انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 39/ تولستوي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 39/ تولستوي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1934


2 - تولستوي

اجتماعياته

- 3 -

لن يحقق هذا الحلم مؤتمرات تعقد ومعاهدات تمضى أو نظم تعدل

وقوانين تفرض.

وان مؤتمرا يجتمع ويتلوه مؤتمرات أخرى لا تحل مشاكل العالم. وان سكنت ألم الإنسان إلى حين، والمعاهدات قصاصات ورق لا تغير شيئا ولا تدفع مضرة، ولا يخفف من البؤس الواقع حزب اشتراكي يتولى أو حزب محافظ يتحكم. فليس معنى ذلك إلا إن طبقة حلت محل أخرى. وأفراداً استبدل بهم أفراد. وليس معناه إلا أن يبقى النظام الحالي بضرائبه المرهقة وحواجزه الجمركية المشتطة وميزانيته العجيبة ينفق ثلاثة أرباعها على أعداد الجيوش وتجهيز الحروب.

إن الإصلاحات التي تفكر فيها الجماعات الحديثة من تحديد ساعات العمل أو تنظيم علاقات المالك والأجير على ما فيها من الفائدة لا تجتث الشر من أساسه. فكيف الطريق إذن؟

أثورة دموية لا تبقي ولا تذر؟ تراق فيها دماء الطبقة الحاكمة ويزهق فيها أرواح الأغنياء؟

ولكن تولستوي كان آخر من يدعو إلى العنف وآخر من يفكر في مقابلة الشر بالشر. إن التعاون لا يمكن أن يقوم على سفك الأرواح. والرخاء من المستحيل أن يعتمد على أسنة الحراب. وما كانت الإنسانية التي بشر بها تولستوي ليكون الطريق إليها مغطى بالدماء حافلاً بانين المجروحين وجثث القتلى.

لقد قامت الثورة الفرنسية باسم اشرف المبادئ الإنسانية وعلى أكتاف اشد الناس حماسة وإخلاصا. وحسب الناس إن نوراً جديداً قد اشرق يلوح بالسلام المنشود والهناء الدائم. ولكن الثورة الفرنسية لم تنجح كثيرا. ولم تفعل رغم الادعاءات العريضة التي بشرت بها إلا أن تحل طبقة محل طبقة أخرى وتستبدل اسما باسم وملكية بجمهورية.

وفشلها راجع إلى إنها قامت على العنف وإراقة الدماء. إن الشر لا يجب أن يقابل بالشر، وإن اكبر ما يعاب على المجتمع الحالي اعتقاده إن الثورة الدموية هي الطريق للخلاص، وان الحرب شر لابد منه. وان القتال قانون طبيعي لولاه لازدحم العالم بالسكان ولما وجدوا قوتا يكفيهم. وليس اسخف من هذا الزعم زعم. فان اشد ما يعتز به الفرد هو حياته، واقدس واجب لديه هو المحافظة على هذه الحياة والعمل على إبقائها. واكبر أمنية للإنسان هو الخلود أو العيش إلى أطول العمر، فتناقض إذن إن تزعم أن قانون الحياة هو الموت أو إن من الضروري أن يقتل الأخ أخاه.

لقد دعا تولستوي إلى السلام والأخاء الإنساني. وأهاب بالإنسانية القضاء على التسلح والمقاومة.

وقد يبدو إن هذا أمر ثانوي لا علاقة له بإصلاح العالم. ولكن ليعتقد الأفراد جميعا أن الشر هو في الحروب. وان بؤس الإنسانية راجع إلى العنف والاستبداد، وليؤمنوا بالسلام وضرورته، وستسقط بطبيعتها جميع النظم القائمة. فلن تقوم حكومة من الحكومات إلا إذا استندت إلى إرادة الشعوب، ولن يوضع قانون إلا إذا رغب فيه الأفراد. ولن تسير دفة العمل من الأعمال إلا إذا كان قائما على التعاون والاشتراك. ولن تجد نزاعا بين دولة وأخرى إلا ويفض في بضعة أيام عن طريق التحكيم. فتولستوي يرى من العبث التفكير في كيف تكون الحكومة. أو على أي أساس تشرع القوانين. إذ الحكومة لديه ليست إلا مجموعة أفراد والقوانين ليست إلا من وضع بضعة أفراد. والدولة لا معنى لها إلا بمجموع أفرادها!

ففي إصلاح افرد وحده. وفي الارتفاع بعقليته والسمو بنفسيته أساس المدنية المستقبلة. ماذايجدي أن تصلح من شان حكومة، إذا كان القائمون بها هم هم لم تتغير نفوسهم.

لن يجدي هذا نفعا. ولكن يكفي أن يعتقد كل فرد بوحشية الحروب في سبيل قطعة ارض أو من اجل شهرة وطنية كاذبة. ويكفي أن يمسي هذا الاعتقاد عملا حتى يشرق الصباح عن اختفاء اله الحرب من الأرض

ويمكن - إذا آمن الناس بضرر الفروق الاجتماعية بين الطبقات وما يساعد على إبقاء هذه الفروق من قانون الوراثة ونظام الملكية - أن تختفي الملكية فجأة وتحل المساواة بين البشر.

ولا شك انه لو أيقن كل إنسان أن سعادته في خدمة اكبر مجموعة إنسانية يستطيع خدمتها لانهارت من أساسها ما نسميها الوطنية التي تراق من اجلها الدماء وتزهق تحت علمها ملايين الأرواح. ويجر باسمها الخراب والدمار والارتباكات المالية الاقتصادية.

فلتقم الشعوب. لا بل لتقم طائفة منها تعلن أن كفاهم رياء وخداع، وانهم لن يخضعوا إلا لما توحيه إليهم ضمائرهم، ولن يعملوا إلا ما تحتم عليه مبادئهم. فلا يذهبون إلى قتال يعتقدونه شرا ولا ينفذون قانون لا يرون فيه خيرا. ولا يدفعون ضريبة لا معنى لها. ولاشك أن كل مساوئ العهد الحالي تصبح في خبر كان.

إن للرأي العام قوة عظيمة تسير الحكومات والدول. فإذا ما أراد الرأي العام شيئا فهو واصل إلى ما يريد. والرأي العام ساخط متذمر من النظام الحالي وهو يريد أن يعمل شيئا، ولكن لا يعرف ما يريد ولا يدري ماذا يعمل.

قد تسأل: ومن له الشجاعة ليقوم بهذه الدعوى ومن له الاستعداد لما قد تجره عليه من اضطهاد وسجن وتشريد؟

ولكن تولستوي يعجب: لماذا تنتظر الإنسانية منقذاً من السماء أو مسيحاً يهبط إلى الأرض.

إن نفسية الجماعات الحاليةلا تحتاج إلا إلى بضعة أفراد بل فرد جريء يرشدها إلى طريق العمل حتى تقوم قومة رجل واحد.

- 4 -

إن صلاح نفوس الأفراد وتربيتهم من اخطر ما يدعو إليه تولستوي، وهذه التربية أما أن تتناول الصغار أو الكبار. فهي للكبار بث العقيد الإنسانية فيهم وإقناعهم أن لا فائدة تعود عليهم من حرب ضروس، والإهابة بهم إلى نبذ العنف وإحلال الوئام والصفاء.

وأما تربية الصغار فهي اجل واعظم شانا.

ولقد سدد تولستوي إلى التربية الحديثة سهاما مسمومة. وكال لها تهما شنيعة، وليس يعنيه من أمر المدرسة علوم تحشى بها أذهان الطلبة المساكين ولكن يعنيه روح التربية.

فالتربية الحديثة تساعد أحط الغرائز على الظهور والنمو، فهي تبث التنافس والغيرة والحقد في نفوس الأطفال وتشبعهم بفكرة العقاب والثواب، وتلقى في روع الطفل الأنانية وحب الفوز على أكتاف إخوانه من التلاميذ. فهو يهنأ على تقدمه عليهم، ويكافأ إذا بذهم وفاقهم.

