انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 411/الليبيون. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 411/الليبيون. . .

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 05 - 1941



للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي

من المتفق عليه بين علماء الجيولوجيا أن شمال أفريقيا لم يكن صحراوياً في العصور الغابرة، بل بالعكس كانت أمطاره غزيرة مما ساعد على جريان الأنهار فيه واخضرار أراضيه ونمو الغابات، وبالتالي على تكوين البحيرات الشاسعة التي كانت ملجأ للتماسيح والجاموس البحري، وعاملاً على وجود المستنقعات التي تحلق فوقها الطيور؛ وكانت هذه المستنقعات تشغل الأماكن المنخفضة وما زالت آثارها باقية إلى الآن تشهد بما كانت عليه الصحراء الكبرى في العصور القديمة؛ وكانت ترتع حول هذه البحيرات وبين أشجار الغابات أنواع من الحيوانات، بعضها من آكلة اللحوم وبعضها من آكلة العشب، ولكنها انقرضت بعض أجناسها واختفت نهائياً بمرور الزمن نتيجة لحدوث تحول في الأمطار أدى إلى نقصانها شيئاً فشيئاً في الصحراء وازديادها في أواسط أفريقيا مما نتج عنه جريان نهر النيل الحالي، فأضطر سكان شمال أفريقيا، ومنها (الليبيون) أن يهجروا أقاليمهم ويتجمعوا حول الأماكن الخصبة الجديدة التي كان من بينها نهر النيل وواديه، وإلى الآن لم يعرف بالضبط تاريخ صحيح لبدء هذا التجمع، وقيل أنه يرجع إلى ستة عشر ألف سنة مضت، ومن هنا نرى أن الليبيين كانوا عنصرا أساسيا في تكوين الشعب المصري القديم الذي ازدهرت المدنية على يديه، والذي سبق الشعوب الأخرى في مضمار الحضارة. أما من بقي من الليبيين في مكانه، فقد كان على اتصال بمصر أهلها

وبالأسف أن معلوماتنا عن الليبيين في تلك العصور القديمة قليلة جداً، وكل الذي نعرفه أنهم كانوا يعيشون على هيئة قبائل متفرقة مثل الآن، والقبائل الملاصقة لحدود مصر كانت تمتاز بشعرها الأسود وعيونها العسلية وهي قبائل التحنو، أما قبائل المشواش فهي إلى غرب القبائل الأولى، وقد سكنت الصحراء المجهولة الحد وقتئذ، وأهلها ذوو شعور شقراء وعيون زرقاء، وهناك أسماء أخرى كانت تطلق عليهم منها رابو وقد ذكر هيرودوت أبو التاريخ هؤلاء القوم تحت أسم ماكسيز وهم بلا جدال أصل البربر الذين استعمروا شمال أفريقيا فيما بعد، والمشواش قوم متمدينون نوعاً ماهرون في الفنون الحربية مسلحون جيداً

وكان الليبيون ينظرون إلى مصر الممثلة في واديها الخصيب بعين الطمع خصوصاً وأنهم قد أصبحوا في صحراء جرداء مما دفعهم إلى محاولة الاستيلاء على مصر للحصول على خيراتها العظيمة كلما حانت الفرص، فليس بغريب بعد ذلك أن يصفهم أحد ملوك مصر وهو منفتاح (بأنهم يمضون أوقاتهم محاربين ليملئوا بطونهم كل يوم، وقد أتوا إلى مصر ليحصلوا على ما تحتاج إليه أفواههم) وكان الوجه البحري دائماً عرضة لهجوم الليبيين القاطنين غربية وأنه لكثرة هجرة هؤلاء القوم إليه انصبغ الجزء الغربي منه بالصبغة الليبية التي بقيت ظاهرة فيه حتى زمن هيرودوت المؤرخ اليوناني. وتشير اقدم أخبار الوجه البحري إلى منازعات ومشاحنات مستمرة مع الليبيين. على أنه عندما تمكن الملك مينا من توحيد الوجهين وتثبيت عرشه وجه همه لتأمين البلاد من هجمات الليبيين فشن عليهم الغارات وأسر منهم حوالي مائة وعشرين ألف نسمة عدا مليون وأربعمائة وعشرين ألفاً من الأغنام، وأربعمائة ألف من البهائم كما جاء ذكره في الآثار المصرية. وكانت هذه الغارة بمثابة طرد عام لهم. على أن هذه الضربة القاسية التي حلت بهم لم تمنعهم من الإغارة على مصر بل كانوا ينتهزون فرصة حكم الملوك الضعاف للهجوم على الوادي وسلب ما يحتاجون إليه مما أقلق بال فراعنة مصر؛ ولهذا نراهم يتخذون سياسة حازمة نحو الليبيين ويقومون بالحملات عليهم تارة، وأحياناً يلجأون إلى سياسة سلمية لإيقاف هذه الغارات بأن يتزوجوا من الليبيات لعقد أواصر الألفة والسلام. ومن أنصار السياسة الأولى مينا كما تقدم، وسمورع أحد ملوك الأسرة الخامسة الذي ترك لنا نقشاً غائراً يمثل انتصاره على اللوبييون وفيه نرى جماعة المهزومين من قبيلتي (يافت) و (باش) ومعهم قطعانهم من البقر والماعز والحمير وهي تعد بالآلاف. أما أمنحعت الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة فقد أرسل نجله سيزوستريس الأول على رأس جيش ليعاقب الليبيين على أثر غارة شنوها على الدلتا فثأر منهم. وأهم عمل قام به أنصار هذه السياسة هو ما فعلته الملكة حتشبسوت حيث أجبرتهم على دفع الجزية. وأما الذين اتبعوا سياسة المصاهرة فهم قليلون وعلى رأسهم الملك خوفو العظيم باني الهرم الأكبر الذي تزوج من سيدة ليبية

