مجلة الرسالة/العدد 398/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 398/رسالة الفن
إن كنت فناناً
. . . فهذه نفسي!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يا رب محمد! استغفرك يا رب محمد!
أعصابي متراخية. عقبي نائم. عيناي تريدان أن تنطبقا كأنهما زهدتا النور، وما هو زهد ولكنه تسليم.
نفسي تتهرب مني، وتتحجب عني. . . أريد أن أعرف ماذا بها؟ أسألها فيقع السؤال فيها كما تقع الحجرة على كومة التبن المحروق، فلا صوت، ولا رد على الصوت، ولا شيء.
إذن فماذا بقي لي؟ لا شيء!
وإذن فماذا أصنع؟. . . لا شيء. والصبر طيب. والنجدة عند رب محمد. . .
اللهم إني قد أسأت، اللهم إني قد أسأت!
هأنذا أعترف لك وما أنت بحاجة لأن يعترف لك مذنب. ولكني أريد أن أفضح نفسي لعلك تريد بعد ذلك فتمحو بلطفك وكرمك ما سطرته على جبيني بحكمتك وخبرتك من الإثم، وآثار الإثم. . .
لن أعدد ما ارتكبت، فإني لا أحصيه. ولكني أقول إني ما تركت إثماً إلا واقترفته.
ولكن كان شر آثامي أني في يوم أنكرتك. أعوذ بك من نفسي. وأعوذ بك لها.
لقد انطلقت يومها أعربد بروحي وبدني، وأقول - وبئسما كنت أقول - إن الخبطة العشواء التي أوجدت هذا الكون وإنما أوجدتني حكمتي في الكون كما حكمت الكون فيَّ، فما دام هو يأخذ مني فلآخذ منه، وما دام يستبد بي فلأستبد به. . . ومن أنا. . .؟؟
حقاً إني كفرت يا ربي. ولكني لا زلت أتوسل إليك حتى بكفري. فقد كنت أحبك وأنا منكرك
ألست أنت صاحب هذا البحر الذي كنت أصارع الريح وأنا ساع إلى أعتابه في ليالي الشتاء العاصفة المقمرة لأجلس عنده وأنا سكران وفي يدي السيجارة كلما شهقت منها نفساً شهقت معه من البحر أملاً، وكلما زفرت نفساً زفرت معه إلى البحر هماً. لقد كنت أتبادل الأنفاس مع البحر، هذا الوحش المحبوس عن الأرض الراضي بالحبس.
لقد كنت أحبه. ولقد أحبني هو أيضاً فأعطاني الكثير من نفسه: جلداً، وصبراً، وصفاء، وغنى، وحياة، وقوة. . . ومسكنة مع هذا كله وذلاً.
لقد سبحتك فيه يا رب لأني كنت أراه وأبادله الحب، وكان عقلي أصغر من أن يؤمن بك غيباً
ثم ألست أنت صاحب تلك الماسة التي كانت تريق عليَّ أضواءها فأشرب منها وأشرب وأشرب وأنا لا أدري لماذا لا أرتوي على كثرة ما أنا شارب حتى علمت أن ما كنت أشربه لم يكن إلا نوراً، والإنسان لا يريه النور وحده إن لم يمزجه بشيء من الظلمة. فلما بحثت عن الظلمة انفلت النور مني، وكف يده عن أوتار قلبي.
من يومها يا رب وأنا غارق في ظلمات وظلمات ولكن بعد أن آمنت بالنور. فاللهم شعاعاً، رحمة منك وعزاء.
ثم ألست أنت صاحب حديقة النزهة. . . أنت صاحبها رغم أنف المجلس البلدي
كنت كلما اكتأبت وثقلت علي واجبات الجبر والكيمياء، وأرهقتني حياة المدرسة الجافة التجأت إلى النزهة أفرغ فيها ذبولي وآخذ من أزهارها وأشجارها نضرة. . . وبهجة. . . واطمئناناً وفرحاً. . .
ما أكرمها الأشجار والأزهار! ما أحلاها! إنها تتضور حباً، وتشرئب إلى عاشق يهفو إليها بنظرة. . . وخفقة.
وما أقسى عشاق الأشجار والأزهار. . . أطمعهم صمتها وسكونها واستسلامها فانهالوا عليها قطفاً. . . والقطف قتل. . . وأكرمهم يجود عليها بشعر. والشعر كلام. . .
إنني لم أسرف يا رب في قطف الأزهار، واسألها
كنت أقنع بالذي تنفثه هي راضية من الحنين المؤمل، والشهوة المتبخرة الرطبة. . . وكنت أعوذ عنها إلى المدرسة وأنا كالقرنفلة الناطقة الحية: أبذر في قلوب الناس حباً أبعثره وأبعثر وراء من تلك الزأرة التي أعطانيها حبيبي الأزرق ذو الأمواج وذو الأنفة!
ثم ألست أنت صاحب هذه السماء التي كنت أنقلب على الرمال إليها لأسرح بنفسي فيها مرتحلاً من نجم إلى نجم، ومن كوكب إلى كوكب، متباعداً عن الأرض ما استطعت، مختاراً من أكوانك أقصاها ٍكأنما كنت أريد أن أستوعب ملكك، فما استوعبت شيئاً وما كنت إلا لأرتد حسيراً، ولكن بعد أن تطول حيرتي فيك وفي ملكك. . .
سبحانك! قد خلبت لبي. . .
يا صاحب الصحراء تخرج فيها الحي من الميت. . . يا لمسحرك هذا الأقفر من مسرح!
يا صاحب الناقة الصابرة! يا صاحب النخلة المتكبرة! يا صاحب السلحفاة الصائمة الساخرة! يا صاحب الغزالة النافرة!
أليس هذا فنك! وهل عشقت سواه حين كنت أنكرك!
ما عشقت سواه وأنا منكرك! ولا عشقت سواه وأنا راج أن أعرفك! وما سوى ذلك إلا العدم، فكل موجود من أثرك وصنعك.
يا رب محمد! أستغفرك!
وأحمدك وأشكرك. فلقد ذكرتني بك حين أنسيتني نفسي، وأنا حين أذكرك أهدأ وأطمئن، لأني أعرفك الرحمن الغفار الذي ينقشع أمام رحمته وغفرانه كل ضلال وكل عطب؛ والذي إن عاقب أرسل في العقاب راحة ورضى، وقرن بالعسر يسراً. وإن مع العسر يسراً.
بدأت أنتعش. . .
زوابع من الإسكندرية تناديني. أريد أن أنطلق. أريد أن أعربد مرة أخرى؛ ولكن عربدة المؤمن المطمئن.
أريد أن أصرخ. أريد أن أبطش بهذه الظلمات التي بطشت حين أمنت إليها. أريد أن أقيم الدنيا وأقعدها. فهل أنا قادر من ذلك على شيء. . .
إذا أردت أنت فإني قادر، فإذا لم ترد فهاأنذا كما أردت. . .
قلبي ينبض بالأمل فيك، وعقلي شارد وراء هذا الأمل يريد أن يعرف ما هو، ولكنه تعب ولم يعرف ما هو. . . فأرشدني.
ليس أشهى لدى من أشعر بأني أرضيتك وأنك أرضيتني
وأنا طماع، دنيء النفس. قد أتخم ولكني قد أشبع.
أنت الذي خلقتني. فساعدني على نفسي. وخذ بيدي، وأنت تستطيع. ولا أحد غيرك يستطيع.
أنت تطالبني بالتوبة؛ ولكنك أرجأت التوبة في قرآنك إلى سن الأربعين. فلي الآن إن مددت في عمري عشر سنوات باقية قد أستجديك بعدها عشراً، وقد أستجديك بعدها عشراً، فما أحسب التوبة ممكنة وقتك الخلاب يدغدغ العيون، ويناوش الأسماع، وينكث القلوب. . .
ثم لماذا يتحتم علي أنا أن أتوب؟!
أأنا إنسان عاقل ورشيد؟! إني لا أظن ذلك. فليس عاقلاً رشيداً هذا الذي يستمرئ أن يفضح نفسه بنفسه. ولا هو عاقل رشيد هذا الذي يطاول من هم أشد منه قوة وآثاراً في الأرض، وينوخ للضعيف الهزيل يركبه ويضرب بطنه برجليه. . .
أنا يا رب كما تعلم. فعافني. واسمح لي أن أقضي في ملكك هذا ما قدرت لي من البقاء وأنا تحت رعايتك وعطفك. فلست إلا طفلاً غراً آفته دلال استحكم في نفسه من كثرة ما استقاه وعَبَّه من نفح القرنفل والياسمين.
واحمني يا رب من الشر أن يسكن نفسي. واملأ قلبي سلاماً. وانزع منه كل حقد وكل غل.
واحمني يا رب من الشر أن يقذفني به حاقد أو مغلول؛ فأنا أعجز من أن أتلقى قذائف الشر المتستر، ولدغات الحقد والغل.
يا رب محمد. أحفظ يحيى السيد فقد أقرضني اليوم عشرة قروش وإن كان لا يعرف متى سيستردها.
هو طالب في ليسانس الحقوق. فخذ بيده في امتحانه القريب. . . أرجوك بحق محمد.
عزيز أحمد فهمي