انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 383/فخري أبو السعود

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 383/فخري أبو السعود

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1940



للأستاذ أحمد فتحي مرسي

قضي الأستاذ الشاعر فخري أبو السعود - طيب الله ثراه وخلد ذكراه - فانطوى بموته صديق يعز على الأصدقاء فقده، وأديب يشق على الأدب رزؤه فيه، وعالم لن ينساه العلم وإن نسي الكثير غيره، فمن حقه علي أن أكتب، ومن حقه علي الرسالة أن يتسع صدرها لما أكتبه عن أديب طالما طلعت علينا بالكثير من آياته وغرره.

قال البعض إنه مات منتحراً برصاص مسدسه في لحظة ضيق بعد أن خط هذا البيت على رقعة:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثلاثين حولاً - لا أبالك - يسأم

وقيل إنه فقد ولده في باخرة ترحيل الأطفال الإنجليزية التي أغرقها الألمان، وقيل إنه انقطع اتصاله بأسرته في إنجلترا، وقيل إن في الأمر جريمة قتل. . . إلى غير ذلك مما يذيعه الناس في مثل هذه المناسبات، إذا عمي عليهم الأمر ووقعوا في الحيرة، فذهبوا يتقصصون الآثار، وينتحلون العلل، ويضربون في الأوهام. . . ثم انبرت أسرته تكذب كل ذلك وتقول إنه مات برصاصة طائشة من رصاص مسدسه أثناء إصلاحه. . . كل ذلك لا شأن لنا به فلقد مات الرجل - يرحمه الله - وانقضى الأمر؛ إلا أن ما عرفته في فخري طول صحبتي له من صموده للحياة، وثقته بالله وعدم تطيره من الحادثات، يجعلني كثير الشك فيما قيل عن الانتحار. . . فقد كنت معه مرة في معرض الحديث عن مقال في الانتحار لأديب كبير، ثم تطرق بنا الحديث إلى ذكر فلان من أدباء الشباب - وكان فخري يعجب بأدبه ولا يعرفه - وأنه قد حاول الانتحار في ذلك الحين، فسخر فخري منه، فلما عرضت على فخري أن أعرفه به أبتسم قائلاً: (إنني لا أود أن أعرفه)

عرفت فخري أول ما عرفته في أول عهده بالتدريس في المدرسة العباسية الثانوية، وكان ناظرها في ذلك العهد الأستاذ عبد الرحمن شكري. قدمني إليه صديق، فخلت بادئ ذي بدء، أنه أحد الطلبة، فقد كان - رحمه الله - ضئيل الجسم، قصير القامة قليل الكلام، شديد الخجل، لا تبدو عليه سنه؛ فلما قدمه الصديق إلى، خلت أنه هازل لا جاد، أو أنه ربما أشتبه عليه الاسم - فكثيراً ما تتشابه الأسماء -، وساعد على ذلك أن الصورة التي كنت رسمتها لفخري في ذهني - من المطالعة - تتباين مع أراه جد التباين، فسلمت عليه في فتور ووناء، ثم إنه كان قليل الكلام - كما قدمت - فتوهمت أن ذلك قلة مبالاة، فقابلته بالمثل، فكانت مقابلة جافية أسرها لي فخري، وعتب علي بعد ذلك بزمن

ثم مضت الأيام فذهبت إليه في بعض الشأن، وكنت قد نشرت قصيدة بجريدة الأهرام بعنوان (الصباح)، فقابلني مقابلة طيبة، وجلسنا نتحدث عن القصيدة، ثم عن الشعر في مصر، ثم قرأ لي قصيدة عنوانها (نجوم السينما) كان يعدها للرسالة، وأهدى إلى كتابه عن الثورة العرابية؛. . . ثم تكررت المقابلات بعد ذلك، واتصلت بيننا أسباب المودة، فكنا نلتقي في أكثر الأيام

نقل فخري بعد ذلك إلى الرمل الثانوية، وتركت أنا الإسكندرية، ثم عدنا فالتقينا في الإسكندرية بعد ذلك بعام، وكنت قد اتصلت بالرسالة، وكان قد بدأ يكتب فيها سلسلة مقالاته عن المقارنة بين الأدبين العربي والإنجليزي، فأثارت اهتمام كثير من الأدباء، وقد أبدى لي الأستاذ الزيات إعجابه بها أكثر من مرة، وكتب إلي فخري يقول في ختام خطاب له - أطلعني على فخري -: (فأستزيدك، ثم أستزيدك، ثم أستزيدك). وكان في نية الأستاذ الزيات طبع هذه المقالات بعد إتمامها، ولكن فخري لم يتمها

ظهرت بعد ذلك مجلة الرواية، وبعد ظهورها بنحو عام وقعت جفوة بين فخري وبين الزيات أدت إلى قطع هذه المقالات، وانقطاع فخري عن الرسالة. . . قابلته بعد ذلك بحين فشكا لي شيئاً من ركود الذهن بعد انقطاعه عن الرسالة؛ وقال لي إنه شديد الخجل لأن الأستاذ الزيات مازال يرسل إليه مجلتي (الرسالة) و (الرواية) في حين أنه لا يؤدي له أية خدمة نظير ذلك. . .

