انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 408/هل انبعث الأزهر؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 408/هل انبعث الأزهر؟

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 04 - 1941


يغلب في ظني أن الأزهر انبعث فسمع فرأى ففكر! انبعث كما ينبعث الربيع في أوائل مارس، تراه الشجر سليب جديب الأرض مقرور النسيم، ولكن أسرار الحياة تكون - من وراء بصرك - قد انبثت في الثرى، وجرت في الأصول، وسرت في الجو، فلا تلبث أن تستعلن فتسعد الأرواح بجميل الزهر، وتمتع الأجسام بطيب الثمر

هؤلاء هم شباب الأزهر الجديد أساتذة وطلابا، قد جلت نفوسهم ثقافة العصر، وصقلتها مدنية الحاضر، فاشرق عليها أشعة النبوة ساطعة بعدما حجبها الغمام والقتام حقبا بعد حقب. فهم وحدهم الذين يدركون مسافة البعد بين روح الأزهر وحياة الناس؛ وهم وحدهم الذين يملكون تزييف الأباطيل المقدسة التي اتسمت بسمة الحق، وتسمت باسم الدين؛ ولكنهم حول هذا الهيكل البالي أشبه بالأغصان الخلفة التي تنبت نضيرة على اصل الدوحة العتيقة، ثم لا يتسنى لها الغلظ والسموق لأن الجذور الشيخة لا تمدها بالغذاء كله، والفروع الميتة لا تمكنها من الهواء كله. فإذا لم يرسل الله رسول الإصلاح ويؤته ما آتى أولي العزم من الرسل، فيقطع من أعالي هذه الدوحة ما اعوج، ويجتث من أسافلها ما ذبل، ويكتشف عن جذعها الواهن ما التف عليه من طفيلي النبت، بغي الجفاف على هذه الأفنان النواشئ فتذوي في زهرة العمر وبكرة الربيع

دفعني إلى تعجيل هذه البشرى وتسجيل هذه الظاهرة في هذا الوقت الذي شغل الأذهان بوحوش النازية الهاجمة ما قرأته للأستاذ شلتوت اليوم، وللأساتذة المدني والبهي والشرقاوي من قبل، وما سمعته من صفوة من أولئك الأساتذة الأزهريين الشباب ضمهم مجلس من مجالس الرسالة؛ فلقد كنت - علم الله - أدعو إلى إصلاح الأزهر وفي نفسي خلجات من اليأس؛ لأن أهله الذين وقفوا عقولهم عند حد النقل، وقصروا جهودهم على درس القديم: يشرحونه، أو يحشونه، أو يقررونه، أو يختصرونه، أو ينظمونه، حتى قر في نفوسهم أن القديم افضل من الجديد، والماضي خير من الحاضر؛ فالقرن الأول خير من الثاني، والثاني خير من الثالث، وهلم جرا حتى يجعلوا القرن العشرين شر القرون، وعلماءه أجهل الناس، فلا يجوز لفهم أن يبتكر، ولا لعقل أن يعترض، ولا للسان أن يقول: أن في الإمكان أبدع مما كان؛ أولئك لا يستجيبون لدعوة الإصلاح لأن الإصلاح تتغير أو ابداع؛ وقبول التغيير محال ما لم يتغير ما بالنفس، وإجازة الإبداع باطلة ما لم يتضح معنى البدعة. ومن أجل ذلك كان لكل مهدي (عليش)، ولكل محمد عبده (رفاعي)، ولكل مراغي (. . .)

أجل، كان يخالجني اليأس من نهوض الإصلاح قبل أن اتصل عن طريق الرسالة بهذه الطبقة الممتازة من الأساتذة الشباب وتلاميذهم الإنجاب في كليات الأزهر الثلاث. فلما عرفتهم وفهمتهم انبثق في صدري الأمل في أن الأزهر سيعود ويقود، وإن الإسلام سيحكم ويسود؛ والأمر رهن بدفن الرميم وكسح الهشيم وانفساح المجال وتحرر العقلية العامة

أعجبني من الأستاذ شلتوت وأصحابه خلوص الدين في قلوبهم، ونصوع فكرته في عقولهم، وفهمهم إياه على أنه دين هذا العصر وشريعة هذا الناس، فنحن ابصر بموقع الحكمة فيه، واجدر باستنباط الرأي منه. والدين كالشمس، لا هي تراث ولا هي اثر. وإنما الشمس للحاضر لا للماضي، وللحي لا للميت، يستفيد منها الفرد بعد الفرد، والجيل بعد الجيل؛ ثم يقتضي اختلاف النظر وتقدم العلم أن يختلف فيها العلماء، وتتعارض في نظامها الآراء؛ ولكن رأي فيثاغورس أو بطليموس، لا يجوز أن يوازن برأي نيوتن أو هرشل

هذه هي المرونة البصيرة التي توجبها سنة الحياة ولا يكون بدونها إصلاح ولا تطور. ولم يصب الأزهر بهذا الجمود إلا لأنه فقد هذه المرونة، فلم يبال فعل الزمن في الدنيا وفي الناس. لذلك لم يعلم التاريخ جامعة من جامعات الأرض بقيت في القرن العشرين على ما كانت عليه في القرون الوسطى غير الأزهر!

كان الأزهر اسبق الجامعات الباقية في الدنيا إلى الوجود. أنشئ عام 972م وأنشئت جامعة بولونيا عام 1100م وجامعة باريس سنة 1150م؛ ثم تتابعت بعدهن الجامعات في أوربا وأمريكا وكانت كلها تنحو منحى الأزهر في النظام والمنهاج والطريقة؛ إلا أنها سايرت الزمان وأطاعت التطور واستجابت لداعي الحاجة، حتى أصبحت موردا ومرادا لأسمى ما بلغه العقل الإنساني من الثقافة والمعرفة. ولبث الأزهر وحده حيث كان يمضغ كلام السلف، ويردد لغو الالسن، ويعلل ضلال الأقلام، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك، حتى أصبحت المدارس الأولية آدني منه إلى طبيعة العصر، وافهم منه لمعنى الحياة!

لسنا اليوم بسبيل البحث في علل هذا الجمود المزمن المحزن، فذلك شيء تتصل أسبابه بما انتاب المسلمين من ضلال العقيدة وشيوع الجهالة وفساد الحكم. وبحسبنا أن نسجل نهاية هذا الجمود بما بدا على بعض الأساتذة واكثر الطلاب من الطموح إلى السبق والنفور من التخلف والزراية على نهج المعلم وطريقة الكتاب. ومن تفاعل في نفسه القلق والاشمئزاز والسخط لسوء حال أو فساد أمر، شق عليه الاطمئنان إليه والاحتفاظ به. وتغير النفس إيذان بتغير الحال، والشعور بالنقص أول مراتب الكمال!

أحمد حسن الزيات