وهي فوق ذلك تربية عسكرية تهمل شخصيات الأطفال إهمالا وتزعم أنها مستطيعة أن تشكل عقليات متغايرة تشكيلا واحدا. وهي مضطرة في سبيل هذا ان تخضعهم لنظام معين وتجبرهم بالقوة على التزام حركات خاصة والجلوس في غرف ضيقة مما ينفر الطفل من المدرسة والمدرسين، ومما يكبت فيه ميوله الطبيعية ومواهبه.

إن الطفل له شخصية قائمة، وليس يتاح لأي مدرس أن يفهمه على حدة فيعرف ما يلائمه وما لا يلائمه. والمدرسة الوحيدة التي يمكن ان ينال فيها الطفل تربية صحيحة هي البيت.

نعم هي منزله. حيث يجد الحنو والشفقة الأبوية. وهي مسكنه حيث تراعي ميوله وحيث يفهمونه فهما حقا. وبذا يرفع تولستوي من شأن التربية المنزلية ويجعلها في المكانة الأولى. وقد جره هذا، إلى البحث عما إذا كان البيت والعائلة الحالية يصلحان مكانا لتربية الأطفال.

وجوابه أن لا.

فنظام الزواج الحالي نظام عتيق فاسد، والعلاقات العائلية اليوم كبقية العلاقات لا تستند إلا على الرياء والعنف. فالمال يتحكم تحكما في العلاقات الزوجية. والرجل الغني هو كل شئ في الزواج الحديث. مهشما كان أو مريضا، ضعيفا أو منحطا. فهو يرحب به لانه ذو مال، ولأنه اقدر من غيره على الأنفاق. والفتاة الحديثة لا تكاد تفهم مهمتها التي خلقت من اجلها والزوجات يرون فالالتصاق بالبيت عارا أو تأخرا. بل يحسبن في الأطفال عبئا لا يتفق والسهرة ومحال الرقص. ولا ينسجم والرقة والأناقة. ومن هنا دعا تولستوي إلى هدم نظام الزواج هدما يتناول الأساس فالأم كما يرى تولستوي يجب ان تختار لابنتها زوجا قوي الجسم ممتلئ الصحة محبا للعمل ناسية مكانته الاجتماعيةغير ناظرة إلى جيبه انتفخ بالأوراق المالية إن لم ينتفخ.

والزوجة يجب ان تؤمن بأن عظمتها في المنزل، وفي إنشاء طفلها الذي قد يتحكم يوما في مصير العالم. وهي إذا كانت قد تلقت أرقى العلوم فلكي تحسن إدارة بيتها. وهي ان درست ووفقت في الدرس فلكي تجيد تربية طفلها. فالمرأة في يدها مستقبل هذا العالم.

ولكن أي أمرأة؟ ليست هي هذه المرأة المستهترة، ليست هي سيدة الصالونات. ولكن ربة البيت والأم الرحيمة تنشئ أطفالها على حب السلام وحب الآخرين. وتربي فيهم كراهية الشر ومقت العنف.

لقد نادى تولستوي بكل هذا في إخلاص وإيمان وبعد تفكير طويل وتدبر ليس بالقليل، وقد توافق دعوته وقد لا توافق. وقد تحسبها الحكمة بعينها أو خيالا متطرفا. ولكن لا يسعك إلا أن تعجب بالرجل أو تعجب باخلاصه، وان تجد أيضاً في دعوته الحق أو بعض الحق.

ولعلك تشتاق بعد هذا إلى معرفة شئ عن حياة تولستوي أو فهم الظروف التي أحاطت به فخلقت منه رسول السلام والإنسانية على الأرض. هذا ما قد نكتب فيه مرة أخرى.

شهدي عطية الشافعي بكالوريوس آداب