وحدث حوالي القرن الثاني قبل الميلاد أن استوطن بعض الليبيين الواحتين اللتين هما جنوبي وغربي الفيوم، وتقدم بعضهم حتى بلغوا الشاطئ الغربي لفرع النيل الكانوبي المعروف وقتئذ بالنهر الكبير. ولما زاد عدد الليبيين بالدلتا تجاسروا وتطاولوا على فرعون مصر فجمعوا شملهم وكونوا قوة نظامية للاستيلاء على أرض مصر، وكانوا وقتئذ تحت قيادة ملكهم المدعو مريي وهذا أجبر بدوره التحنو أن ينظموا إليه، ثم استعان بقرصان البحر الأبيض المتوسط وأخذوا يزحفون على مصر للاستيلاء عليها والاستيطان بها. أما حلفاؤه من قرصان البحر المتوسط فكانوا مكونين من سردينيين وصقليين ومن باقي أهالي جزر البحر الأبيض المتوسط، وكان هؤلاء القوم قد عبروا البحر كثيراً فيما مضى وإليهم يعزى أصل الليبيين البيض البشرة (يرى هذا المرحوم جيمس والأستاذ هنري برستدت)، وبذلك أصبح الليبيون يهددون كيان الدولة المصرية. وكان على عرشها في ذلك الوقت منفتاح فرعون موسى عليه السلام - على ما يقال - فأستعد هذا الفرعون لخطرهم وأمر موظفيه بحشد الجيوش وتجهيزها. وكان الليبيون في ذلك الوقت قد أخذوا يتقدمون نحو مصر فلما أبصروا خيراتها العظيمة ازدادت همتهم واشرأبت أعناقهم إليها، فاخترقوا الحصون المصرية الغربية، وهناك عند مدينة بريرع التي نجهل موقعها الآن اشتبكت الجنود المصرية مع الأعداء وتمكنت من طردهم بعد أن كبدتهم خسائر فادحة وأجبر ملكهم مريي على الفرار إلى وطنه تاركاً جميع أسرته يائساً من النصر بعد أن قتل أولاده الستة؛ ثم خلعه قومه وملكوه عليهم غيره. ويستدل من القتلى والغنائم أن جيش الليبيين وحلفائهم كان لا يقل عن عشرين ألف مقاتل وهكذا نجت مصر من الغزو الليبي

توفي الملك ورمر خليفة الملك السابق المعزول فورث العرش ابنه تيمر وهذا صمم على الانتقام لشرف الليبيين من فرعون مصر، وكان في ذلك الوقت رمسيس الثالث، ولتنفيذ غرضه نراه يتحالف مع قرصان البحر الأبيض المتوسط ثانياً ولكن سرعان ما هزمهم رمسيس الثالث بالقرب من مدينة (رمسيس الثالث معاقب أهل التمحو (لببا))

أمام هذا الفشل المتكرر لم ير الليبيون فائدة من القيام بحملات ضد مصر لكي يستوطنوها ولكنهم مع ذلك قاموا بهجرة عظيمة ثانية إلى غربي الدلتا على أثر غزو قبائل المشواش لبلادهم التي أتلفوها ثم أجبروهم أن يتحدوا معهم لمحاربة مصر، وتولي قيادة هذه الحملة الجديدة مششر بن ملك المشواشيين المدعو كبر ولكن الفشل في هذه المرة أيضاً كان حليفهم إذ هزمهم فرعون مصر فولوا هاربين بعد أن قتل قائدهم وأسر والده مع عدد عظيم منهم واعتبر رمسيس الثالث هذا النصر العظيم عيداً يحتفل به سنوياً وسماه (عيد قتل المشواشيين) ولقب جلالته نفسه بعد ذلك بالألقاب الآتية: (حامي مصر والمدافع عن الأقطار وغازي المشواشيين ومتلف أرض التمحو)

هذه هي المرة الثالثة التي صدت فيها القبائل الغربية عن الدلتا ونيلها. ولم يعد بعد ذلك عند رمسيس الثالث مجال للخوف من تلك الجهة بالرغم من أن قوة الاستعمار عند الليبيين لم تنعدم بالمرة. والمعروف أن هؤلاء القوم لم تتحد لهم كلمة بعد ذلك، لكنهم أخذوا يهاجرون مسالمين إلى القطر المصري كما فعلوا قبل حكم الأسر، وكان ذلك على فترات متقطعة وبنفر قليل لم يقاومهم فرعون مصر ولم يهتم بهم كثيراً لعلمه بضعفهم وعجزهم، ولكن بفضل هذه المهاجرة السلمية استطاعوا ان يبسطوا بعض نفوذهم على الوجه البحري. ومما ساعدهم على ذلك زيادة الجنود الليبية المأجورة بالجيش المصري باطراد. وكان فراعنة مصر قد لجئوا إلى استخدام الجنود المرتزقة في أواخر الدولة الحديثة من التاريخ المصري القديم، وأصبح الجيش المعسكر بالدلتا لحفظ النظام هناك تحت قيادة ضباط مشواشيين حتى إنه حدث في عهد الأسرة الحادية والعشرين أن قصرت بعض الوظائف الهامة عليهم

ثم ظهر من بينهم رجل قوي ثري يدعى شيشنق لقب نفسه (برئيس المشماس العظيم) استطاع أحد أحفاده أن يعلي من نفوذ آسرته الليبية ثم انتهز فرصة ضعف آخر الملوك الأسرة الحادية والعشرين أو انقراض ملوكها واستولى على عرش مصر وأتخذ له مدينة تل بسطة عاصمة لملكه وكان ذلك في عام 945 ق م وقد اعتبر مانيتون المؤرخ المصري القديم شيشنق هذا مؤسساً للأسرة الثانية والعشرين وبذلك استطاع الليبيون التربع على عرش مصر بلا تعب ولا حاجة إلى امتشاق الحسام بعد مضي مائتي سنة تقريباً من وفاة رمسيس الثالث الذي سحقهم سحقاً لما علم بنياتهم الخبيثة نحوه ولكي يوطد شيشنق عرش أسرته زوج ابنه بكريمة آخر الملوك الأسرة الحادية والعشرين لكي يمنح ابنه حقاً شرعياً لتولي عرش مصر بعد وفاته وذلك عن طريق زوجته

حاول شيشنق هذا إصلاح حال مصر وإرجاع أملاكها القديمة فنراه يبسط نفوذه على فلسطين تاركاً ولايتها لسليمان الحكيم كما استرجع النوبة. والخلاصة أن مصر تمتعت برخاء نسبي في أول عهد الحكم الليبي بعد أن ساء حالها. وقد كشفت آثار بعض ملوكهم في العام الماضي فوجد معظمها من الفضة وهي كما نعلم كانت في عهد الفراعنة أغلى من الذهب مما يدل على حياتهم المترفة. ويجب علينا آلا ننسى أن الحكام الليبيين تطبعوا بالطباع المصرية وحاكموا أهلها في العادات وعبدوا المعبودات المصرية وقدموا إليها القرابين كأهل البلاد تماماً، ولكن كل هذا لم يمنع سقوط عرشهم في عام سنة 745ق م على أثر ازدياد نفوذ قواد الجيش المأجورين فقووا مركزهم في مدن الوجه البحري وعملوا على تقسيم القطر المصري إلى عدة إمارات حربية صغيرة وبذلك يكون طول مدة الحكم الليبي في مصر حوالي 200 سنة 945 ق م تقريباً

ويجب ألا ننسى أنه لولا المشاغبات التي كان يقوم بها الليبيون لما فكر فراعنة مصر في غزوا تلك البلاد لفقرها، اللهم إذا استثنينا الواحات حيث تزرع الكروم التي كانت لها شهرة خاصة وزيتها الذي يطلق عليه الزيت اللوبي، وكان يستعمل حسب التقاليد المصرية لذلك الأجسام.

مصطفى بعيو الطرابلسي

كلية الآداب - إسكندرية