انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 398/في الاجتماع اللغوي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 398/في الاجتماع اللغوي

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1941



تطور معاني المفردات

عوامله وآثاره

للدكتور علي عبد الواحد وافي

مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

لهذا النوع من التطور الدلالي عوامل كثيرة سنعرض لبعضها في هذا المقال، مرجئين تكملتها إلى مقال آخر إن شاء الله

1 - عوامل تتعلق بانتقال اللغة من السلف إلى الخلف. فكثيراً ما ينجم عن هذا الانتقال تغير في معاني المفردات. وذلك أن الجيل اللاحق لا يفهم جميع الكلمات على الوجه الذي يفهمها عليه الجيل السابق. ويساعد على هذا الاختلاف كثرة استخدام بعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع أو المجاز. فقد يكثر استخدام الكلمة مثلاً في جيل ما في بعض تدل عليه، أو في معنى مجازي تربطه بمعناها الأصلي بعض العلاقات، فيعلق المعنى الخاص أو المجازي وحده بأذهان الصغار ويتحول بذلك مدلولها إلى هذا المعنى الجديد. وإليك مثلاً كلمة الفرنسية؛ فقد كان معناها في الأصل (الشبعان) من الطعام، ثم كثر استخدامها في عصر ما في النشوان من الخمر، عن طريق المجاز والتهكم، وللتحرج من استخدام الكلمة الصريحة في هذا المعنى وهي فعلق هذا المعنى الجديد وحده بأذهان الصغار في هذا الجيل، وتحول إليه مدلول هذه الكلمة فأصبحت صريحة فيه، وانقرض معناها القديم في لغة التخاطب.

وإلى هذا العامل ترجع أهم الأسباب في تحول الكلمات إلى معان كانت مجازية في الأصل، وفيما يعتري المدلولات في نطاقها من سعة أو ضيق. بل إن طائفة من العلماء، وعلى رأسها العلامة هرزوج قد رجعت إلى هذا العامل وحده كل ما يحدث من تطور في الدلالة.

2 - وكثيراً ما يتغير مدلول الكلمة على أثر انتقالها من لغة إلى لغة؛ فقد يخصص مدلولها العام، وتقصر على بعض ما كانت تدل عليه في لغتها الأصلية، وقد يعمم مدلولها الخاص، وقد تستعمل في غير ما وضعت له لعلاقة ما بين المعنيين، وقد تنحط إلى درجة وضيعة في الاستعمال فتصبح من فحش الكلام وهجره، وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه. . . كما أشرنا إلى ذلك في بعض مقالاتنا السابقة.

3 - وقد يكون العامل في تغير معنى الكلمة أن الشيء نفسه الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشئون الاجتماعية المتصلة به. . . وما إلى ذلك. فكلمة (الريشة) مثلاً كانت تطلق على آلة الكتابة أيام أن كانت تتخذ من ريش الطيور، ولكن تغير الآن مدلولها الأصلي تبعاً لتطور المادة المتخذة منها آلة الكتابة، فأصبحت تطلق على قطعة من الحديد مشكلة في صورة خاصة. والقطار كان يطلق في الأصل على عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر والنقل، ولكن تغير الآن مدلوله الأصلي تبعاً لتطور وسائل المواصلات فأصبح يطلق على مجموعة عربات تقطرها قاطرة بخارية. و (البريد) كان يطلق على الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تغير الآن مدلوله تبعاً لتطور الطرق المستخدمة في إيصال الرسائل، فأصبح يطلق على النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر. و (بنى الرجل بامرأته) كانت تستخدم كناية عن دخوله بها؛ لأن الشاب البدوي كان إذا تزوج يبني له ولأهله خباء جديداً؛ ولا نزال نستخدم هذه العبارة كناية عن نفس المعنى مع أن الزفاف لا علاقة له في نظمنا الحاضرة بالبناء. وقد جرت العادة في بعض العصور بفرنسا أن يقضي المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة مدة عقوبتهم في أعمال التجديف على ظهر السفن الملكية؛ ومن ثم جاءت عبارة ولكن تغير الآن مدلولهما، مع بقائهما في الاستعمال، تبعاً لتغير النظم المتصلة بهذه العقوبة ونوعها.

4 - عوامل تتعلق باختلاف الطبقات والجماعات. فكثيراً ما ينجم عن اختلاف الناس في طبقاتهم وفئاتهم اختلاف مدلول الكلمات وخروجها عن معانيها الأولى. ويؤدي إلى ذلك ما يوجد بين الطبقات الناطقة باللغة الواحدة من فروق في الخواص الشعبية والجسمية والنفسية، وفي شؤون السياسة والاجتماع والثقافة والتربية ومناحي التفكير والوجدان ومستوى المعيشة وحياة الأسرة والتقاليد والعادات. . .، وفي الظروف الطبيعية والجغرافية المحيطة بكل جماعة منها، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته، وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم، وتستأثر بقسط كبير من انتباههم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له، أو قصرها على بعض مدلولاتها للتعبير عن أمور تتصل بصناعاتهم وأعمالهم. . . وهلم جراً. فمن الواضح أن هذه الأمور وما إليها من شأنها أن تخرج بالكلمات عن مدلولاتها الأولى وتوجه معانيها في كل طبقة وفي كل جماعة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها فينشأ من جراء ذلك ما يعرف (باللهجات الاجتماعية) التي تكلمنا عنها في مقال سابق.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون