انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 395/عرابي الفلاح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 395/عرابي الفلاح

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 01 - 1941



حديث شيخ معمر من قرية عرابي باشا

للأستاذ محمود الشرقاوي

سيبقى اسم عرابي باقياً مذكوراً في التاريخ المصري الحديث ما بقى في مصر شعور بالقومية المصرية. وستظل الحركة العرابية أو (هوجة عرابي) باقية مذكورة في ضمير الشعب المصري حية على لسان أفراده وفي قلوبهم حتى تتمكن لمصر الحياة الحرة وحتى تتمكن للشعب المصري (الفلاح) السيادة التي جاهد عرابي لها ولقي في سبيلها ما لقي وما يلقي المجاهدون الأحرار

ومهما تكن نتائج الثورة العرابية. ومهما يكتب المؤرخون عن أخطائها فستظل ويظل اسم عرابي معها مذكوراً في ضمير الأمة المصرية كأول حركة قومية خالصة، وأول (تنبَّه) للشعور بالقومية المصرية في العصر الحديث، وأول هبة لتحقيق السيادة المصرية للدم المصري.

وقد عرف الكاتبون وكتب المؤرخون البحوث والتحقيقات عن عرابي البطل وعن ثورته. ولكني عرفت بمصادفة موفقة حديثاً عن العظمة النفسية التي كان يتميز بها عرابي؛ وعن الشعور الراسخ بالعزة الذاتية التي كان يحسها لمجرد أنه مصري وفلاح.

وقد بلغ شخص عرابي من الرفعة والمجد ما بلغ، وارتفع اسمه وعلا إلى حيث ارتفع، ولكن هذا كله لا يغير من نفسه ولا من شعوره بالفخار أنه مصري وفلاح، وبيننا إلى اليوم من لم يبلغ شيئاً ولا ارتفع اسمه شيئاً ولكنه يعلو بنفسه أن يكون فلاحاً وهو من طينه ومن ترابه.

بل لقد جعل عرابي نسب فخره أنه فلاح تحدّر من أصلاب فلاح ونشأ مثلهم ومعهم بين الماء والطين.

وحديث هذه الواقعة هو ما سأكتبه لقراء (الرسالة) كما سمعته.

منذ أيام عشرة قبض الله إليه شيخاً معمراً في قرية (هرّية رزْنة) قرية عرابي باشا في جوار الزقاريق وقد جاوز المائة.

وهذا الشيخ المعمر هو الشيخ علي نجم معلم القرية، وكان فيها صاحب (كتِّاب) تعلم فيه وحفظ القرآن أبناء هذه القرية وما جاورها جيلاً بعد جيل، وكان أبوه من قبله معلماً صاحب (كتِّاب).

وقد قدر لي أن أجلس إلى هذا الشيخ المعمَّر قبل أن يقبضه الله إليه، وأن يحدثني عن نبْت قريتهم عرابي وأنه كان يتعلم القراءة وحفظ القرآن في كتاب أبيه، وكان (عرابي) يصغره سناً وإدراكاً ويتخلف عنه في الحفظ. فكان الشيخ محدثي - رحمه الله - (عريفاً) عليه كما يقولون في لغة كتاب القرية.

وبقيت العلائق بين (العريف) المعلم الشيخ علي نجم وبين أحمد عرابي حتى انتهى لما بلغ من مجد ومن مكان، وكان من خاتمة الثورة العرابية ما عرفنا ونقل عرابي باشا إلى جزيرة سيلان ثم أعيد بعد عشرين سنة فيها.

قال الشيخ المعمر يرحمه الله:

وقصدت ومعي زميل من شيوخ القرية نهبط مصر لنرى عرابي باشا بعد رجوعه من المنفى، وكان يوم جمعة وحلَّ علينا وقت صلاتها قريباً من عابدين، فدخلنا مسجداً نصلي فإذا بنا ونحن خروج ننتعل أحذيتنا على باب المسجد نرى عربة تقف أمامه وقد صعد إليها رجل كبير ضخم عرفته، فقلت لصاحبي الشيخ: أليس هذا عرابي باشا؟ لقد تغير كثيراً، وكأنه لم يعد يُبصر. فقال صاحبي بعد صمت: ألا ترى من الخير لنا أن نعود وألا نذهب إلى بيت عرابي، فإني لا أستطيع أن أراه هكذا في ختام أيامه كسيراً مخذولاً مهيضاً.

وهل تظن أنه يعرفنا بعد كل هذه السنين وهذه الأحداث وهذه الغربة؟ وإننا نخجل أنفسنا حين نعرض عليه أو يستأذن لنا منه فلا يذكر أشخاصنا بأسمائنا. فهلم بنا نعود. قال محدثي ولكني عارضت صاحبي وشجعته وقلت له لقد جئنا إلى القاهرة لنزور عرابي ولا بد إن شاء الله أن نزوره. وقصدنا إلى بيته وفي شارع خيرت بعد صلاة الجمعة بساعات.

فلما قدمنا منزل عرابي باشا استقبلنا على بابه بعض الخدم والعبيد واستقبلنا واحد من أبنائه وهو لا يعرفنا. فلما عرفناه أنفسنا قال إن الباشا ليس في البيت وترك لنا أن نجلس أمام البيت على (دكة) البواب حتى يعود فيستأذن لنا عليه الخدم، فجلسنا وقد نظر إليَّ صاحبي كأنما يذكرني ما قال ونحن نترك المسجد وقد رأينا عرابياً وهم بنا صاحبي أن نعود.

ونحن وقوف على هذه الحال إلى حائط البيت انتهت إلى البيت عربة عرابي ونزل منها أمامنا يتمهَّل ووقع بصره علينا، وبعد دقيقة أو دقيقتين وقد همت بالتقدم للسلام عليه ناداني: ألست أنت (عريفي) الشيخ علي نجم؟

وسألني وصاحبي فقصصت عليه كيف جئنا وما قال لنا خدمه وابنه؛ وكنا دخلنا معه وقربنا إلى حيث يجلس يستقبل؛ فلما سمع منا تغير لونه ووقف ووقفنا؛ ثم رجع إلى أول الحديقة ونادى ابنه الذي استقبلنا وطلب معه من في البيت من اخوته ثم وقف وهم جميعاً أمامه، فحدثهم باللغة التركية حديثاً طويلاً كان فيه ظاهر الغضب. وقد وقفوا جميعاً أمامه صفاً واحداً رؤوسهم على صدورهم مشتبكة أيديهم كأنهم في صلاة؛ ثم قال ختام كلامه باللغة العربية، وقد فهمنا منه غضبته وما حدث أبناءه - وخدمه واقفون - باللغة التركية؛ وكان ختام عرابي باشا حديث أبنائه كأني أسمعه الآن يقول مشيراً إليَّ وإلى صاحبي:

هذا زميلي في الكتَّاب، وهذا عريفي جلست إليه يسمع مني القرآن فهو معلمي؛ وأنا فلاح ابن فلاح تحدرت من أصلابهم وأنا بهم فخور، فخور بأني نشأت ولعبت في الماء والطين معهم؛ وأنا عرابي باشا، ولكني فلاح ومن قرية (هرّية)، وهؤلاء الفلاحون هم أهلي وعشيرتي ومنهم دمي، فمن جاء منهم إلي لا يجلس بالباب.

ثم أولاده فانصرفوا وهم سكوت: فدخلنا فجلس معنا ساعات يحدثنا عن صبانا وأيام الطفولة ويسألنا عن رفقاء الكتاب. وأراد أن يستبقينا ليلتنا فشكرنا واعتذرنا. ولم يتركنا عرابي باشا حتى خرج معنا خطوات من حجرته واستحلفنا أن نعود إليه وأن يرانا.

قال محدثي الشيخ المعمر: ولم يشأ الله أن نزوره ولا أن نراه. ولكننا نحبه كما كان يحبنا.

قلت يرحمك الله أيها الشيخ كما يرحم الله عرابياً البطل الفلاح.

محمود الشرقاوي.