خلجات استأثر بها الحنين، واستبد بها الشوق؛ وأن في أضلعي روحاً تخفق للأسرة الناعمة والبيت النديِّ والوطن البعيد.
لشد ما ملكت عليَّ نفسي هذه الضاحية الضاحكة. . . لقد أحسست فيها الحياة، وشعرت معها بالانطلاق، وامتدت بي آفاق النظر هنا وهناك، لا تحدها عوائق، ولا تقف من دونها حواجز، ولا يمنع عنها النور جدران قائمة وأبنية متراصة.
- 3 -
إن الصحراء النائمة على ذراع الأفق، الممتدة على صفحة الدنيا لتبعث ألواناً من الأحاسيس، وتثير أنغاماً من العواطف، وتبث المعاني الرائعة من السلام والهدوء. . . لا يملك معها الإنسان إلا أن يستجيب لها، ويتحد معها، ويفنى فيها.
لقد وقفت في ساعات الضحى أتأمل هذا الفضاء الواسع فاجتمع عليَّ الألق والشعاع والنسيم. . . كانت الأضواء الراقصة تداعب جفنيَّ، وتريدهما على الإغماضة الخفيفة في ظلال الرؤى والمباهج. . . وكانت النسمات الرخية تعبث بشعوري فتمر عليها باليد الناعمة واللمسة الخفيفة. . . وكان الألق الفضي ينسكب فوق كل شيء، فإذا الدنيا تموج في بريقه المتقد، وتتلألأ في سناه الوضاء.
- 4 -
لم يعد يشوقني إلا أن أنظر إلى بعيد. أشهد الصحراء العارية على شاطئ الأفق. لقد تجردت من كل شيء: من البناء المرتفع والعشب النامي، والشجر المخضل. . . وأوغلت في البعد. . . وذهبت تغتسل في خضم واسع من الزرقة الخفيفة. . . لقد غابت فيه فلم يعد يظهر منها إلا هذه الذيول التي ألقت بها على الشاطئ تتلقى الشعاعات المترهجة، وتكتسي السراب الخادع. . . ثم ظهرت من جديد. . . فإذا الشمس تفيض عليها حلة من نورها الخاطف وألقها الوضاء. . . وإذا هي تبدو صافية نقية ناعمة، طهرتها السماء، وكساها النور، وفاض منها الجلال.
يا لروعة الصحراء!. . . إن رمالها المتراصة لتغني على مسمع الزمن أنشودة رائعة من أناشيد القوة والمجد، وإنها لتوقع لحناً بارعاً من ألحان الكرامة والنبل، وإنها لتكتب صفحات بارزات (في كتاب) الصفاء والطهر. . . فمتى نخلص إلى هذه الصحراء لننجو من غدر المدنية؛ وأثقال الحضارة، وأوضار المجتمع. . .؟ ومتى نعيش على هذه الرمال نستمع إلى حدائها، ونصغي إلى غنائها، وننعم بصفائها الطهور؟؟
- 5 -
أخذت أطوف مع الظهيرة في أطراف الضاحية. . . لا أخشى لفحات الشمس، لأن النسائم اللطاف كانت تذهب بشدتها وتحيلها ضوءاً ناعماً، ولوناً زاهياً، ونوراً حلواً. . . ومضيت في جنباتها المتباعدة؛ ووقفت أمام هذه الدارات المنثورة على أكناف الطرق أشهد بساطتها المحببة. . . كان أروع ما فيها هذه الحدائق القائمة على كتف الصحراء، وهذا الياسمين المنتثر على الرمال الصفراء، وتلك الأزاهير الفواحة في الأرض الجدباء. . . لقد ضمت عالمين متباعدين فألفت بينهما، فإذا الخضرة الزاهية تتموج على حفافي الصحراء الصامتة؛ وإذا الزهر الندِي يقبل الرمل الحالم، وإذا دنيا الحضارة والترف تتآخى مع دنيا الجلال والخشونة، في عالم رائع أخاذ.
- 6 -
كان كل شيء في (عين شمس) يسلمني إلى سلسلة بعيدة من مفاتن الجمال. . . لقد أحسست النشوة في كل نظرة، ووجدت الهدوء في كل مشهد، وأحببت الصحراء فوق ما كنت أحبها، وفنيت في أجوائها المتسعة، وفي فضائها الرهيب. . . ولم ألق الخشوع بمثل ما لقيته في فناء مسجدها الجامع. . . لقد صليت على الرمل الممتد. . . فإذا أنا أحلق في عوالم مُثلى وسموات عليا، وإذا أنا أنسى كل شيء وأغيب عن كل شيء، وأن هدفي كل ما حولي، وإذا أنا أنشد الحقيقة الحقة، والخير المحض، والجمال المطلق. . . وأتلمس إلى ذلك الهداية والنور، وأحس اليقين والاطمئنان؛ وأجد من اللذاذات ما لم أجده من قبل في مكان.
- 7 -
حين جلست في المساء أنتظر أن ينشق هذا الهدوء الضافي عن القطار الصاخب، كان كل ما حولي يرتل نغمة السكون على هدهدة الليل الهابط. . . لقد انتشرت على صفحة السماء قطع متناثرة من الغيم الوردي الزاهي، واستعارت الدنيا لحظات هذا اللون الجميل، فصبغت به كل ما حولها. . . ثم لم يلبث أن اضطرب واهتز كما يهتز الطير الذبيح. . . لقد طمس عليه الليل، فغابت آخر شعاعاته من الأفق حين كان عامل المحطة يبعث أول ألسنة النار الحمراء في كومة من الخشب المشتعل.
. . . لشد ما تمنيت أن أكون في (عين شمس) هذا العاملَ السعيد. . .!
(القاهرة)
شكري فيصل