مجلة الرسالة/العدد 403/دوائر معارفنا الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 403/دوائر معارفنا الإسلامية
للأستاذ عباس محمود العقاد
أقتُرح على المجمع اللغوي تأليف معجم للألفاظ القرآن الكريم، فذهبت أنظر في المعاجم والموسوعات التي عندنا وعند غيرنا من هذا القبيل، فلم ألبث أن رأيت بعد مقابلة يسيرة أننا في هذا الباب جد فقراء
عند الأوربيين موسوعات مختلفة الأحجام والأغراض لأسفارهم الدينية ومأثوراتهم المقدسة
فللتوراة والإنجيل موسوعات صغيرة تفسر الأسماء والأعلام والوقائع والألفاظ، فلا تذكر في الكتابين اسم رجل أو بلد أو قبيل إلا استطعت أن ترجع إليه في موضعه، فتعرف شيئا عن تاريخه وموقعة ومناسبة ذكره؛ فإذا بك أمام كتاب يكاد أن يفيدك في كل شئ، ولا تنحصر فائدته في فهم التوراة والإنجيل
ولهذين الكتابين موسوعات صغيرة أيضا تتناول الآيات والأجزاء على الترتيب، فتقرن بين بعضها وبعض، وتقابل بين الفرائض المختلفة من قديم وحديث، وتفسر مدلولاتها على حسب العصور والمصادر اللغوية، فتجمع بين معرفة مدلولاتها على حسب العصور والمصادر اللغوية، فتجمع بين معرفة الشريعتين الموسوية والمسيحية، وكل معرفة لها بهاتين الشريعتين اتصال
وعندهم موسوعة للطيور التي ورد ذكرها في التوراة، أو للأشجار والأزهار التي تكلم عنها الأنبياء، فيستفيد منها الباحث في علمي الحيوان والنبات، كما يستفيد منها الباحث في الدين
أما الموسوعات المطولة الشاملة فهي ذخائر من المعلومات لا تند عنها دانية ولا قاسية من موضوعات المسيحية أو الموسوية، وقد يلتبس على القارئ الأمر بين دوائر المعارف العامة التي تتناول كل شئ وكل مادة، وبين دوائر المعارف الدينية التي يظن من عنوانها إنها مخصصة ولو بعض التخصيص لناحية من نواحي الحياة الإنسانية
بل عندهم معاجم صغيرة للإسلام ليس لها نظير في اللغة العربية ولا في لغة من اللغات التي يتكلم بها المسلمون
من ذلك قاموس الإسلام الذي وضعة توماس باترك قبل نيف وخمسين سنة ثم أ طبعة قبل بضع سنوات
فهذا القس قضى في التبشير بين المسلمين والبرهميين والبوذيين ببلاد الهند اكثر من عشرين سنة، ودرس خلال ذاك ما استطاع أن يدرسه من التواريخ والمباحث الإسلامية، ثم جمعها في هذا القاموس أو هذا المعجم كما قال هداية للموظفين الذين يتولون الحكم بين المسلمين، ومساعدة للمبشرين الذين يجادلون علماء الإسلام، وللسائحين الذين يطوفون بلاد المشرق، وللباحثين الذين ينظرون في المقارنة بين الديان، ولكل من يشغله عمله أو نزعة فكره بشأن من شئون المائة والخمسة والسبعين مليونا (هكذا) من الأناسي الذين يتبعون محمدا عليه السلام.
ولكني أقول معترفاً إنني أرجع إلى هذا القاموس حين يستعصي علي الرجوع إلى المطولات الدينية للوقوف العاجل على مسالة من المسائل الإسلامية، سواء تناولت الفقه أو التاريخ أو تقويم البلدان، ولا أرى مناصاً من مراجعة هذا القاموس وأمثاله على عامي بما فيها من الزيغ المقصود ومن التعصب الذي لا تخلو منه كتب المبشرين
ويتفق كثيرا أن يخوض بعض الجلساء في مسألة من مسائل الفقه الإسلامي لا يحضرنا الفقيه الحجة الذي نستفتيه فيها، أو نستدل منه على مراجعها، فما هي إلا لحظات حتى أوافيهم بالفتوى المجملة، أو بالدلالة على مظانها ومواقع استقصائها. ويعجبون فيزداد عجبهم حين أطلعهم على قاموس من هذه القواميس التي ليس اسهل من البحث فيها: كتاب إنكليزي يدلنا أسرع دلاله على مراجعنا نحن المسلمين أبناء العربية. . . فلم لا نعجب ويعجبون؟!
إننا فقراء.
وقد نعلل الفقر في علوم الدنيا بخروجها في الزمن الحديث من أيدينا، فهل خرجت من أيدينا كذلك علوم ديننا؟ وهل البواعث الدينية التي عندنا أقل من أن تحقق لنا ما يحققه الغربيون ببواعث الشوق إلى المعرفة أو بواعث الشوق إلى السيادة؟
الحق أن الشوق إلى معرفة الدين نفسه تحتاج قبل ذلك إلى شوق المعرفة في أعم معانيها، وأن العجز عن العلم والسيادة يورث العجز عن الإيمان والعقيدة، حتى بين المتدينين المعتقدين وأني لأجيل الفكر في هذا وأشباهه إذا بالمجلد الرابع من (دائرة المعارف الإسلامية) يصل إلى يدي، وهي الدائرة التي ألفها نخبة من المستشرقين بالغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وثابر على نقلها إلى اللغة العربية الأدباء الأساتذة: (أحمد الشنتناوي، حافظ جلال، عبد الحميد يونس، إبراهيم خورشيد) من متعلمي الأدب والقانون
قلت: وهذا عمل ضخم كنا نحن أبناء العربية أولى بابتدائه وسبق الأمم كافة إليه
وأستضخمت مع ذلك نجاح هؤلاء الأدباء الشبان في الوصول بالترجمة إلى هذه المراحل البعيدة، لأن عملهم في ترجمتها أصعب بين المشارقة من عمل المستشرقين في تأليفها وتحضيرها بين البيئات الأوربية
هناك تمهيد ملايين يعين على هذه الأعباء، وهنا تمهيد أفراد معدودين قلما يعاونهم أحد، وقد يثني عزائمهم ملايين!!
ففي بضع سنوات أتم مترجمو الدائرة الإسلامية ترجمة آلاف ثلاثة من الصفحات المزدوجة: كلها مصطلحات وإشارات مختزلة: وإحالة إلى مراجع مختلفة، وفيها من شعاب المعرفة ما ليس مقتصرا على الدين ولا على التأريخ ولا على السياسة ولا على المواقع الأرضية، بل يشمل هؤلاء جميعا ويزد عليها ما ليس يحصى
ولابد أن يدخل في حساب هذه السنوات حساب التبويب والتقسيم وإعادة الحروف الإفرنجية إلى الأبجدية العربية
فقبل أن يتناول القلم بالترجمة صفحة من ألوف الصفحات التي اكتظت بها المجلدات الإفرنجية ينبغي أن تترجم المواد واحدة واحدة ثم تدون في أجذاذها وتنتظم في ترتيبها الجديد: فلا تأنى الكلمات المبدوءة بحرف العين في المجلد الأول، بل تؤخر إلى موضعها من ترتيب الأبجدية العربية، ولا تبقى (أشبيلية) مثلا في حرف السين كما تكتب في الإفرنجية بل تقدم إلى حرف الهمزة، ولا تتأخر أسماء إسماعيل وإبراهيم وإدفو إلى الحرف التاسع أو الخامس بل يؤتى بها مع الحرف الأول والأجزاء الأولى. وليس هذا العناء بأقل من عناء الابتداء بتحضير المواد والكلمات. ولعل النقل وإعادة الترتيب عرضة لأخطاء لا يتعرض لها البادئون بتدوين الأسماء كما تكتب في لغات الأوربيين
فالوقت الذي يقضي في هذا التبويب الجديد ليس بالوقت القصير، واستدراك الخطأ فيه من أصعب الأمور، ووراء مشكلة الوقت مشكلة الإقبال على هذه الأعمال، ومشكلة المثابرة وهي أعضل ما نعانيه في كل عمل مديد الأجل متشعب الفروع، ومشكلة الأزمات الدولية والأزمات الداخلية التي تثقل على كاهل التجارة الرائجة والسلع الضرورية للمعيشة اليومية، فكيف بتجارة العلم وسلع القراءة!
قال الأدباء المترجمون في الجزء الأول من أجزاء الترجمة العربية: (. . . اختمرت فكرة ترجمة تلك الدائرة في رءوسنا منذ أعوام ثلاثة فعكفنا على دراسة المشروع من جميع نواحيه وألممنا بكل الصعوبات المادية والمعوية التي كثيرا ما تعترض الأعمال العلمية والأدبية في مصر، وظلت هذه الصعوبات حائلاً بيننا وبين تحقيق أمنيتنا، ولعلها كانت عين الصعوبات التي وقفت في سبيل غيرنا ممن حاولوا تحقيق تلك الأمنية، حتى لاح لنا أننا كنا مخطئين حين حاولنا أن نحل الصعاب كلها دفعة واحدة، فرأينا أخيرا أن نقسم العمل إلى أقسام ثم نشرع في التطبيق خطوة خطوة، وشعارنا أن كل شيء متيسر مستطاع)
وعندنا أن هذا الخاطر هو العلامة الأولى للعزيمة العاملة، لأن القدرة على تقسيم الصعوبات ضرب من القدرة على تذليلها، وليس أدل على النصر من قدرة القائد على تفرقة الخصوم وهزيمتهم فرقة بعد فرقة. فلو لم يكن الأدباء مترجمو الدائرة أهلا لفضيلة المثابرة لما كانوا منذ البداية أهلا لتصغير الصعوبات بتفريقها والتغلب على أجزائها، أو على رهبة الأحجام التي تلازم من يجمع الصعوبات ويستضخمها ويزيد عليها من الوهم ما ليس فيها
لقد شرع بعض الكبراء كما شرع بعض الدواوين الحكومية في طبع موسوعات دون هذه الموسوعة في حجمها وتعقيدها، وكان منها ما ليس يحتاج إلى ترجمة قبل طبعه، ومنها ما يحتاج إلى ترجمة ولا يحتاج إلى إعادة تبويب. ثم وقفوا عند البداية أو بعد خطوة قصيرة من البداية، فانفراد الأدباء مترجمي الدائرة بالمثابرة على هذا العمل الكبير مزية جديرة بالتسجيل في حياتنا الفكرية، ولهم حق في التهنئة بما جاهدوا وثابروا على قدر هذه الفضيلة النادرة، وعلى قدر الحاجة إلى تلك الدائرة، وهي حاجة توجبها الرغبة القومية كما توجبها الرغبة في العلم والثقافة
لكننا لا نكتفي بالتهنئة، بل نضيف إليها اقتراحاً في صدد ما أسلفناه من شكوى الافتقار إلى الموسوعات الموجزة في أمثال هذه الموضوعات. فمن اليسير على من ينهضون بعبء الدائرة الكبرى أن يتابعوا اختصارها وهم يترجمونها وينشرونها لتخلص لهم من ذلك في سياق العمل موسوعة صغيرة ينتفع بها عدد من القراء أكبر ممن ينتفعون بالموسوعة الكبيرة؛ بل ينتفع بها من لا يقدرون على التوسع في العربية ولا في اللغات الإفرنجية، وهم أحوج إلى النفع وأولى بالعناية، وليس النقص الذي نتمه بتفهيم هؤلاء دون النقص الذي يتم باستيفاء مراجع الإفاضة والاستقصاء.
عباس محمود العقاد