مجلة الرسالة/العدد 386/محاورة أفلاطون الخيالية
مجلة الرسالة/العدد 386/محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
- 3 -
المحاورة خيالية بين الفيلسوف أفلاطون وبين أحد المربين
الإنجليز. وقد دارت في المقالين السابقين حول نظام التربية
في إنجلترا والغاية منها، تلك الغاية التي يوضحها المربي
بأنها إعداد الفرد ليشترك في الحكومة الديمقراطية بطريق
انتحاب رجال الحكم، وأعضاء المجالس النيابية وهذه التربية
- كما يقول المربي الإنجليزي - تجربة في الحكم الذاتي، أي
حكم الشعب نفسه بنفسه. ويرى أفلاطون أن تربية الشعب
عامة محدودة ولا تكفي لأقداره على الأشراف على تصرفات
الحكومة، وسياستها الداخلية والخارجية. ولكن المربي يقرر
أن نظام التربية في إنجلترا يسمح لكل فرد أن ينال خبرة
مهنية فنية، وأن يصيب من الثقافة العامة ما يمكنه من معرفة
شئون السياسة العامة للأمة. والفرص متاحة تؤهله مواهبه
الطبيعية لأي نوع من أنواع التعليم أوليا كان ثانوياً أو
جامعياً. وهنا يقترح أفلاطون أن تترك مقاليد الحكم للجامعيين، وحملة الشهادات العليا، لما هم عليه من ثقافة فلسفية وعلمية.
بيد أن المربي لا يشاركه الرأي. ويقول: إن الحياة جامعة
الجامعات، وأبواب المناصب مفتوحة لكل من تزكية كفايته
وخيرته لأيها، سواء أكان من أبناء الجامعات أم من غيرهم.
أفلاطون: لا شك أنك ستجد ضرورياً أن تفرق بين نوع التربية الملائم للرجال المسئولين، وذوي التبعات الوطنية، وبين نوع التربية الملائم للصناع والعمال. فتربية الأول هي تربية ثقافية عالية، بينما تربية الآخرين تربية فنية مهنية.
المربي: أنا لا أومن بهذا الرأي. إننا نعتقد في بلادنا أن كل فرد يجب أن ينال نصيباً آخر من التربية غير تلك التربية الآلية التي تعده للمهنة أو الصنعة، لأن كل الأفراد قد منحوا صفة البشرية، وصفة التعقل والإدراك، ولهم قوى كامنة يمكن أن تتقبل الثقافة والحكمة. ولهذا يجب أن ينال كل فرد إلى تربيته المهنية تربية ثقافية عامة.
أفلاطون: ولكن أتسمحون بهذه التربية الثقافية العامة للموهوبين وغير الموهوبين على السواء؟
المربي: كلا هذا مستحيل، أولاً لأن السواد الأعظم من تلاميذ المدارس يكتفون بالتعلم إلى نهاية المرحلة الأولية، أعنى إلى سن الرابعة عشرة؛ وثانياً لأنه ليس كل الأفراد صالحين للتعليم الجامعي.
أفلاطون: إنني موافقك على هذا بكل قواي. إن الطبقة قلية الذكاء من أبناء الشعب والتي أسميها العامة في (مدينتي الفاضلة)، لا تفهم الفلسفة ولا تتمتع بها والأفراد القلائل منها الذين يتذوقون طعم الفلسفة يخدعهم أول أفاك يقابلون، أو متطبب، أو متدين محتال يستولي على قلوبهم بعبارات الدين الخلابة. إن ذوق العامة يميل دائماً إلى الدون من كل شيء. ولا يفرق بين التكحل والكحل، ولا بين الحقيقة والخيال. وهذا هو ما دعاني لأن أحظر على العامة دراسة الحقائق والعلوم الفلسفية، وأن أقصرهم على الأساطير، وأحاجي الآلهة، والأقاصيص الخيالية. تلك الأشياء التي أسميها (الأكاذيب النبيلة)، والتي يجب على الحكومة أن تهيئها للعامة لترضي رغبتهم الملحة في التثقيف والتنوير، ولتمدهم بشيء يتحدثون عنه وتلوكه ألسنتهم، حينما يجلسون ليقتلوا أوقات فراغهم. ولقد سمعت بأمة مجاورة لكم قد عملت وزارة للدعاية وتنوير العامة. وكم أفعم هذا الخبر قلبي سروراً، لأنه يدل على أن من بين أعضاء حكومة الأمة من يقدرون الأخطار التي تنجم ترك العامة يطمعون أخلاط الثقافات والآداب والموسيقى لا فرق بين غثها وسمينها، فتؤثر هذه الأخلاط في نفوسهم، وتحملهم على الثورة وسوء النظام
المربي: أحسب أنك لا تمتاز كثيراً عن الفاشستي! كيف تحل هذا النوع من الدعاية الحكومية التي يقصد بها استرقاق عقول الناس، وحقنهم بالأكاذيب، والأخبار المموهة؟ إن هذا لهو القضاء النهائي على الحرية
أفلاطون: وهل يتمتع حقاً أبناء شعبك بالحرية؟ أليسوا هم أيضاً أرقاء للأكاذيب والأخبار الفجة التي يطالعونها كل يوم في الصحف، وفي السينما، وفي القصص الروائية، ويسمعونها من الخطباء في الأندية والنقابات؟
المربي: يجب أن أعترف بكراهيتي لهذا النوع البخس من الصحف اليومية التجارية، ولهذا النوع الدون من إنتاج السينما. ولكن لا تنس أن الإنجليزي حرمها كانت الحال ليختار لنفسه، فهو ليس مجبراً لأن ينصت لجانب واحد من الدعاية، بل له أن يسمع كل الآراء والقضايا، ويكون هو بعد ذلك حكمه الخاص
أفلاطون: لا تتعجل في نتائجك. أنت تقول: إنه حر الاختيار فكيف يتسنى له هذا إذا لم يكن عنده مقياس للاختيار، ولم يكن له المحك الذي يميز به الزيف من الصحيح؟ من المؤكد أنه لا يستطيع الاختيار. ولذلك فهو زائغ الفكر متحيراً، قد بهرته أسراب الخيالات التي تطن في أذنيه طنين النحل، حتى لا يدري أواقف هو رأسه أم على قدميه. صحيح إن سماع أخلاط من الأخبار المموهة أكثر إمتاعاً من سماع خلط واحد، ولكني لا أستطيع أن أفهم لم تدعي أن الفرد في الحال الأولى حر ليختار وفي الحال الثانية رقيق يقبل كل ما يسمع. إن حقيقة الأمر هي أنه ما دام الفرد لا يستطيع التمييز بين الزيف والصحيح فليس بحر، سواء أكان هذا الفرد إنجليزياً أم ألمانياً أم أثنياً
ولذلك فإنني حينما أفكر نظام التربية القائم عندكم، والذي تقولون عنه إنه تجربة في الحكم الذاتي لا أجد شيئا من هذا الحكم الذاتي المزعوم، لأن هذه التربية التي تبالغ في حمدها لا تجعل العامة أحراراً، ولكنها تبعث على الغرور والادعاء في نفس متلقيها. والنتيجة هي أن هؤلاء العامة الذين تلقوا هذه التربية قد أصبحوا أكثر تعرضاً لخطر تجار الثقافة والمعارف، وأعني بهم أولئك الدجالين الذين يخدعون العامة بمقالاتهم الطنانة وإعلاناتهم الثقافية لابتزاز المال، لا من أيدي الصناع والعمال، بل من أنصاف المتعلمين. والدليل على قولي هذا بسيط. فلو كانت تربيتكم صحيحة حقاً لما ظل في بلادكم هذا النوع من تجار الثقافة، بل لضاقت عليهم الأرض بما رحبت فهاجروا إلى بلاد أخرى. أما وهم لا يزالون بين ظهرانيكم فهذا دليل على أن التربية القائمة عندكم لا تكون المناعة الكافية ضد تجار الدين والثقافة والعلوم
وشبيه هذا ما يحصل في ميدان السياسة. فالجمهور لا يستطيع طبعاً أن يفكر في شئون السياسة تفكيراً سليماً. وهو يظن زعماً أن تربيته قد كونت منه سياسياً مفكراً، هذا الظن الذي يجعله أكثر خضوعاً لأنواع الدعاية والإعلان السياسي. ويخيل إلى أن كل صانع أو عامل نال شيئاً من التربية العامة الأولية يعتقد أنه قدير على الفصل في الأمور التي ليس له فيها تجربة أو معرفة