وظهرت في ذلك الحين مسابقة وزارة المعارف في التأليف؛ فعرض علي بعض ما كتبه. وكان - رحمة الله عليه - كثير الشك في الفوز، فطمأنته ورجوته أن يتم ما بدأ، فأتمه - وأظنه فاز بجائزتين -؛ ثم انقطع حيناً عن الكتابة وانصرف إلى القراءة، وكنت ألقاه في ذلك الوقت كل يوم تقريباً، فنمضي سيراً على الأقدام في طريق (الكورنيش)، ويمتد بنا الحديث في الأدب والجدل أحياناً حتى نجد أنفسنا في جهة لم نكن نقصدها؛ وكثيراً ما كان يشغلنا الحديث حتى نقطع في السير مسافات بعيدة دون أن ننتبه؛ فقد كان رحمه الله يؤثر السير على الجلوس؛ وكان شديد النفور من المجتمعات ولا أذكر أنني رأيته مرة في مقهى أو منتدى ولعل ذلك هو السبب في سعة اطلاعه، ووفرة إنتاجه، فكان يقسم فراغه بين التريض والقراءة، والكتابة. والظاهر أن ذلك يرجع إلى طبيعته الهادئة، فقد كان يكره الضجة، ويتجنب الناس. وكان منزله في بقعة هادئة من رمل الإسكندرية، وحتى طفله يبدو لي أنه ورث عنه هذه الميزة، فكان ينفر من الغريب، ويبتعد عن الناس، أذكر أنه تركه معي مرة وذهب لبعض شأنه، فجعل الطفل يصرخ ويبكي ويتملص مني ليجري، وعبثاً حاولت تهدئته ولكنه لم يهدأ حتى عاد والده إلى جانبه مبتعداً عني

ولا أود أن أختم هذه الإلمامة قبل أن أشير إلى دراسة فخري واتجاهه في الأدب؛ فقد تخرج في المعلمين العليا واشتغل بعض عام بالصحافة، ثم اختارته وزارة المعارف في بعثة لها فتخرج في جامعة إكسترا في إنجلترا - وهناك تزوج من زميلة إنجليزية له في الدراسة - فلما عاد اشتغل بالتدريس في المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية وكان فخري - رحمه الله - كما علمت منه مكباً على القراءة من صغره ولا سيما قراءة القديم حتى أوشك أن يستظهر كتباً بأكملها، ويظهر ذلك جلياً في أسلوبه، فتمتاز كتابته بقوة الأسلوب وجزالة الألفاظ. كذلك تبدو في شعره محاولة تقليد القدماء، وقد تأثر في هذا بالبارودي، وكان يحفظ جل ديوانه ومختاراته. وكان يؤثر من الشعراء القدماء أبا تمام وبعض شعراء الجاهلية لاسيما طرفة بن العبيد. كل هذه الدراسات القديمة كان لها أثر واضح في شعره لا يخفى على قارئه، وكان يختار منها اكثر شواهده في مقارنته بين الأدبين العربي، والإنجليزي. وكان يؤثر العقاد على شوقي وحافظ، وكثيراً ما قام بيننا جدال طويل في ذلك. وكان رحمه الله ينظم الشعر في سيره فتراه يغمغم في سيره بكلام لا تستبينه لانخفاض صوته، حتى إذا جلس كتب ما قال، ولا يزال كذلك حتى يتم القصيدة

وهناك ناحية تجب الإشارة إليها هنا وهي ضيق صدره بالنقد، وإن كان سلم منه في الصحف، وكثيراً ما كنت آخذ عليه ذلك. حدث مرة أن عثرت له على بعض أخطاء في نسبة الشواهد، وعلى هنة لغوية في قصيدة له، وكان في ذلك العهد يقضي الصيف بإنجلترا، فانتظرته حتى عاد فنبهته لذلك فغضب مني ودعاني في اليوم التالي وقد جمع لي بعض ما كتب في الرسالة وجعل ينتقد لي بعض المعاني حتى يرد علي بالمثل وقد نشر فخري القسط الأكبر من كتابته بمجلة الرسالة، واتصل في أواخر أيامه بمجلة الثقافة وجعل يكتب بها حتى توفاه الله، وفيما عدا ذلك له متفرقات بجريدة الأهرام والهلال وغيرهما من الصحف هذا غير كتابيه (الثورة العرابية) وقصة (تيس)

رحمك الله يا فخري، وأجمل عزاء الأدب فيك، ولطف بأصدقائك وعارفيك. فقد كنت نعم الأديب ونعم الصديق. . .

هذا بعض حقك علي، أرجو أن تجد لي العذر إن كنت قد قصرت فيه أو أخطأت فإن الحزن يغالب خاطري وذاكرتي كلما أمسكت القلم لأكتب عنك، أو أنا كما يقول شوقي:

رثيتك لا مالكا خاطري ... من الحزن إلا قليلاً خطرْ

سقتك الدموع فإن لم ... يدمن كعادتهن سقاك المطر

أحمد فتحي مرسي