انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 4/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 4/العلوم

​سبيل الإنسان والطبيعة​ المؤلف احمد زكي
العلوم
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 03 - 1933



سبيل الإنسان والطبيعة.

للدكتور احمد زكي. أستاذ الكيمياء بكلية العلوم.

الطبيعة تسير في كل ظواهرها وحوادثها على قوانين مرسومة منذ الأزل، وستسير فيما يظهر على تلك القوانين الموضوعة إلى الأبد.

وقد كان الإنسان القديم يعجب بهذه الظواهر، وتأخذه الرهبة، ويلبسه الإجلال والإكبار عند اعتبار تلك الحوادث، ولكن لم يحفزه شيء إلى تفهمها، ولم تجش في نفسه رغبة إلى تعرف أسبابها، لأنها كانت تستأذن على عقله فُرادي وأشتاتا ثم تُركَم فيه على غير نظام كما يركم المتاع عند تاجر الأمتعة القديمة، فالحذاء البالي إلى جانب المرآة الصقيلة، والكتاب القيم بجوار قدر الطعام. وكان عقله صبياً، والعقل قد يصبو في الشيخ، والعقل قد يشيخ في الصبي، وعقل الصبي في القرن العشرين قد يزيد على عقل الشيخ في قرون الحياة الأولى، وعقلي وعقلك اليوم ليسا من خلق هذا الجيل، بل هما تراث لأجيال جاء دوري ودورك في احتوائه، وقد أورِّثه أعقابي من بعدي وتورثه أعقابك من بعدك وفيه نقص، وقد أورثه وتورثه وفيه زيادة، ولكن لا شك أن ما يورثه جيل جيلا من ذلك يزيد بمر الأجيال بزيادة التجارب وتسلسل الثقافات وتتابع المدنيات.

ولما تفتح الذهن الإنساني أخذ يدرك بين ظواهر الكون العديدة أشباها برغم تراكمها، وبدأ يبصر بين الأشياء منها وجوها للخلاف برغم خفائها وتعسرها، وأخذ يرتب ما دخل عقله شتيتا فيقرب بين المتعارفات، ويباعد بين المتناكرات، وأصبح ما يدخل عقله يقصد من فوره إلى مكانه من ذلك النظام وما يستأذن على رأسه يُؤذن له ولكن من باب دخل فيه من قبله أجناسه، وبهذا العقل المنظم، وبما فيه من وحدات متآلفة متخالفة مترابطة، أخذنا نحن بني الإنسان نتفهم الطبيعة، فاستكشفنا أن لها قوانين، وأن لها مُثُلا تنسج عليها في كل ما تصنع، ونماذج تحتذيها في كل ما تأتيه.

وقد يتراءى لنا نحن بني العدم والفناء أن الطبيعة تشذ عن مثلها أحياناً، وتخرج عن مألوفها أطوارا، وما في الطبيعة من شذوذ، ولا هي تخرج عن مألوف، وإنما هو سوء فهم منا لمألوفها، وقصور منا عن إدراك نواميسها، وما ذلك القانون الذي شذت عنه، الناموس الذي خرجت عليه، إلا من خلقنا نحن، فنحن الألى أوجدناه، ونحن الذين فرضناه وفرضنا اطراده. فلما لم نجده مطرداً سمينا ذلك شذوذاً، ولما لم نجد القاعدة التي ابتدعناها متبعة أسمينا نواقضها استثناء.

على أننا أثناء ذلك لم نفقد حبنا للنفع، ولم تنقض فينا الرغبة في الفائدة، فكنا لا نكشف سراً ناقصاً من أسرار الطبيعة الا ونتساءل كيف ننتفع به في بيوتنا، وكنا لا نزيح الستار عن عجيبة من عجائب الكون لم نفهمها كل الفهم حتى نتساءل كيف نستفيد منها في مدننا وأسفارنا، وما ضرنا ونحن بنو المادة أن تكون قوانين الطبيعة ناقصة ما دمنا نستهدي بها إلى البخار يحملنا من بلد إلى بلد؟ وما ضرنا ونحن بنو النفع أن تكون لنواميس الطبيعة استثناءات ما دمنا نصنع بعونها الطوائر من المعدن والخشب، ونبني المواخر تشق البحر ولا تعبأ بما فيه من أمواج وأنواء؟ ونجحنا في هذا السبيل نجاحا زاد أقدامنا فيه ثباتاً. فبدل أن كانت الغاية مقصورة على فهم الكون ودرس طبائعه، وقبل أن نفهم الكون وندرس طبائعه فنشتفي من ذلك، تطلعنا إلى محاكاة الطبيعة، إلى إنتاج ما تنتج، إلى خلق ما تخلق، إلى التحريك بمثل ما تحرِّك، والتسكين بمثل ما تسكن، وعمدنا إلى مناهضتها كذلك، إلى إماتة ما تحيي، وإلى إحياء ما تميت، إلى تحريك ما تسكْن وتسكين ما تحرّك، وإلى توجيهها إلى ما أرادت وإلى ما لم ترد. هذه غاية ابن آدم: يريد أن يخلق وهو مخلوق، ويحل الوثاق عن قوى للطبيعة هو بها موثوق، ويسيطر على عالم قليل ما هو فيه، وكان الناس يرون في ذلك افتئاتا من المخلوق على الخالق، فأصبحوا يرون فيه تمجيدا من المخلوق للخالق، وكانوا يرون فيه زندقة ومروقا وعصياناً، فأصبحوا يرون فيه إيمانا وتخشعا وتعبدا، وتبينوا أن سر الإنسان من سر الله، وأن ما يأتيه الإنسان إنما يصدر عن فطرة وفطنة هي لله ومن الله.

حاول الإنسان أن يقلد الطبيعة في أمور عدة، فبلغ غايته في البعض، وفات الغاية في البعض، وخاب في كثير من الأمور.

رأى النبات يخرج ألوانا تشبه ما في الطيف من ألوان ويخرج ألوانا على ما في الطيف من ألوان، ولكن النبات بطيء في عمله، والإنسان خُلق من عَجَل، والنبات لا يجود من ألوانه إلا بالنزر اليسير، والإنسان يريد منها الوافر الكثير، والنبات يجود منها بعدد على كثرته قليل، والإنسان يريد منها عددا كآماله لا حد لها ولا حصر. فأخذ يبحث ويدأب ويصمد ويصابر الجيل بعد الجيل حتى أتى من الأصباغ بما تحسده الطبيعة عليه، أو لعل الأوفق أن نقول بما تغتبط الطبيعة به، فالإنسان بعضها. أتى من الأصباغ بما يطابق أصباغ النبات أحياناً ويشابهها أحياناً، وأتى منها بما يفوقها زهواً وإشراقاً، وأتى منها بعدد يكاد يجل عن الحصر وخلط بينها فأتى بكل لون وقعت عليه أعين الأحياء وهم أيقاظ صاحون، وكل لون وقعت عليه أعينهم وهم نيام يحلمون، أتى بألوان تزري بألوان الربيع في إبانه، وتستحقر ما يتنزل به وحي الشاعر عند صفاء قريحته وفي سمو خياله.

ورأى الإنسان الطائر يطير فأراد أن يقلده في طيرانه، رآه طليقا من قيود الأرض مالكا أعنة الهواء يسرح في أبعاد ثلاثة من طول وعرض وارتفاع، فأراد أن يكسر قيده ويستعير للهواء أعنة ويزيد على بعدي هذا السطح الأرضي بعداً ثالثا، وبعد خيبة تتلوها خيبة، وبعد نفس تتبعها إلى خالقها أنفس، وُلدت الطائرات، ولم تولد كالإنسان في ساعة ولا يوم ولا عام، وإنما يوم ميلادها كان حقبة من الزمان، فلم تكن بنتاج ذهن، ولكن نتاج أذهان، وأصبح إنسان هذا العصر يطير في الجو كيف شاء وحيث شاء، وحصد بنو اليوم حصادا حصدت في سبيله رقاب بني الأمس.

ومن أحدث الأمثلة في تقليد الإنسان للطبيعة ما جاءت به الأنباء منذ قريب بما يحق لنا أن نسميه ثورة قصد العلم إليها في الإضاءة والضياء. كنا في الأزمنة الأولى نقنع في حلك الليل بالضوء القليل يخرج علينا من حريق الخشب مع فحمه ودخانه، وحمدنا القدر لما هدانا إلى الزيوت والشموع نشعلها على هوانا ونطفئها على هوانا، وزدنا للقدر حمدا لما تهيأت لنا مدخنة من زجاج وضعناها على المصباح فوقتنا سخامه، وجاء المصباح الكهربائي فوجمنا له حيناً نحسبه من عمل السحرة أو صنع الشياطين، ولما اطمأننا إليه زدناه على السنين شدة وزدناه جمالا، وكنا نحسب أن هذا غاية المنى ومنتهى الأمل، ولكن الإنسان بعد أن وجم لهذا المخلوق الجديد مستغربا معجبا، وبعد أن رباه ونماه فخورا زاهيا، وجد أخيرا أنه لم يبلغ به هواه. ونظر إلى الشمس في بياض ضيائها وبارح سناها فابتسمت له أو ابتسمت منه، فوجد فيها الغاية التي ليس من بعدها غاية. وتبين فيها آية الطبيعة الكبرى والمثل الذي تضاءل بجواره الأمثال. فرجع يقسم ألا يفتر له عزم حتى يأتي بمثل هذا السنا والضياء.

وجاءت البشائر في الأشهر القريبة الماضية بأنه نجح في هذا أو كاد. وأنه استعاض عن المصباح الكهربائي الأثري، أو الذي سيصبح عن قريب أثريا، بمصباح جديد لا فتيل فيه. وإنما ملئت زجاجته بمزيج من غازين بنسب خاصة تمر فيه الكهرباء فيخرج منه ضياء يشبه ضياء الشمس في أمرين: في نصوع بياضه وفي انتظام توزعه. وهو فوق ذلك لا يتكلف من الكهرباء ألا خمس ما كان يتكلف المصباح القديم، أو الذي نرجو أن نسميه في القريب العاجل قديماً. وهم يعدوننا أنه لا يمضي شهر حتى تضاء أميال من الطرق بجوار لندن بهذا الضياء الجديد. وهم يعدوننا أنه لن تمضي سنوات حتى يستعاض بمصابيح الشوارع وما يحملها من عمد طويلة بأنابيب متواصلة من هذا الضياء تمد على الأرض على جانب الطرقات. فلا يكون ثمة حاجة إلى إنارة العربات والسيارات في الليل أو في النهار الذي صنعه الإنسان.