إنك تدرك معي الآن أنه من السهل على أي خطيب من خطباء السياسة مليء الجيب وحاد اللسان، أن يخرج على الناس بمشروعات ضخمة يخدع بها أنصاف المتعلمين، فيرضي فيهم الميول الطائشة، ويستولي على مشاعرهم بإثارة عاطفة الادعاء فيهم ولقد حدثت عن أنواع السفسطائين الذين يحتالون باسم الثقافة والعرفان، والذين يعيشون بينكم ناعمي البال. وأعتقد أنك لا تستطيع أن تنكر أن هؤلاء إنما يرتعون في أموال المتعلمين من أبناء جنسك. على أن هذه الحال إن دلت على شيء فإنما تدل على أن النفس البشرية لا تخضع دائماً للحقائق والمعارف الصحيحة التي تقدم لها في المدارس والمعاهد، وإنما تجنح إلى شيء آخر: إلى الخيال والكرامات، والمعجزات. وتقبل - كلما سنحت لها الفرصة - الخرافات والخزعبلات، بدلاً من أن تتقيد بقوانين العلم وأسس المعرفة الصحيحة. وذلك لآن الحقائق ليست حلوة المذاق دائماً، وليس لها تلك الجاذبية التي للدعاوى الخادعة
من أجل هذا كله أرى لزاماً عليكم أن تكونوا حذرين فيما تعملون لأجل سعادة أمتكم وصلاحها. لأن التربية المحدودة تجعل الفرد يخدع نفسه بنفسه، ويظن أن المعارف أمر سهل المنال، وأن أبوابها مفتحة لكل من قرأ كتاباً أو سمع محاضرة
وهذا ينطبق أيضاً على الديمقراطية عندكم. فإنني أخشى أن تكون هي الدكتاتورية التي تكرهونها، ولكن في ثوب الديمقراطية، فيخدع العامة بما يقول مروجوها
وفي ظني أن قادة الرأي عندكم ليسوا أحراراً أيضاً فيما يقولون ويفعلون فمحررو الصحف، وواضعو الأفلام، والخطباء، ورجال السياسة، والناشرون، كل أولئك ليسوا أحراراً يعملون ما يشاءون، ولكنهم خاضعون لميول العامة وذوقهم، حريصون أن يقدموا لهم ما تستسيغ حلوقهم
المربي: لقد تحقق ظني فيك، فقد حسبتك فاشستياً من طليعة حديثك. والآن أصبح الحسبان، يقيناً فأنت لا حرمة عندك للجماعة البشرية، وليس في قلبك حدب عليها ولا حب لها. أنت تريد أن تسيطر على كل فرد، وأن تجعله يعتقد ما تعتقد. وإنني أؤكد لك من الآن أنك لن تجد من يعطف عليك في بلادنا ولا من يشاركك الرأي
أفلاطون: أن ما تقول لجائز، ولكن أعلم أني غير راغب في إخفاء الحق رغبة مني في عطف أهل بلادك على، ومع هذا لا أعتقد أنهم سيكرهونني كما تفكر، إنهم أعقل مما تظن
المربي: إن ما أستطيع استنباطه من حديثك هذا هو أنك تريدنا أن نرجع إلى الوراء، إلى الزمن القديم، زمن جهالة العامة وحكم طبقة الأقلية الخاصة، زمن مدارس أولاد الأعيان
أفلاطون: كلا. أنا لا أريدكم أن ترجعوا إلى الوراء، وإلى الزمن القديم. لأن الرجوع للوراء مستحيل، ولكني أحب أن أذكرك أنه ليس من الضروري أن يكون القديم فاسداً والجديد صالحاً، فقديماً - وقبل الحكم الديقراطي، وقبل التعليم العام - كان شعبكم مكوناً من طبقتين: طبقة الأرستقراط، وطبقة العامة. ولم يكن ثمت ضير. وكان العامة صناعاً وعمالاً وزراعاً وكانوا مسرورين راضين بأعمالهم ومنهم، قادرين عليها وكانوا سعداء قانعين بحياتهم، بالرغم من أنهم لم يتمتعوا بنظام التربية العامة الحالي. وقد تركوا شئون الدولة للأعيان والأرستقراط، وكانوا يؤمنون بالتعليم، الديني، وكل ما يتعلق بالفضيلة والخطيئة والحياة الآخرة، وهل لي أن أذكرك أيضاً أن ذلك الزمن القديم هو الذي بنت فيه بريطانيا إمبراطوريتها، وأنتجت النابغين من رجال الفن ورجال الأدب الذين يحق لها أن تفخر بهم؟ وكان ولاة الأمور في ذلك الوقت ذوي بصر واتزان وحكمة، عليمين بالتبعات الشاقة الملقاة عليهم، وكان الشعب مطمئناً إلى أن السياسة الحكيمة للأمة لا يحسنها إلا الأرستقراط ورجال الدين
(يتبع - بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد